رغم أنّ الثورة السودانية أحدثت تقلباتٍ في النظام السياسي للبلاد، أهمّها، العودة مرة أخرى للسُلطة المدنية، وإنهاء الحكم العسكري الذي اقتطع نحو 50 عامًا عبر ثلاثة انقلابات منذ انفصال السودان عن مصر عام 1956، إلا أنّ التقلبات لم تكن دومًا في صالح المُتظاهرين؛ فالتحول الاستراتيجي الأخير الذي أحدثته الثورة في العلاقة بين قوات «الدعم السريع» -التي كان يتولى قيادتها الفريق حميدتي- والجيش السوداني، منذ كان يجمعهما العداء المُطلق في عهد البشير، بات اليوم يُمثل خطورةً على مسار الثورة، كما تجهر المعارضة علانية بتخوفاتها.

وفي الوقت لا تزال فيه قوات «الدعم السريع» تُحاصر العاصمة الخرطوم، يواجه قادة المجلس العسكري الضباط الغاضبين من الجيش، أو من جهاز الأمن بالإقالة أو المحاكمة عبر اتهامهم بالتخطيط للانقلاب مثلما حدث لرئيس الأركان الفريق أول هاشم عبد المطلب، ضمن سياسة تفريغ الصفوف من المُعارضين. 

الربيع العربي

منذ 4 سنوات
الفريق أول حميدتي.. «تاجر الإبل» الذي أضحى الرقم الأخطر في المعادلة السودانية

صراع الأجهزة السيادية.. من هم أعداء حميدتي في السُلطة؟

كانت التفاهمات التي توصل لها رؤساء الأجهزة السيادية في السودان لترتيب عملية الإطاحة بالبشير هي الوجه الآخر للثورة السودانية؛ فالاجتماعات السرية التي جرت بعيدًا عن أعين البشير بين كل من مدير جهاز الاستخبارات، ومدير الشرطة، ووزير الدفاع، والمفتش العام للجيش، وقائد قوات «الدعم السريع» أفضت في النهاية لإنجاح الاحتجاجات التي استمرت نحو أربعة أشهر، لكنها من جهةٍ أخرى رسمت معادلة جديدة في صراع الأجهزة السيادية بعدما أصبح حميدتي فعليًا المُحرك الرئيس للأحداث وصانعها. 

حميدتي في حضور المبعوث الإثيوبي إلى السودان

قبل 15 عامًا نسج حميدتي قصة صعوده في السُلطة بعيدًا عن الجيش، والحركة الإسلامية، وأضواء العاصمة، حيث استخدمته الحكومة في تجنيد القبائل العربية –ميليشيات «الجنجويد»- في حرب دارفور بدلًا من الجيش النظامي الذي كان فاقدًا لفهم طبيعة الجغرافية المحلية في أرض التمرد، بالإضافة أنّ النظام السياسي لم يشأ دفع الجيش النظامي في مواجهة مع السكان المحليين، لذا عمد إلى دعم «الجنجويد»، وفيما كانت الحكومة تنفي مرارًا دعمها لحميدتي وقواته، كان أمير الحرب يعقد مقابلاتٍ مع وسائل إعلامٍ أجنبية وفي يده هُويات عسكرية لقواته، صادرة عن جهاز المخابرات العسكرية ليؤكد ارتباطه رسميًا بالقوات النظامية.

صعود حميدتي اللافت وقُربه من دوائر النفوذ كان سببًا قي العداء الذي لاحقه من المؤسسة العسكرية عام 2006 بعد مقابلة مع البشير طلب فيها المشاركة في السُلطة، ومنح قواته رتبًا عسكرية، وإعطاء الضوء الأخضر لقبيلته بالتنمية، وهو ما منحه استقلالية مالية عن رواتب الحكومة، وفي عام 2014 استجاب البشير لحميدتي، ووّحد ميليشيات «الجنجويد»، وأطلق عليها قوات «الدعم السريع»، وهو ما أثار حفيظة كبار قادة الجيش الذي رفضوا انضمام «تاجر الإبل» إليهم.

