في الكتاب الصادر في يونيو (حزيران) 2021، تحت عنوان: «حرب المستقبل والدفاع عن أوروبا»، حاول المؤلفون، وهم جنرالات سابقون في الجيش الأمريكي ومحللون إستراتيجيون، الإجابة عن سؤال: هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟

وجاءت الإجابة سريعًا، وفي صدر الكتاب، عن طريق طرح سيناريو افتراضي، عام 2030؛ فيه تشن روسيا والصين حربًا مشتركة على أوروبا، تبدأ بهجمات إلكترونية، بينما تواجه البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ صواريخ عدائية (أسرع من الصوت)، وفي الوقت نفسه تكون التعزيزات الأمريكية الموجهة إلى أوروبا محتجزة وغير قادرة على المشاركة في الحرب، ثم يبدأ الغزو البري الروسي-الصيني لأوروبا، حتى تسقط تمامًا.

يُعبِّر هذا السيناريو عن ضعف القدرات الأوروبية على صيانة أمنها في الوقت الحالي، وكذلك في المستقبل، سواء بسبب تقادم قدراتها التسليحية التقليدية، أو افتقارها إلى درجات التماسك والتنسيق والإرادة السياسية فيما بينها، ناهيك عن تخلف أوروبا –مقارنةً بالصين- فيما يخص استثمار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في عمليات التسليح، وهو الأمر الذي سيمنح بكين، تدريجيًّا، مكانة عسكرية أكبر، تجعل السيناريو الافتراضي السابق قابلًا للحدوث، ولو على المستوى النظري.

الجانب الأكثر خطورة من وجهة نظر الكتاب، هو تحلي الأوروبيين بما أسماه «السذاجة الإستراتيجية»، إذ تفترض أوروبا أن الحروب التقليدية بين القوى الكبرى صارت سيناريوهات مستبعدة، ولكن في ضوء التهديد الروسي الحالي لأوكرانيا، ولأمن أوروبا بالكامل، قد تكون هذه «السذاجة الإستراتيجية» في طريقها للتلاشي.

القارة الشائخة.. في مرمى النيران الروسية

أكدت الأزمة الأوكرانية الحالية أن روسيا تمثل التهديد الأكبر لأمن أوروبا، وليس هناك يقين بشأن التوقيت الذي أدرك فيه الأوروبيون هذه الحقيقة، فلطالما كانت التقديرات الأوروبية –وكذلك الأمريكية- لا تتعامل بجدية مع الصعود العسكري الروسي.

فحتى عام 2009، تقريبًا، كانت أوروبا تعتقد أن الأداة الدبلوماسية يمكن أن تحتوي الطموح الروسي، وأن مساعدات بقيمة 17 مليار دولار، قدمها الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، يمكن أن تجلب الاستقرار للمنطقة، ولكن تسلسل الأحداث أثبت عكس ذلك.

Embed from Getty Images

الجيش الروسي

نقطة البداية كانت الحرب الروسية ضد جورجيا عام 2008، ثم ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والدعم اللاحق للانفصاليين في شرق أوكرانيا، وصولًا للتصعيد الحالي أوكرانيا المتمثل في حشد روسيا 130 ألف جندي على الحدود الأوكرانية، والتهديدات المباشرة بالغزو العسكري.

فلأول مرة منذ أزمة برلين 1958-1961، تتلقى أوروبا إنذارًا روسيًّا، ويبدو أن روسيا تسعى إلى إعادة صياغة كاملة للترتيبات الأمنية الأوروبية، وطامحة للحصول على «ضمانات» جديدة، من شأنها منح اليد العليا لموسكو في المعادلة.

وتعتمد روسيا في مقاربتها تجاه أوروبا على ميزان قوتها العسكرية، فمنذ وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم، عام 2000، بدأ في برنامج تحديث عسكري أسفر عن تحسين القدرات العسكرية التقليدية لروسيا، بجانب التوسع في إجراء التدريبات العسكرية في المناطق المتاخمة لأوروبا، وفي بعض الحالات نفَّذت موسكو مناورات خاطفة دون إشعار مسبق للأوروبيين.

وظهرت النوايا الروسية من خلال تجاهلها لـ«اتفاقية القوات المسلحة التقليدية في أوروبا» (CFE)، والتي وُضعت في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، وهدفت إلى وضع حدود على فئات رئيسية من المعدات العسكرية التقليدية في أوروبا (من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال) وألزمت أطرافها بتدمير كميات الأسلحة الزائدة عن الحدود المنصوص عليها، إلا أن روسيا علَّقت مشاركتها في المعاهدة في عام 2007، قبل أن تنسحب منها بالكامل في مارس (آذار) 2015، بعد عام واحد من ضم شبه جزيرة القرم.

وعلى جانب آخر، لا يزال البعد النووي للعلاقات الأمنية بين روسيا وأوروبا حاسمًا؛ إذ تلعب الأسلحة النووية دورًا مهمًّا في التفكير الإستراتيجي الروسي، وتشير أحدث النشرات النووية الروسية، التي صدرت عام 2020، إلى أن الحكومة الروسية تعد الأسلحة النووية وسيلة ردع حصرية.

وتسرد النشرة عدة شروط يمكن لروسيا بموجبها استخدام الأسلحة النووية، بما في ذلك تأكيد هجوم صاروخي باليستي قادم ضد روسيا أو حلفائها، أو استخدام الأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الشامل الأخرى ضد روسيا أو حلفائها، أو الهجوم على المواقع التي من شأنها تهديد قدرة روسيا على الرد بأسلحة نووية، أو هجوم على روسيا بالأسلحة التقليدية من شأنه أن يعرض وجود الدولة للخطر.

وجادل تقرير رسمي أمريكي بشأن الوضع النووي لروسيا، صدر في فبراير (شباط) 2018، بأن روسيا تستخدم «التهديد بالتصعيد النووي»، من أجل فرض شروطها السياسية على أوروبا والمعسكر الغربي، أو بمعنى آخر السيطرة على أدوات «التصعيد والهيمنة» خلال جميع مراحل المواجهة مع الغرب.

وكذلك طوَّرت روسيا أنظمة تسليحية جديدة عابرة للقارات، مثل المركبات الانزلاقية حاملة الصواريخ التي تفوق سرعة الصوت، وصواريخ كروز المسلحة نوويًّا، والتي تعمل أيضًا بالطاقة النووية، وقد أثبتت روسيا أيضًا تفوقها في الأنظمة المزدوجة، التي يمكن تسليحها بأسلحة نووية أو تقليدية؛ إذ طوَّرت صاروخ كروز أرضي من طراز 9M729 (SSC8)، والذي أكدت الولايات المتحدة أنه ينتهك معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، فهو يمنح روسيا القدرة على تهديد نقاط مهمة لحلف الناتو، نوويًّا، مثل الموانئ والمطارات التي تعد حاسمة بالنسبة للحلف.

يد ممدوة في أحشاء أوروبا.. ما وراء الهيمنة التكنولوجية الصينية

لم يدرك صانعو السياسة الأوروبية الآثار المترتبة على هيمنة الصين التكنولوجية إلا بعد تفجُّر جائحة «كوفيد-19»، واكتشافهم أن البنية التحتية الحيوية في أوروبا صارت معتمدة ومكشوفة على التكنولوجيا الصينية.

وتمثل شبكات الـ5G الجانب الأبرز حاليًا في هذا السياق، وذلك في ضوء اعتماد عدد من دول أوروبا على شركة «هواوي» الصينية بصفتها مزوِّدًا أساسيًّا لهذه الخدمة، الأمر الذي يمنح الصين تدريجيًّا درجة كبيرة من التحكم في أمن أوروبا المعلوماتي والعسكري، ورغم وجود عدد من الدول تواجه المد التكنولوجي الصيني، مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، فعناك دول تتمسك بالتعاون مع الصين، مثل المجر واليونان وصربيا.

دولي

منذ سنة واحدة
مترجم: جذور أزمة أوكرانيا والناتو كما يرويها سفير أمريكي سابق لدى الاتحاد السوفيتي

ويعتقد البعض أن التطبيقات الاجتماعية الصينية، مثل «TikTok» و«WeChat»، صارت تسيطر على بيانات المستخدمين في أوروبا، بما يخدم الأجندة الصينية، ويخترق خصوصية المواطن الأوروبي.

ولا تتمثل أزمة أوروبا في هذا الصدد في مدى قدرتها على التصدي للاختراق الصيني التكنولوجي، بقدر استعادة قدرتها على الابتكار «عالي التقنية»، بما يؤهلها للتنافس مع الصين محليًّا وعالميًّا في تطوير تقنيات جديدة، وهو أمر لن يكون بالسهل، في ضوء الجاذبية الهائلة التي تتمتع بها التكنولوجيا الصينية داخل أوروبا، وأنحاء واسعة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.

وهنا تتجلى معضلة جديدة، وهي ضعف قدرة الاتحاد الأوروبي على التحكم في حجم الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحيوية الأوروبية، وذلك وفق معايير تهديد الأمن أو النظام العام، إذ ما زالت القرارات المتعلقة بحظر شركة أجنبية أو عدم حظرها، تقع ضمن المسئولية الوطنية، وهو ما يمنح بكين القدرة على النفاذ إلى بعض دول أوروبا الراغبة في حيازة التكنولوجيا الصينية المتقدمة.

أوروبا غير مؤهلة للعب دور رئيس على رقعة الشطرنج الإستراتيجية

يبدو جليًّا أن حسابات المنافسة الإستراتيجية مع الصين، هي الهاجس الأول لدى صنَّاع القرار في واشنطن، وهو ما يعني تركيز جهودها السياسية والعسكرية والاقتصادية على منطقة «الإندو-باسيفيك»، على حساب الأمن الأوروبي.

وبالتالي كان انسحاب الولايات المتحدة وحلف الناتو من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021، صدمة مزدوجة لأوروبا؛ لأن القرار الأمريكي صدر من جانبها بشكلٍ فردي، دون التشاور مع شركائها الأوروبيين، مما ترك أعضاء الناتو الأوروبيين أمام خيارات محدودة في التعامل مع عودة «طالبان» إلى حكم أفغانستان.

ثم جاء الإعلان عن تشكيل تحالف «أكوس»، في سبتمبر (أيلول) 2021، بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، لتعميق الفجوة الأوروبية-الأمريكية، وللتأكيد على غياب الأمن الأوروبي عن الأجندة الأمريكية لأولويات الأمن العالمي، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون إلى القول بأنه يتعين على أوروبا «التخلي عن السذاجة»، والتركيز على التضامن من أجل صيانة أمن أوروبا.

وكذلك حين تعلق الأمر بالأزمة الأوكرانية، التي تمس أمن أوروبا بشكل مباشر، لم تتعامل واشنطن مع دول أوروبا بوصفها شريكًا في معالجة هذه الأزمة، إذ لعب الاتحاد الأوروبي دورًا ثانويًّا في المفاوضات مع روسيا، وقد أدى ذلك إلى جعل جوزيف بوريل، مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، يصرح بأنه إذا جرت مناقشة الأمن الأوروبي من طرف واشنطن وموسكو، فيجب أن يكون للأوروبيين «مقعد على الطاولة».

يبدو أن واشنطن لا ترى في الاتحاد الأوروبي ما يؤهله لأن يكون لاعبًا رئيسًا على رقعة الشطرنج الجيوستراتيجية الكبرى حاليًا، وبالتالي، فهو – من وجهة نظر واشنطن – غير قادر على الانخراط في دبلوماسية عالية المخاطر، مثل دبلوماسية إدارة الأزمة الأوكرانية، وبدلًا من ذلك، تُجري واشنطن محادثات منفردة مع الدول الأوروبية الكبرى فقط، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة.

أمريكا في ملعب آسيا.. وأوروبا بلا خيارات

قد تنجح الدبلوماسية في حماية أوكرانيا من الغزو الروسي، ولكن ليس من المرجح أن تنقذ الأمن الأوروبي على المدى البعيد؛ إذ إن معظم الاتفاقيات التي أبرمتها روسيا مع الغرب في التسعينيات صارت حبرًا على ورق، وأصبحت البنية الأمنية الأوروبية في مهب الرياح، وبدا واضحًا أن التصعيد الروسي الحالي في أوكرانيا، ما هو إلا محاولة للاستثمار في ضعف الاتحاد الأوروبي وتركيز واشنطن على المحور الآسيوي، وذلك لفرض الاشتراطات الروسية على بنية الأمن في أوروبا.

Embed from Getty Images

الجيش الروسي

فما زال روسيا تشترط الحصول على ضمانات قانونية بعدم توسع الناتو شرقًا، وكذلك بعدم نشر أسلحة بالقرب من الحدود الروسية، ويرى الخبراء أن الإصرار الروسي على هذه الشروط «التعجيزية»، يعني أن روسيا تربط استقرار الأمن الأوروبي بهيمنتها العسكرية على شرق أوروبا.

لذا تتعالى بعض الأصوات منادية بضرورة استخدام القوة العسكرية، بوصفها الحل المناسب للتعامل مع منطق القوة لدى روسيا، وأنه لا جدوى من استخدام الدبلوماسية، فالقدرة على الردع العسكري شرط مسبق لاستخدام الأداة الدبلوماسية بنجاح مع شخصية مثل بوتين، وهو درس تعلَّمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مرحلة سابقة، وذلك عندما تحدَّى القوات العسكرية الروسية في سوريا، حين قام بإسقاط طائرة مقاتلة روسية، وقاتل وكلاء موسكو العسكريين في إدلب وليبيا، ونتيجة لذلك، كان قادرًا على الانخراط في دبلوماسية فعَّالة مع بوتين والتوصل إلى صفقاتٍ وحلولٍ وسط معه.

لكن إذا جرى التسليم بضرورة تطوير أدوات الردع العسكري الأوروبي بشكل مستقل عن واشنطن، فإن الجدل الحقيقي سيكون حول كيفية تحقيق ذلك، إذ تحتاج أوروبا إلى استثمارات عسكرية سريعة تصل إلى 357 مليار دولار أمريكي، وهو أمر غير واقعي في اللحظة الراهنة، ليس لصعوبة الوضع الاقتصادي الأوروبي في مرحلة ما بعد «كوفيد-19» فقط، ولكن لتباعد وجهات دول الاتحاد الأوروبي بشأن قضية الردع العسكري من الأساس.

المصادر

تحميل المزيد