على مدار التاريخ الإنساني احتاج البشر إلى الشعور بالانتماء، والحب، والقبول الاجتماعي، لكن يبدو أنه أينما ظهرت الحياة الاجتماعية ظهرت معها مفاهيم الرفض الاجتماعي، والنبذ، والحرمان، بوصفها عقوبة؛ فقد عاش الإنسان منذ فجر التاريخ في جماعات ليضمن لنفسه السلامة والقدرة على البقاء؛ إذ كان رفض المجموعة للإنسان القديم يكلفه حياته.
لذا فقد أصبح الخوف من الرفض صفة إنسانية متأصلة بعمق في التركيبة النفسية للبشر، حسب علم النفس التطوري، وأحد التفسيرات لاستمرار الخوف من الرفض إلى اليوم، ولسوء الحظ، لا يستطيع البشر تجنب الرفض، فالحياة الاجتماعية والعلاقات تفرض علينا اختبار الرفض في مرحلة ما من حياتنا، سواء كان ذلك من أجل وظيفة، أو علاقة عاطفية، أو صداقة، لكن يظل الرفض العاطفي أحد أكثر التجارب إيلامًا.
لماذا يؤلمنا الرفض العاطفي؟
أولًا: الشعور بالقبول احتياج إنساني
تدفع الرغبة في القبول الكثيرين إلى البحث عن علاقات مستقرة وطويلة الأمد مع الآخرين، كما أنها تُحفِّز على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية المختلفة، ووفقًا لتسلسل «إبراهام ماسلو» الهرمي للاحتياجات الإنسانية، والذي يعرف باسم «نظرية الدوافع الشخصية» فإن الرغبة في الشعور بالانتماء، والقبول، والحب، تُعد إحدى الاحتياجات الرئيسة للبشر التي تقع في مركز الهرم بوصفها جزءًا من الاحتياجات الاجتماعية.
الرفض العاطفي
وتتوسط الرغبة في القبول الاجتماعي الاحتياجات الفسيولوجية والحاجة إلى تحقيق الذات والشعور بالتقدير، ويُشير ماسلو إلى أن الحاجة إلى الشعور بالقبول والحب تجعل البشر يشعرون وكأنهم جزء من شيء أكبر وأكثر أهمية من أنفسهم، بالإضافة إلى أنها تدفعهم إلى تجربة القبول من خلال الحب، وتكوين العلاقات العاطفية، والصداقة، والعلاقات الأخرى.
ثانيًا: أدمغتنا مصممة للاستجابة بهذه الطريقة
يتصرف الكثيرون وفقًا لاحتياجهم النفسي للشعور بالقبول والحب لدرجة أنهم قد يفقدون هويتهم الخاصة تحت سطوة الرغبة في القبول من الطرف الآخر، لكن عندما تُقابل هذه الرغبة العارمة في القبول بالرفض يتأذى الشخص للحد الذى يشعر معه بالألم الجسدي؛ إذ يبدو أن الرفض العاطفي يُنشِّط نفس المناطق في الدماغ التي ينشطها الألم الجسدي.
وفي هذا السياق أشارت دراسة نُشرت في مجلة علم النفس الأمريكية إلى أن هناك مسارات محددة في الدماغ تطلق بعض مسكنات الألم الطبيعية (المواد الأفيونية) كرد فعل تلقائي عندما يُعاني الفرد من ألم الرفض العاطفي، تمامًا كما يحدث عند الشعور بالألم الجسدي.
الدماغ البشري
واختبر الباحثون القائمون على الدراسة صحة فرضية أن الرفض العاطفي يُحاكي الألم الجسدي بعد أن أعطوا بعض المشاركين في الدراسة عقار «اسيتامينوفين» (تايلينول)، وأعطوا البعض الآخر دواءً وهميًا قبل مطالبتهم بتذكر إحدى تجارب الرفض العاطفي المؤلمة التي مروا بها في السابق، وبالمقارنة مع المجموعة التي تناولت الدواء الوهمي، فإن المتطوعين الذين تناولوا الدواء الحقيقي شعروا بنوبات أقل من إيذاء المشاعر.
وجرى دعم صحة هذا الفرض أيضًا من خلال دراسة الرنين المغناطيسي الوظيفي، والتي كشفت أن الأشخاص الذين تناولوا عقار «اسيتامينوفين» يوميًا لمدة ثلاثة أسابيع كان لديهم نشاط أقل في مناطق الدماغ المرتبطة بالألم عند تذكرهم لتجربة الرفض العاطفي المؤلمة التي تعرضوا لها، على عكس المشاركين الذين تناولوا دواءً وهميًا.
ثالثًا: الرفض العاطفي في الجينات
تطور الشعور بالألم الجسدي نتيجة للرفض العاطفي كآلية بيولوجية نفسية، لتنبيه البشر الأوائل الذين كانوا معرضين لخطر النبذ من القبيلة التي ينتمون إليها، ويوضح الطبيب النفسي جاي ونش في مقال له على موقع «سيكولوجي توداي» أن التهديد بالرفض في مجتمع القبيلة قديمًا أدى إلى تشجيع الفرد على تعديل أي سلوك إشكالي لتجنب المزيد من الرفض من أعضاء القبيلة، إذ إن الأشخاص الذين كانوا قادرين على تجنب المزيد من الرفض كانوا أكثر حظًا في البقاء على قيد الحياة، وقد جرى تمرير ذلك جينيًا لنا عبر الأجيال المختلفة.
