تنتشر في فصل الصيف المهرجانات والحفلات الغنائية التي تقام في الدول العربية، وتعرف إقبالًا من طرف المواطنين الذين ينتهزون الصيف باعتباره فصلًا للراحة والإجازات، فيقبلون على هذه الفعاليات بكثافة.
لكن صيف 2018 كان مختلفًا هذه المرّة في عدّة بلدان عربيّة؛ إذ شهد احتجاجات ومظاهرات ومطالب اجتماعيّة وسياسيّة على وقع هذه المهرجانات الغنائية، باعتبارها استنزافًا للأموال العامة في الوقت الذي يعاني فيه المواطنون من مشاكل في التنمية التي اعتبروها أولويّة تسبق هذه المهرجانات، خصوصًا في ظلّ الأزمات الاقتصاديّة التي تعيشها بلدانهم، وتزامنًا مع عدة مهرجانات، انطلقت هذا الصيف احتجاجات في دول كالأردن والجزائر وتونس والمغرب، فيما حملت المهرجانات التي أقامها النظام السوري رسائلها السياسية المعتادة.
النظام السوري..المهرجانات لإعلان «النصر»
في هذا الصيف المزدحم بالأحداث، توسّعت مساحة الاحتفالات في سوريا، بعد أن وفّرت وزارة ثقافة النظام ميزانية ضخمة لـ«تعميم الفرح» بحسبها، أضيف لها مناطق جديدة كانت تخضع قبل شهور للمعارضة السورية، وأهمها ما يقع في محيط العاصمة دمشق و المدن المركزية كحمص وحلب.
منطقة بلودان والزبداني واحدة من تلك المناطق التي وضعها النظام على رأس القائمة في مهرجانات هذا الصيف، وشهد مهرجان بلودان السياحي رفع أكبر علم للنظام السوري. وإمعانًا في فرض الطابع الموالي؛ جاء المهرجان تحت عنوان «الوفاء لقائد الوطن والجيش العربي السوري»؛ إذ تبدأ هذه الاحتفالات بالنشيد العربي السوري، ودقيقة صمت على «أرواح الشهداء»، بحسب وصف المهرجان، بالإضافة إلى إطلاق النظام لمهرجانات جديدة بعد الثورة السورية كمهرجان «الشام يجمعنا» الذي نظمت وزارة السياحة السورية قبل ثماني سنوات.
وحرص النظام على أن يستمر «معرض دمشق الدولي» وهو من أقدم المعارض في الشرق الأوسط، بعد أن توقف عامًا واحدًا بسبب الأحداث السورية، ويحضر هذه المهرجانات الضباط والجنود والأهالي في محاولة لإعادة الروح للحياة الطبيعية إلى تلك القرى والبلدات.
يقول مواطن سوري يدعى وسيم جيرودي: «العالم كانت تخاف تفوت وتطلع، هلا بفضل هالانتصارات اللي صارت الحمد لله الوضع أفضل بكتير». ويسلّط النظام الضوء على هذه الفعاليات بشكل مكثف ليصورها إعلاميًا باعتبارها دليلًا على «انتصار الجيش على الإرهاب»، هذا الانتصار الذي يستوجب «احتفالات النصر».

المطربان السوريان المواليان للنظام وفيق حبيب وعلي الديك – المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي
وكان جلّ من يشارك في هذه المهرجانات، فنّانون لبنانيون استخدمهم الأسد للتأكيد بأن البلاد استعادت عافيتها؛ فالنظام لا يتوانى عن دعوة كبار المطربين اللبنانيين، منهم فيروز وجوليا بطرس وملحم زين، لكن بعض هؤلاء يرفضون المشاركة بداعي الأوضاع الأمنية في سوريا.
يقول رئيس قسم الميديا في موقع «المدن» ندير رضا: «استضافة فنانين لبنانيين في سوريا، هي جزء من ملحقات إعادة الإعمار بالنسبة إلى النظام السوري. يجد النظام في هؤلاء فرصة لبيع الفرح، وتعميم افتعاله في شوارع عاصمته، لجذب السياح أولًا، وهم في معظمهم لبنانيون، وثانيًا للتأكيد بأن ذيول الحرب تم تخطيها، وعادت دمشق الى سابق عهدها».
ويضيف: «إذا كانت سنوات الأزمة الماضية جذبت فنانين تربطهم بدمشق علاقة تأييد، فإن المرحلة المقبلة ستشهد تصاعدًا في عداد المغنين اللبنانيين المتوجهين الى سوريا وكانوا على (حياد سياسي)، أو بالأحرى، ينتظرون نتائج الرياح على مسار السفينة السورية.. الفن لم يعد رسالة. الفن يلتصق بمن يظنه قويًا، ومن يفتح جَيبه».
في الجزائر.. سكّان الجنوب لا يجدون الكهرباء والسلطة تردّ بإقامة الحفلات
ينتشر بين الجزائريّين مثل شهير يقول: «كي تَشْبع الكرش تقول للرّاس غنّي»، بمعنى أن الشبع يؤدي بالمرء إلى تذوّق الطرب والفن، ولعلّ هذه الفلسفة هي ما أدّت إلى الاحتجاجات التي انتشرت في عدّة مدن ضد إقامة المهرجانات الغنائية هذا الصيف، في الوقت الذي يعاني فيه مواطنو هذه المناطق من تكرار انقطاع الكهرباء، ومن شح المياه، ومن فقدان الكثير من الخدمات الأساسية، خصوصًا أن الاحتجاجات انطلقت من الجنوب الصحراوي المعروف بحرارته الشديدة.
فبدءًا من مدينة ورقلة، ثم الوادي وصولًا إلى ولاية سيدي بلعباس، انتقلت احتجاجات تطالب بوقف ومقاطعة الحفلات الغنائية، وفرضت هذه الاحتجاجات مطالب إلغاء بعض الحفلات، كما حدث في ولاية بشار (جنوب غرب)، ووادي سوف (جنوب شرق)، والجلفة (وسط)، وبجاية (شمال شرق). وفي ولاية ورقلة في الجنوب الجزائري طالب المحتجون بتحسين ظروف معيشتهم بالأموال التي تهدر في المهرجانات حسب المحتجين، وتخصيصها لتنمية الجنوب الجزائري، وتحسين ظروفهم المعيشية. وتعددت وسائل الاحتجاجات التي ترافقت مع حملة (#خليه_يغني_وحدو)، وكان أبرزها تنظيم الصلاة الجماعية بالقرب من الحفلات.
هذه الاحتجاجات أثارت انتقاد التيار العلماني في الجزائر الذي أعرب عن تخوّفه من عودة ما يسميه بـ«الماضي المتشدد» في الجزائر، ففيما رأي المؤيدون لهذه الاحتجاجات أنها دليل على وعي لدى المحتجين من خلال نضالهم من أجل حياة كريمة، أكد العلمانيون أن منع تنظيم حفلات غنائية خطر يتيح إمكانية عودة المتشددين، كذلك كان موقف الحكومة الجزائرية المتمثل في موقف وزير الثقافة الجزائري، عز الدين ميهوبي، الذي رد على مطالب المحتجين بالقول: إن «الحكومة لن تسمح بحدوث تصحّر ثقافي وفني في الجزائر».
وتنفق الحكومة الجزائرية على المهرجانات التي حملت شعار: «لنفرح جزائريًا» من خزينتها، ولا تعتمد على الشركات الربحية في ذلك، لذلك قال ميهوبي بأن ما تم تخصيصه كميزانية لمهرجانات والأنشطة الفنية هذا العام هو 430 مليون دينار (نحو 3 ملايين ونصف مليون دولار أمريكي)، وحسب ميهوبي فإن «هذا المبلغ لا يمثل سوى 10% مما كان يصرف في وقت سابق على مختلف الفعاليات والأنشطة الفنية».
يقول الخبير الاقتصادي كمال رزيق أن «ما تنفقه الحكومة الجزائرية على المهرجانات الفنية الصيفية هو نوع من أنواع التبذير وسوء التسيير للمال العام، خاصة مع الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد منذ سنة 2014». ويضيف رزيق لـ«أصوات مغاربية»: «الوزير تحدث عن ميزانية وزارة الثقافة، لكن لم يكشف ما أنفقته الجماعات المحلية والصناديق الولائية على هذه الأنشطة والفعاليات؛ هناك أموال ضخمة يتم إنفاقها محليًا، لكن السلطات ترفض الكشف عنها».
مهرجانات الأردن.. رقص على إيقاع البراميل المتفجرة السورية
في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، أوقدت وزيرة الثقافة الأردنية، لينا عناب، شُعلة الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان جرش الأردني الذي يكلّف مليون دينار أردني حسب بعض التقديرات، ولا يأتي بأي عوائد مادية مباشرة على الإطلاق.
وقبيل إطلاق المهرجان، خرجت احتجاجات تستنكر السماح للمطربين والمطربات السوريين بالدخول إلى الأردن والمشاركة في المهرجان، بينما الحكومة الأردنية حينئذ تمنع دخول اللاجئين السوريين الذي هربوا من المعارك الشرسة في مدينة درعا جنوبي سوريا، وطالب النشطاء الأردنيون بإلغاء المهرجان، لكن هناك من برر أهمية إقامة المهرجان بالقول: «ما يحصل في دول الجوار يدفعنا إلى عقد مهرجان كهذا بالبلد، فبينما هناك دول في الجوار تعيش الحرب والكوارث، نحن نعمل على رفع قيمة الفن والثقافة».
وفيما ساهمت الظروف المادية الصعبة للأردنيين في انخفاض التفاعل العام مع المهرجان الذي يُقام في مدينة جرش الأثريّة منذ عام 1983، سرعان ما استهجن هؤلاء بشدة مشاركة الفنانة اللبنانية جوليا بطرس في المهرجان، وذلك لارتباطها بعلاقة صداقة مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، وقد وصل أمر بطرس إلى أن أهدت الأسد أغنية عام 2012 بعنوان «أطلق نيرانك لا ترحم»، لتأتي كلمات الأغنية كتحريض للأسد على قمع الثورة السورية بقوة السلاح.
وقال أحد المواطنين الأردنيين، رافضًا ذكر اسمه: «أنا أرفض المواقف والمشاعر المحايدة تجاه أشخاص تدعم وتقف مع التشبيح وفاعليه، أنا أرفض أن أكون مع اللا إنسانية والقتل والمذابح لشعب من أجل غاية في العقل الدموي لمرتكبيه، ليس هنالك مبرر أخلاقي للوقوف مع بشار ومؤيديه ومحبيه ومساعديه في جرائمه الدموية»، لكن رغم الاحتجاجات الكبيرة التي طالبت بمنع إقامة حفل بطرس، إلا أنه تم أمام مدرج يتسع لـ8 آلاف شخص، وشارك فيه 100 عازف من أعضاء الأوركسترا الفيلهارمونية الأرمنية.

جوليا بطرس في جرش (المصدر : الأناضول)
وقبل أن يخرج الأردنيون من ضجة الاحتجاج على مشاركة بطرس، دخلوا في احتجاج آخر إثر أنباء عن تنقّل المطربة الإماراتية أحلام داخل الأردن بطائرة عسكرية، وطرحوا سؤالًا حول من يتحمل تكلفة هذا النقل، وردًا على حالة الغضب تلك اضطرت القوات المسلحة الأردنية للرد، وذكرت في بيان خاص لها أنها «كانت الرحلة مقررة مسبقًا إلى جنوب المملكة، وبالتحديد لإعادة وزير الداخلية ومدراء الأجهزة الأمنية من جولتهم الأمنية إلى حدود منطقة المدورة محافظتي معان والعقبة (جنوبًا)، كمحطة أخيرة بعد سلسلة لقاءات أمنية لهم ضمن المنطقة الجنوبية من المملكة»، وتابع البيان: «هذه الرحلة تزامنت مع طلب استئجار للطائرة لنقل الفنانة أحلام، فقط برحلة الذهاب، وتقرر الموافقة على نقلها في رحلة الذهاب، ولم تنتظر الطائرة عودتها ضمن برنامج خاص بها».
يُذكر أن الأردن شهد مظاهرات حاشدة ضد غلاء المعيشة والضرائب في يونيو (حزيران) الماضي انتهت بإقالة رئيس وزراء.
في تونس.. أجور فلكية للفنانين مقابل نقص في الأدوية
مقابل الغناء لساعتين على مسرح مهرجان قرطاج الدولي، حصلت الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي على 400 ألف دينار تونسي (160 ألف دولار) ليلة الخامس عشر من أغسطس (آب) الحالي.

الفنانة ماجدة الرومي – لمصدر: الأناضول
هذا المبلغ الضخم أحدث صدمة عند بعض التونسيين، الذين قالوا: إن هنالك قضايا أولى لصرف بتلك الأموال التي تم صرفها لماجدة الرومي «نظير تكرار أغانيها القديمة على المسرح» حسبهم، خصوصًا في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس. وبالمجمل وقبل تسريب المعلومات حول أجر الرومي وكاظم الساهر الذي سيحصل على نفس المبلغ، تعالت الأصوات التي طالبت بمقاطعة المهرجانات بتونس، والتي ستستنزف مبالغ كبيرة في ظل انهيار احتياطي العملة الصعبة في تونس، والذي كان سببًا وراء أزمة نقص في الأدوية مؤخرًا. يقول أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد: «400 ألف دينار في جيب ماجدة الرومي في قرطاج، ويتعذر استيراد أدوية ضرورية بوجودها تتحدّد حياة التونسيين».
ويرى التونسيون أن المهرجانات الصيفية التي تجاوز عددها 200 مهرجان تستنزف ميزانيات ضخمة من الدعم الحكومي، وتتسبب في إهدار لمال العام، وإهدار الاحتياطيات من النقد الأجنبي الذي يعاني نقصًا حادًا، ويصف التونسيين ذلك بأنه: «عمل تجاري غوغائي، يتمّ تمويله بالعملة الصعبة هذه الأيام، ويعطي صورة عن دولة غنية وكريمة إلى درجة التبذير على الفنانين، وفقيرة تتسول القروض حتى أنها لا تقدر على الوفاء بالتزاماتها للمتقاعدين».

الفنان العراقي كاظم الساهر – المصدر: موقع الإذاعة التونسية
كما تذهب المصادر التونسية للتأكيد على أن بعض حفلات المهرجانات فشلت ولم تملأ كراسيها بسبب سوء الإدارة، التي دعت فنانين «لا رصيد فني لهم» حسب المصادر، ففي مهرجان قرطاج حضر عشرات فقط لمشاهدة عرض فنانَيْن من مصر، كما فشل عرض للفنانة التونسية يسرى المحنوش في مهرجان سوسة الدولي واعتبره قطاه من الجمهور عرضها لا يليق بتاريخ المهرجان، فيما ألغي مهرجان سعيد بوبكر في مدينة المكنين في الساحل التونسي، وكانت ميزانية المهرجان ستكلف 45 ألف دينار تونسي (أي حوالي 20 ألف دولار أمريكي)، بسبب فشل المهرجان في تسويق تذاكر الحفل، إذ لم يبع منها إلا تذكرتان.
يُذكر أن تونس شهدت مظاهرات واحتجاجات حاشدة مطلع السنة الجارية بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي تشهدها، وضد غلاء المعيشة.