لم تستمر تبعية حميدتي للجيش فترة طويلة، لذلك سرعان ما ألحق البشير تلك القوات بجهاز الأمن، وفي نهاية العام قاد الحزب الحاكم مشروع قانون لتعديل الدستور الانتقالي، والذي أصبحت تلك القوات بموجبه قوة نظامية إلى جانب الجيش والشرطة، ويشير مراقبون إلى تخوّف البشير من أنّ منح مزيد من السُلطة للجيش أو جهاز المخابرات من شأنه أن يُهدد بقاءه، لذا مثّل وجود حميدتي -الذي أعطاه البشير لقب «حمايتي» أي الشخص الذي يحميه- وقواته امتدادًا لـ«قوات الدفاع الشعبي» التي تشكلت من الإسلاميين – على غرار «الحرس الثوري الإيراني»- لتكون قوة رادعة لحماية البشير من انقلاب الجيش المحتمل، وتحسبًا لخيانة مدير جهاز الأمن، صلاح قوش من جهة، والقوة الضاربة في الأرض التي يخشاها المتظاهرون من جهة ثالثة.

وفي الوقت الذي اشتعل فيه صراع الأجهزة السيادية بين الجيش وجهاز الأمن السوداني برئاسة صلاح قوش، لم يسلم حميدتي من الوشاية التي أطاحت به من منصبه باعتباره مستشارًا للأمن في ولاية جنوب دارفور، لكنه ظل بعيدًا عن الحرب الباردة التي قادها الفريق طه عثمان مدير مكتب البشير وخازن أسراره الذي استطاع الإطاحة بقوش عام 2009. قبل أن يقوم جهاز الأمن نفسه بتقديم معلومات انتهت باعتقال طه عثمان بعد اتهامه بتدبير محاولة انقلاب، ليعود قوش بعدها لمنصبه عام 2018، لكنّ حميدتي كان في ذلك الوقت واحدًا من أغنى الرجال في السودان، وأكثرهم نفوذًا، والحامي الرئيس لعرش البشير ضد الأجهزة السيادية وقادة الجيش والمعارضة معًا.

حميدتي وأعداؤه القُدامى.. متى حدث التقارب؟

ساهم حميدتي في إسقاط النظام السوداني بعد أسبوعين من اندلاع الاحتجاجات حين أعلن وقوفه إلى جانب المتظاهرين في تصريح أثار الكثير من الجدل، لكنه ظل في مشهد المراقب للأحداث خلال الصراع الخفي الذي نشب بين الجيش وجهاز الأمن، فبينما هاجم قوش المتظاهرين، واتهم «الموساد» الإسرائيلي بتجنيد عناصر لإثارة الفوضى في السودان، انتهج الجيش سياسة هادئة ومُغايرة بدأت بعدم التعرض للمتظاهرين، حتى بعدما اتسعت دائرة الاحتجاجات، واقتصر الوجود العسكري في الشوارع على حماية المنشآت الاستراتيجية.

مؤتمر صحفي بالخرطوم، للمتحدث باسم المجلس العسكري السوداني

وعقب الإطاحة بالبشير، وجد حميدتي أعداءه الذين حاربوه طيلة 15 عامًا، وحاولوا نزع زيه العسكري، يطالبونه بالانضمام للمجلس الانتقالي في محاولة لإضفاء شرعية على مثلث الحرس القديم المتمثل في (وزير الدفاع ابن عوف، ورئيس الأركان كمال معروف، ومدير المخابرات صلاح قوش)، لكنّ حميدتي أعلن رفضه ليتسبب بعدها فيما يمكن وصفه بالسقوط الثاني للنظام، حيث تغيرت تركيبة المجلس العسكري، وأصبح حميدتي الرجل الثاني فيه بعد الفريق عبد الفتاح البرهان الذي تجمعهما صداقة منذ مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن في عام 2015.

وبحسب محللين، فإن التقارب الذي جمع البرهان وحميدتي ربما جاء كون الاثنين يمثلان امتدادًا لمحور «الرياض أبو ظبي» اللتين أعلنتا حزمة مساعدات اقتصادية بقيمة 3 مليارات دولار، شملت 500 مليون دولار وديعة في «البنك المركزي السوداني»، وقد سمح الجيش لحميدتي بأن يكون الوسيط بين النظام والولايات المتحدة، وهو الدور القديم الذي صنع نفوذ صلاح قوش قبل أن ينتزعه منه رئيس الأركان الأسبق الفريق كمال معروف، والذي آل مؤخرًا لقائد قوات «الدعم السريع».

لكنّ الزيارة الأخيرة التي قام بها الفريق حميدتي إلى مصر مثّلت آخر الحلقات التي كسرها الرجل ضد الرافضين لوجوده في المشهد السياسي، باعتبار أنّ القاهرة كانت من ضمن الرافضين لتصدره المشهد السياسي باعتباره دخيلًا على المؤسسة العسكرية، خاصة أنه يبرز داخل المجلس العسكري صراع مكتوم مع الفريق ياسر العطا، قائد القوات البرية .

وبحسب ما نشرته «الأخبار» اللبنانية، فإن القاهرة رفضت استبدال قوات «الدعم السريع» بالجيش ضمن خطة الرياض- أبو ظبي لما تعتبره الدولتان أن الجيش ركيزة للإسلاميين، لأنّ الرئيس المصري ينظر إلى حميدتي باعبتاره رجل ميليشيات، لكنّ تطورات المشهد السياسي في الخارج، وقرارات الداخل جاءت جميعها حتى الآن في صالح قائد قوات «الدعم السريع» الذي فرض على الجميع.

كيف أصبحت «الدعم السريع» أقوى من الجيش؟

لا يتعامل حميدتي منذ أيام البشير على أنه مسئول في يد الدولة يمكن عزله والإطاحة به، فالشاب الطموح الذي لم يُخفِ تمرده على السُلطة سُرعان ما خاض صراعات علنية تدخل فيها البشير بشكل مباشر لصالحه، ففي عام 2017، كان وزير الداخلية السوداني يرسل استغاثته داخل البرلمان إلى الجيش، لمطالبته بالتدخل لإخلاء منطقة جبل عامر الغنية بالذهب التي يسيطر عليها حميدتي بمساعدة 3 آلاف عنصر أجنبي، ليتدخل البشير بعدها لصالح الرجل الذي يقود القوة الضاربة، وتنتهي القصة باستقالة وزير الداخلية، وهو ما اعتبر إشارة حينها لجميع رجال السُلطة بأن «المساس بحميدتي جريمة لا تغتفر».

وبعد سيطرة حميدتي على جبل عامر؛ المنطقة الأغنى بالذهب صار الرجل أكبر تجار الذهب في السودان بما يمتلكه من مناجم وشركات تجارية فرضت مبيعاتها على الحكومة السودانية، وفي العام نفسه الذي احتكر فيه الصناعة، بلغت مبيعات الذهب 40% من صادرات السودان، إلى جانب تجارة التهريب التي تُتهم قواته بها.

وبعدما تأسست قوات «الدعم السريع» وصارت قوة مُستقلة، أصبح حميدتي فعليًا «رجل الظل» الأقوى في السودان بسيطرته على إقليم دارفور، واحتكاره مناجم الذهب، وجمعه سُلطة مُطلقة لا يمكن للبشير الاستغناء عنها، وهو بذلك في قواته قبلية النزعة يتفوق على الجيش الذي يجمع بداخله أيدلوجيات متعددة ساهمت في صناعة الانقلابات.

ومن خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميًا، أصبح حميدتي يتحكم بأكبر ميزانية سياسية للسودان، في ظل منع الحكومة من محاولة التنقيب عن الذهب في جبل عامر، وعلى جانبٍ آخر يمتلك حميدتي عبر شركة «الجنيد»، التي يديرها أقاربه، مجموعة ضخمة تغطي الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، دون مساءلة. 

وبعدما طورت قوات «الدعم السريع» اقتصادها الذاتي وأصبحت لا تعتمد على نظام الدولة البيروقراطي في صرف الأموال، أصبح حميدتي قوة أكبر حين شاركت قواته في حرب اليمن، وبعدما حققت قواته انتصارات ملحوظة، عقدت أبوظبي والرياض صفقة موازية معه لإرسال قوات أكثر للقتال في جنوب اليمن وعلى طول مناطق المواجهات وخاصة في مدينة الحديدة الساحلية.

وعبر وثائق وزارة العدل الأمريكية، برز ملمح آخر يوضح طبيعة العلاقة الجديدة التي جمعت قوات «الدعم السريع» بالجيش، فقد قام حميدتي ممثلًا عن المجلس العسكري بتوقيع اتفاقية بقيمة 6 مليون دولار مع شركة «ديكنز آند ماديسون» الكندية، التي يترأسها ضابط مخابرات إسرائيلي سابق، بهدف تلميع صورة المجلس العسكري لدى المجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، ومحاولة ترتيب لقاء بين حميدتي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

دولي

منذ 3 سنوات
من هو ضابط المخابرات الإسرائيلية السابق الذي تتعلق به آمال حميدتي وحفتر؟

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد