ترسم المواقف السودانية الرسمية تجاه عدد من القضايا المشتركة مع مصر تحولًا إيجابيًا لصالح الأخيرة، بعدما شرعت الخرطوم في طي صفحة الخلافات التي كانت عالقة بين الجانبين، وغابت اللهجة الحادة التي انتهجتها السودان تجاه مصر، خصوصًا في أزمة سد النهضة.

كان الدعم السوداني لوجهة النظر المصرية في أزمة سد النهضة هو أبرز الشواهد على هذا التحول، بعدما كانت السودان داعمة ومؤيدة للتوجه الإثيوبي في تشييد السد. وأعلن مسؤولوها توظيف نفوذ الخرطوم في القارة الأفريقية للضغط على أديس أبابا.

مؤخرًا، شهدت القاهرة والخرطوم زيارات من كبار مسؤوليها، وسط صمت رسمي من الجانبين عن خلفيات هذه الزيارات، ويحاول هذا التقرير رصد هذه الزيارات والتحول في المواقف السودانية تجاه القاهرة، ومحطات التحرك المصري التي اتبعتها القاهرة في تحييد السودان تجاه قضية سد النهضة.

محطات التقارب بين السودان وإثيوبيا منذ سقوط البشير

بعد أن أطاحت تظاهرات عارمة الرئيس السوداني السابق عُمر البشير، وأسست لمعادلة حُكم جديدة، أصبحت القاهرة في مرمى الانتقادات من القوى المدنية في الخرطوم، بوصفها داعمة للنظام السابق.

زار البشير القاهرة في أيامه الأخيرة بحثًا عن مخرج للأزمة التي تعيشها بلاده، وكان آخر تصريح للبشير في القاهرة، بمؤتمر صحافي مشترك مع السيسي: «هناك محاولة لاستنساخ الربيع العربي في السودان، ولكن الشعب السوداني واعٍ ويفوت الفرصة على كل من يحاول زعزعة الاستقرار ولن يسمح للفوضى التي عانت منها دول أخرى أثناء موجة الربيع العربي»، في مؤشر على التأييد المصري له.

غضب القوى المدنية السودانية جعلها تخرج للاحتجاج أمام السفارة المصرية بالخرطوم، وترفض الوساطة المصرية مع قادة المجلس العسكري، وكان السبب الأهم لهذا الغضب هو دعم مصر لبقاء البشير، إذ أشار عدد من الدبلوماسيين المقيمين في القاهرة لموقع «مدى مصر» أن القاهرة زودت البشير بمعلومات استخباراتية، وضغطت على زعيم غربي وآخر عربي لإبقائه في السلطة.

عربي

منذ 3 سنوات
لماذا نجح الوسيط الإثيوبي فيما فشلت فيه القاهرة وجوبا؟

لهذا، تشكلت قوى معارضة سودانية مناوئة لأي دور مصري، وداعمة في المقابل لإثيوبيا في القضايا المُشتركة مع الخرطوم، خصوصًا قضية سد النهضة. ثم ارتفع التأييد الشعبي والرسمي لإثيوبيا، عقب نجاح آبي أحمد في مبادرته للوساطة بين قادة المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير لحل الأزمة السودانية.

عزز صعود عبدالله حمدوك لمنصب رئيس الوزراء الموقف السوداني الداعم لإثيوبيا، إذ بدأ أيامه الأولى في المنصب بإطلاق سلسلة وعود بتطوير العلاقات بين الخرطوم وأديس أبابا، وأكد خلال لقائه مع آبي أحمد على الدور الإثيوبي في إقناع كل الفاعلين السياسيين السودانيين المختلفين بالانتقال الديمقراطي.

ثم أتى تأييد حمدوك لتصريحات آبي أحمد حول سد النهضة، حين قال آبي أن «الغرض من إنشائه ليس محاصرة مصر أو السودان بل لإنتاج الكهرباء لتحقيق فائدة إثيوبيا ودول الإقليم»، في إشارة لدعم السودان للموقف الإثيوبي من بناء سد النهضة.

وكان أكثر ما يدل على دعم حمدوك للموقف الإثيوبي في بناء سد النهضة وشروط ملء الخزان، وهي النقطة الخلافية مع القاهرة، حين أعلن توقيع اتفاقية مع أديس أبابا في أكتوبر العام الماضي، تزود إثيوبيا بمقتضاها السودان بـ300 ميجاواط من الكهرباء، كاشفًا عن تأسيس شركة شركة سودانية إثيوبية لخطوط الأنابيب بين البلدين، سيعمل بمقتضاها البلدان بتنفيذ التجهيزات الهندسية والفنية لاستيعاب هذه الكمية.

استمر التعاون والتفاهم الإثيوبي السوداني، لتسحب إثيوبيا مرشحها لمنصب نائب رئيس منظمة الهجرة الدولية، لصالح مرشح السودان، في مؤشر آخر على توطيد العلاقات بين البلدين. وقد عبر مسؤول مصري في تصريحات لموقع «مدى مصر» آنذاك أن «دعم السودان لا يبدو باتجاه الموقف المصري».

أكد السودان على موقفه الداعم لإثيويبا بشكل أكثر وضوحًا في إعلان تحفظه رسميًا على قرار الجامعة العربية البيان التضامني لوزراء الخارجية العرب مع مصر بشأن أزمة سد النهضة.

Geplaatst door ‎المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية-Spokesman of the Egyptian Presidency‎ op Zondag 15 maart 2020

محاولات مصرية ناجحة لتغيير الموقف السوداني

مضى السودان، ممثلًا في أعضاء الحكومة، في دعم الجانب الإثيوبي، حتى التقى رئيس المخابرات المصرية عباس كامل مع رئيس الحكومة السودانية حمدوك في الخرطوم، عقب تعرض الأخير لمحاولة اغتيال في 9 مارس (آذار) الماضي. وخلال اللقاء، قدم كامل عرضًا مصريًّا بالتعاون الأمني في التحقيق في هذا الحادث، كما كشف الصحفي المصري مصطفي بكري، المُقرب من السلطات المصرية.

وتكررت زيارة عباس كامل لحمدوك في 4 أبريل (نيسان) الماضي، في ظل انتشار فيروس كورونا، وصحبها صمت رسمي من الجانبين على تفاصيل الزيارة، فيما خرجت تسريبات من الجانب المصري عن أنها أسفرت عن نتائج إيجابية مهمة، تمثلت في الدفع بحمدوك وسيطًا إيجابيًّا في سد النهضة، وتحييده بعدما كان داعمًا لإثيوبيا.

وفي الفترة بين الزيارتين لرئيس المخابرات إلى السودان ولقاء حمدوك، زار الأخير مصر، بدعوة من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

بعد الزيارات الثلاثة، ظهر تحول في مواقف أعضاء حكومة حمدوك، تجلى في رسالة رسمية لمجلس الأمن، في 2 يونيو (حزيران)، أكّد خلالها السودان التزامه بأهمية تأسيس قاعدة راسخة للتعاون مع مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة، وطالب بتشجيع الأطراف المعنيّة على الامتناع عن القيام بأي إجراءات أحادية قد تؤثر على السلم والأمن الإقليمي والدولي، في إشارة لإثيوبيا.

تبع هذا الموقف تصريح لوزيرة الخارجية السودانية، أكدت خلاله، إن «إثيوبيا إذا واجهت موقفًا قويًا من بلادي ومصر بألا يتم ملء سد النهضة قبل الوصول إلى اتفاق ستفكر في الأمر مرتين».

سد النهضة

الفجوة التي تسللت منها القاهرة للسودان

مقابل تحركات حمدوك وزياراته التي لا تنقطع لإثيوبيا، مدعومًا من الداخل والقوى المدنية، كانت مصر تمضي قدمًا نحو توطيد علاقاتها مع الجانب الآخر في السلطة، المتمثل في المجلس العسكري الانتقالي، الذي حدت من سلطاته المبادرة الإثيوبية، وحالت دون ترشح قادته لمنصب الرئيس.

ظهرت مؤشرات هذه التحركات المصرية في اختيار عبدالفتاح برهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، لمصر والإمارات، في أول جولة خارجية له بعد أكثر من 40 يومًا على تولّيه منصبه، وحين أدى التحية العسكرية للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

استمر التنسيق المصري مع قادة المجلس لتستضيف القاهرة محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، وهو عضو المجلس العسكري وقائد قوات الدعم السريع، في سلسلة لقاءات غاب عنها حمدوك، في الشهور الأولى من توليه منصبه.

أكد خيار القاهرة في هندسة علاقتها مع السودان عبر توطيد صلاتها مع قادة المجلس العسكري تصريح دبلوماسي مصري، ذكر أن مصر تفضل التعامل مع السودان رسميًا من خلال البرهان وحميدتي، فيما بدا أنه تجاهل لحمدوك في ذات الوقت، بعدما أظهرت مواقفه دعمًا للجانب الإثيوبي.

ومما ساعد القاهرة في كسب تأييد المجلس العسكري، وتحديدًا حميدتي الذي أصبح «الأكثر نفوذًا» داخل المجلس، كان الرفض الإثيوبي لتولي حميدتي منصب نافذ مسقبليًا، سواء كان قائدًا للجيش أو حاكمًا للبلاد.

ظهر امتعاض القاهرة من سياسة حمدوك في تحليل نشرته صحيفة الأهرام الحكومية، والذي أشار إلى أن «التقارب في وجهات النظر من قبل مجلس السيادة السودان مع مصر، لا ينصرف على الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك»، وكشف التقرير عن ضغوط مورست على حمدوك من قبل قوى داخلية في السودان للتراجع عن موقفه.

«سيعود لموقفه القديم»

من جانبه، يشرح عبدالفتاح عرمان، وهو صحفي سوداني مُقيم في واشنطن، التحولات الأخيرة في موقف بلاده تجاه مصر، ويقول عرمان لـ«ساسة بوست» أن الجانب المصري كان لديه مخاوف من المدنيين في الحكومة السودانية وفضل التعامل مع أعضاء مجلس السيادة العسكريين، وحينما تأكد لمصر أن ملف سد النهضة في يد مجلس الوزراء، فتح خطوط تواصل عبر رئيس المخابرات المصري اللواء عباس كامل، الذي التقى رئيس الوزراء مرتين، وظهر توافق كبير بينهما حول أهمية حل أزمة سد النهضة سلميًّا، بما يحفظ لمصر والسودان حقوقهما التاريخية ويلبي في نفس الوقت حاجة إثيوبيا للمياه.

لكن، هل يعني دعم الموقف المصري القطيعة مع إثيوبيا؟ يجيب عرمان، وهو على اتصال بأعضاء في الحكومة السودانية، قائلًا :«كما شاهدت الجانبي الأثيوبي، وعلى لسان آبي أحمد أعلن عن مضاعفة الكهرباء للسودان، مما يعني استقرارًا في المد الكهربائي، خصوصًا في فصل الصيف، بالإضافة إلى أن سد النهضة نفسه سيقي السودان شر الفيضانات في موسم الأمطار وبإمكان السودان ري مشاريعه الزراعية طوال العام، ولهذا لن ينحاز السودان بشكل كامل كما يعتقد البعض».

ويشرح عرمان بشكل أكثر تفصيلي التباينات في الموقف السوداني الرسمي، قائلًا إن «وجهة نظر المكون العسكري هي دعم الموقف المصري بصورة كاملة، ولكن رئيس الوزراء السوداني يري ألا يدعم السودان طرفًا على حساب طرف، حتى لا تنزلق الأمور لصراع ستدفع بلادنا ثمنه. الآن، السودان ووساطته مقبولة للطرفين وإن اتخذ مواقف تدعم طرفًا على حساب طرف آخر سيفقد هذه الميزة. هذه هي حسابات الجانب المدني».

يكمل عرمان وجهة نظره المبنية على اتصالات مع مسؤولين رسمين، قائلًا إن «الرئيس السيسي وحكومته دعما المجلس العسكري منذ بدايته وبعد فض الاعتصام، وأيداه في كل قراراته. لذا، فهم (المجلس العسكري) يرون في الحكومة المصرية حليفًا استراتيجيًا يجب دعمه بكل السبل».

مصدر سوداني مُقرب من مسؤولين بالخارجية السودانية قال «لساسة بوست» إن زيارة رئيس المخابرات المصرية كان هدفها تحييد حمدوك تجاه قضية سد النهضة، عبر أكثر من ملف هام، أبرزها الملف الأمني بين البلدين الذي تحتفظ القاهرة بأوراق تتفوق فيه، مؤكدًا أن علاقات الجانب المصري مع المجلس العسكري ساهمت بشكل كبير في تحقيق هدفها، خصوصًا أن سلطات المجلس توسعت في كثير من الملفات.

البيئة

منذ سنتين
«الجارديان»: «قد يسبب حرب مياه».. كيف يرى السودانيون سد النهضة؟

قضية أخرى لعبت دورًا في التقريب بين الخرطوم والقاهرة، وهي الخلافات الحدودية بين أديس أبابا والخرطوم، «بعدما حاول المجلس العسكري تفجير الوضع في الحدود لحمل الحكومة للاصطفاف مع الجانب المصري»، كما ينقل عرمان عن بعض الأطراف داخل الحكومة، موضحًا أن مجلس الوزراء طالب الجانب العسكري بعدم التصعيد مع إثيوبيا وحل الخلاف دبلوماسيًّا.

من جانبه، أوضح الصحافي الإثيوبي، المقيم في أديس أبابا، عبد المعين عبد السلام، خلال حديثه لـ«ساسة بوست»، أن التحول الذي نشاهده في الموقف السوداني تجاه مشروع السد، والتقارب مع مصر، تحركه المصالح الآنية، وليس موقفًا ثابتًا أو نابعًا من إيمان السودان بالموقف المصري.

ويضيف: «ربما هناك عدة أسباب للأمر، وأعتقد أن مصلحة العسكر في السودان تكمن في التقارب مع مصر، وتبني موقفها الجديد بما يتماهى مع الموقف المصري، وهم يمارسون ضغوطات على حكومة حمدوك حسب بعض المعلومات لتتبنى موقفًا أقرب إلى الموقف المصري».

وحول توقعاته للموقف السوداني المرحلة المقبلة، يرى عبدالسلام أن السودان سيرضخ للأمر الواقع، وليس من مصلحته التصعيد فيما ليس له مصلحة فيه فقط من أجل مؤازرة الموقف المصري، ويشير إلى أن السودان يؤمن بأن السد ليس له ضرر عليه بل سيعود عليه بالمنافع. يختم عبد المعين بالقول: «بلا شك سيعود (السودان) لموقفه القديم».

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد