منذ بدأت الحرب في اليمن قُتل نحو ربع مليون شخص، وخسرت البلاد مكاسب 20 عامًا من التنمية، وحوصر 80% من السكان بين الجوع والمرض في أكبر أزمة إنسانية في العالم؛ يقول أحد ضحايا الحرب التي أعلنتها السعودية في مارس (آذار) من العام 2015 لإنقاذ اليمنيين كما وعدت: «فقدتُ أحد أطفالي بسبب الجوع، والآن أخشى خسارة آخر»، يُضيف الأبُ لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية: «بالكاد أستطيع شراء قطعة خبز قديمة.. لهذا السبب يموت أولادي أمام عيني».
وبينما مات نحو 85 ألف طفلٍ يمني من سوء التغذية، ما زال هناك مليونان آخران يُصارعون البقاء في المستشفيات والمُخيّمات، ما يرسم كُرهًا لعقود ضد السعودية والإمارات، فيما يشبه الاجتياح العراقي للكويت عام 1990؛ فرغم مرور نحو ثلاثة عقود على الحرب التي استمرت 40 يومًا فقط، ما زالت تبعات الحرب حاضرةً إلى اليوم في مُخيلة الكويتيين عن جارهم العراق، حتى بعدما أقر بدفع تعويضات الحرب البالغة نحو 47 مليار دولار، وهي في نظرهم لا تُمحو أثرًا ولا تكفي اعتذارًا.
5 سنوات من الكراهية.. ماذا فعلت السعودية والإمارات باليمن؟
يقول الصحافي اليمني منذر فؤد لـ«ساسة لبوست»: «الحربُ أثّرت كثيرًا في الجيل الناشئ نفسيًّا واجتماعيًٌا وجسديًّا، وبالنسبة للدور السعودي والإماراتي في اليمن، فهذا الدور الوظيفي ضاعف من معاناة اليمنيين، وخلق حالة نقمة وكراهية لدى المواطن اليمني تجاه هاتين الدولتين، اللتين كان يفترض أن يكون دورهما إيجابيًّا في دعم تطلعات اليمنيين».
ويُضيف: «هذا الجيل سيحتاج إلى وقت طويل للخلاص من الصدمات النفسية التي أفرزتها الحرب، وهذا كله يؤثر نفسيًّا في تفكير الجيل الذي سيصبح أكثر قسوة في التعامل كانعكاس طبيعي لقسوة البيئة التي تحتضنهم، وما يدور فيها من مآسٍ ومعارك لا تتوقف».
وتُتهم السعودية والإمارات بأنهما كانا طيلة تسع سنوات ضد الشرعية اليمنية، بداية بمحاولة إجهاض ثورة فبراير (شباط) عام 2011 عبر «المبادرة الخليجية» التي سمحت للرئيس الراحل علي عبد الله صالح بالتنازل عن الحكم دون محاسبته لعدم السماح للإخوان المسلمين بالوصول للرئاسة، وبعد عامٍ من الثورة وصل الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى السُلطة، لكنّه ظلّ مُقيّدًا بأنصار الرئيس المخلوع الذي تحالف مع الحوثيين من خلال دعمهم بقوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة التي تدين له بالولاء، والتي ساعدت الحوثيين في السيطرة على العاصمة صنعاء في أواخر ديسمبر (كانون الأول) عام 2014، مع إجبار الرئيس على الفرار إلى عدن.
واللافت أن السعودية لم تتدخل لإنقاذ الشرعية اليمنية طيلة أربعة أشهر، حتى تمكّن عدوها الشيعي -الحوثيون- من هزيمة عدوها السُني –«حزب الإصلاح» المحسوب على جماعة «الإخوان المسلمين»- وهزيمته في معقله بصنعاء، وفي 26 مارس (آذار) أعلنت السعودية تشكيل التحالف العربي الذي ضم تسع دول عربية لاستعادة الشرعية اليمنية، من أيدي جماعة الحوثي التي تسيطر سيطرة كاملة على 12 محافظة من أصل 22 (صنعاء، عمران، ذمار، صعدة، أجزاء من تعز، إب، الحديدة، ريمة، المحويت، حجة، البيضاء، الجوف).
وسُرعان ما اصطدمت حسابات المملكة السياسية بالعسكرية؛ فبعدما استطاع جيشها المدعوم من القوات الشعبية تحرير أماكن واسعة دون خسائر تُذكر، حتى وصلت إلى قرية نهم التي تبعد من صنعاء 20 كيلو مترًا فقط، وهي المحطة ما قبل الأخيرة لتحرير عاصمة الحوثيين، توقفت عملياتها العسكرية، كما رفضت أيضًا تقديم الدعم العسكري لقوات المقاومة؛ لأنه في حالة طُرد الحوثيون من صنعاء، فسيستفيد «حزب الإصلاح» المحسوب على «الإخوان المسلمين» من ذلك، والسعودية في ذلك الموقف في مواجهة اثنين من أعدائها، فهي إما أن تطرد الحوثيين وتفقد اليمن بعد سيطرة «حزب الإصلاح»، وإما أن تطيل أمد الحرب دون أن ينتصر أحد.
وفي الوقت الذي كانت تُتهم الرياض باحتجاز الرئيس اليمني هادي، كانت الأحاديث تدور حول تحالف السعودية مرة أخرى مع علي عبد الله صالح، وتضمنت الصفقة –بحسب تسريبات– أن تضمن له السعودية والإمارات العودة للحكم مرة أخرى، مقابل أن يقطع الطريق على الحوثيين والإخوان معًا، وبعدما نجحت جماعة الحوثي في مباغتة صالح واغتياله، رفض نجله العودة إلى اليمن لاستكمال الصفقة التي أودت بحياة أبيه؛ لتضطر السعودية والإمارات للعودة مرة أخرى إلى «حزب الإصلاح اليمني» الذي دُعي في زيارة رسمية إلى الرياض، وظهر قادته جنبًا إلى جنب مع الأمير محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي الأمير محمد بن زايد، لكنّ نتائج اللقاء فشلت في بناء تحالف استراتيجي يحفظ كل المصالح.
تعقدت حرب اليمن مرة أخرى بانضمام تنظيم القاعدة إلى صفوف التحالف، كما جنّدت الإمارات نحو 250 من المقاتلين للانضمام إلى قوات «الحزام الأمني» التابعة لها في الجنوب، بحسب ما كشفته وكالة «أسوشيتد برس» الأمريكية، بعدما دخلت الحرب عامها الخامس في ظل أكبر أزمة إنسانية في العالم وتباطؤ العمليات العسكرية التي أظهرت الحوثيين قوة ضاربة في الأرض، واضطرت الرياض في مايو (أيار) العام الماضي إلى شنّ أكبر عملية عسكرية لتحرير مدينة «الحديدة» اليمنية في الساحل الغربي، لكنها انتهت بتوقيع اتفاقية «ستوكهولم» والتي أصبح الحوثيون بها طرفًا أساسيًّا في المفاوضات.
يقول الصحافي اليمني عبد الكريم سُلطان لـ«ساسة بوست»: «السعودية تحالفت مع الجميع عدا الانتصار للشرعية اليمنية، وتنازلت عن كثير من سياستها في اليمن بداية من دعوة «حزب الإصلاح» للتفاوض، نهاية إلى دعم انقلاب عدن والتفاوض مع الحوثيين»، يُضيف: «الجيل الناشئ في اليمن بحكم وقوعه تحت تأثير الحرب يعرف جيدًا ما صنعته إيران والإمارات والسعودية في اليمن، ولن ينسى هذه المرحلة من التاريخ المليئة بالتآمر والخذلان».
بعيدًا عن أطراف القتال.. الأرقام المرعبة للحرب
عبر صفحات صحيفة «الحياة اللندنية» المملوكة للأمير خالد بن سُلطان، تروي الصحفية الرواية الرسمية للحرب اليمنية بأنها مثلت قبلة الحياة التي أنعشت جيوب مليون ونصف يمني مقيم في السعودية –الجار الذي طمح اليمنيون في زيارته- وانتشلتهم من الفقر، وعبر عنوان: «اليمنيون في السعودية: أطربوا وأطعموا وتاجروا»، تروج المملكة أنها على رغم تزايد أعداد اليمنيين في أراضيها بطرق غير مشروعة، فإنها تتغاضى لتعديل أوضاعهم، والمفارقة أنّ السعودية طردت العام الماضي نحو 17 ألف يمني إلى بلدهم التي تعاني من أسوأ أزمة إنسانية في العالم ضمن سياسة تقليل أعداد الوافدين، وعلى جانب آخر، فقد تسببت الحرب في نزوح 4 ملايين يمني.
وبحسب التقرير الذي أعدته الأمم المتحدة، فإن السعودية قصفت المدنيين عبر 90 غارة جوية وأسلحة أمريكية، مستشفيات، ومنازل، وحافلات أطفال، وهو الفعل نفسه الذي ارتكبه الحوثيون الذي استهدفوا المدنيين بنيران المدفعية الثقيلة، وبينما كان الحوثيون يزرعون الألغام الأرضية في جميع المحافظات التي تقع تحت سيطرتهم؛ بهدف عرقلة تقدم قوات التحالف، كانت السعودية والإمارات تستخدمان الذخائر العنقودية المحرمة دوليًّا.
وسبق للأمم المتحدة أن وجهت اتهامًا مباشرًا للتحالف العربي بالتسبب في أكبر أزمة إنسانية في العالم بتعريض نحو 14 مليون شخص لخطر الموت بسبب عرقلة المساعدات الإنسانية، وتأخير وتحويل ناقلات الوقود، ومنع البضائع من الدخول إلى الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون، كما منعت السعودية وصول الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية في المستشفيات ولضخ المياه إلى المنازل، الحرب أيضًا أصابت نحو مليون ونصف يمني بمرض الكوليرا.
البعد الاجتماعي الذي أفرزته الحرب، يُشير إليه الصحافي اليمني منذر فؤاد لـ«ساسة بوست» قائلًا: «الحوثيون جندوا الأطفال مثلما فعل السعوديون تمامًا، ويُمهيد حاليًا لإعادة قانون التجنيد الإلزامي لخريجي الثانوية العامة، ما يعني تجنيد عشرات الآلاف من الفتيان، والزج بهم في حرب عبثية؛ خدمة لتوجهات الحوثيين».
واللافت أنّ الأمين العام للأمم المتحدة أصدر «قائمة العار» السنوية للانتهاكات ضد الأطفال في النزاعات المسلحة، وتضمنت الحوثيين، و«تنظيم القاعدة»، والميليشيات الموالية للحكومة، والقوات اليمنية المدعومة من الإمارات، واستثنى التقرير السعودية، وسط اتهامات بعدم الشفافية.
من جهة أخرى اتهمت الأمم المتحدة السعودية بأن الحرب في اليمن عرّضت 3 ملايين امرأة وفتاة لخطر العنف، وزادت من معدلات الزواج القسري، والعنف الأسري والجنسي تحت مظلة انعدام الحماية القانونية للمرأة، والتفكك الأسري الذي بات يشهده اليمن زادت وتيرته عقب عمليات النزوح المستمرة في الداخل والخارج، إذ تسببت معركة الحديدة وحدها في نزوح 350 ألفًا.
التأثير المستقبلي للحرب.. كيف يتحدث اليمنيون في البيوت الصغيرة؟
بعيدًا عن وطن الحرب، يقول «ع. ص» شاعر يمني من صنعاء مُقيم في المملكة السعودية لـ«ساسة بوست»: «في الغربة لا نفرح لا برمضان ولا بالعيد، كل أيامنا بائسة ومهزومة الملامح، نعيش الروتين الممل نفسه»، وبسؤاله عن كيف يرى بلاده بعد الحرب أجاب: «بعيدًا عن ضجيج السياسة وصخب الحرب، أصبحت حياتنا البائسة هي جزء من السعادة، وحين تنتهي الحرب سنبقى منقسمين حتى في أحلك الظروف».
وفيما تظهر الصورةُ القاتمة على التلفاز، ناقلة أخبار الحرب في انقلابٍ قامت به جماعة عبد الملك الحوثي على الحكومة الشرعية التي استغاثت بالتحالف العربي؛ فإن الواقع المُمتد في مساحةٍ تَربو على نصف مليون كم مربع يحكي صراعاتٍ خفية توّلدت من رَحم الصراع الكبير، وأخطرهم تعزيز صورة الكراهية بين أبناء الشعب الواحد.
فقبل الانقلاب الذي قامت به قوات «الحزام الأمني» الموالية للإمارات في عدن، تعرض عدد من السكان لأعمال تضييق وترحيل بحق أبناء المحافظات الشمالية الموجودين فيها، حيث تبرز مخاوف من العودة لما قبل عام 1990، حين كان اليمن مُقسمًا إلى دولتين شمالية وجنوبية، وهو السيناريو المعلن الذي بات يتبناه الحوثييون الذين يسيطرون على صنعاء، والمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي فشل مؤخرًا في إسقاط عدن التي سيطر عليها أيامًا معدودات.