رابعًا: الرفض يُغير كيمياء الدماغ
الدخول في علاقة عاطفية يحفز الدماغ على إفراز هرمونات مثل هرمون «الدوبامين» (هرمون السعادة) وهرمون «الأوكسيتوسين» (هرمون الحب) وهرمون «الكورتيزول» و«الفينثيلامين»، والتي تُشعر الأشخاص بالحب والسعادة، وتجعلهم أكثر تعلقًا بالطرف الآخر.
وتُشير إليسا روبين طبيبة ومستشارة علاقات عاطفية في مقالٍ لها عن «التغيرات البيولوجية التي تحدث في الجسم نتيجة الشعور بالرفض» إلى أن الانفصال والشعور بالرفض العاطفي من جانب الطرف الآخر يُغير من كيمياء المخ ويدفع الدماغ إلى التوقف عن إفراز هرمون السعادة وهرمون الحب ويحفزه على إفراز هرمون «الابينفرين»، فتزيد معدلات التوتر والقلق ويرتفع ضغط الدم ومعدل ضربات القلب فتبدأ استجابة الهروب أو القتال، والتي يجري تنشيطها باستمرار ويقع الشخص فريسة للإجهاد المزمن.
خامسًا: ضبابية الدماغ
لا تُعد ضبابية الدماغ حالة طبية في حد ذاتها، لكنها بحسب موقع «هلث أن للصحة والطب» نوع من الخلل الوظيفي المعرفي يشمل مشكلات في الذاكرة والقدرة على التركيز وأداء المهام المختلفة، وكأن الشخص مصاب بالإرهاق العقلي.
ويُشير كالي إستس، طبيب وخبير بالصحة العقلية، إلى أن شعور الرفض العاطفي يتسبب في الإصابة بضبابية الدماغ؛ إذ يتغير سلوك الأشخاص وتتبدل طبيعتهم، فلا يصبحون كما كانوا من قبل وتلازمهم أعراض أخرى مثل التهيج، والصداع، والآلام الوهمية.
الرفض العاطفي ليس نهاية حياتك.. وإليك كيف تتغلب عليه؟
الرفض العاطفي ليس سهلًا أبدًا، لكن معرفة كيفية الحد من الضرر النفسي الذي يسببه، وكيفية إعادة بناء احترامك لذاتك عند حدوثه، سيساعدك في التعافي سريعًا والمضي قدمًا بثقة، وإليك بعض النصائح التي قد تساعد في التعافي:
1- كن نبيلًا وتوقف عن مطاردة الطرف الآخر:
الرفض العاطفي جزء من حياتنا بشكل عام، ويمر به الجميع في مرحلة ما من مراحل حياتهم المختلفة، هو أمر صعب، وقد يصيبك بالكثير من المشاعر السلبية، لكن لا تدع هذه المشاعر تدفعك لارتكاب بعض الأفعال المُشينة، مثل مطاردة الطرف الآخر، أو تهديده أو تشويه سمعته، كن نبيلًا وساعد نفسك في التغلب على مشاعرك السلبية بعيدًا عن الطرف الآخر.
2-توقف عن لوم نفسك
يتسبب الرفض العاطفي في ألم كبير منبعه شعور الشخص بأنه الطرف السيئ في العلاقة، فيبدأ في التركيز على نقاط ضعفه وعيوبه ويقع في دوامة من لوم الذات فيتضاعف شعوره بالألم والرفض ويقل احترامه لذاته، لذلك من الأفضل عند انتهاء علاقة ما عليك أن تبحث عن الأسباب الحقيقة للرفض بعيدًا عن النقد السلبي لذاتك.
3- «حقد مُعلَّب».. توقف عن رثاء ذاتك
يُثير الشعور بالرفض العاطفي الرغبة في رثاء النفس فيُبقي الشخص عالقًا في مضمار الشعور بالإجهاد المزمن، وتُشير ريبيكا موريس، أخصائية نفسية إلى أن الاستمرار في رثاء النفس يجعل الشخص يفكر بعقلية الضحية، ويقلل من احترامه لذاته، ويشعره بالحقد والكراهية تجاه الآخرين؛ خذ خطوة إيجابية تجاه نفسك وتوقف عن رثائها، وتعامل مع الحزن كرد فعل طبيعي لمشاعر الفقد، لكن لا تدعه يتملك منك.
4- القلب السليم في الجسم السليم
تُحفز العلاقات العاطفية الدماغ على إفراز «المواد الأفيونية» التي تعزز المزاج الطبيعي وتسبب الشعور بالسعادة، إلا أن مشاعر الرفض العاطفي تمنع إطلاق هذه المواد وتحفز المخ على إفراز هرمونات التوتر والقلق، وتشير بعض الدراسات إلى أن ممارسة التمارين الرياضة تساعد بشكل كبير في تحفيز الدماغ على إفراز المواد الأفيونية؛ مما يخفف من شعور الألم الذي يصاحب مشاعر الرفض.
5- المساعدة المتخصصة
يُصاحب الشعور بالرفض العاطفي مجموعة من المشاعر السلبية التي قد تضر الصحة النفسية فبحسب دراسة منشورة على موقع المكتبة الوطنية للطب فإن الرفض العاطفي يدفع الأشخاص للشعور بخليط من المشاعر المؤذية مثل الوحدة، والغيرة، والشعور بالذنب، والعار، والقلق الاجتماعي، والخزي، والحزن، والغضب، بالإضافة إلى الاكتئاب، لذلك من الأفضل طلب المساعدة المتخصصة من الطبيب النفسي واستشاري علاقات حتى يتجاوز الشخص كل هذه المشاعر السلبية بسلام دون أن يتسبب في إيذاء نفسه أو الآخرين.