في مونتفيديو (نهائي كأس عالم 1930) كنت سأُقتل لو فزت، وفي روما (نهائي كأس عالم 1934) كنت سأُقتل لو خسرت

أدلى النجم الأرجنتيني لويس مونتي بهذا التصريح بعد مونديال 1934، وكلمة السر وراءه هي الزعيم الفاشي الإيطالي بينيو موسوليني، صديق هتلر النازي، فمع البغض لذوي الإعاقة والمثليين، والتمييز والعنصرية ضدهم، حاولت الفاشية والنازية تقديس القوة الجسمانية والرياضة والتأثير على الرياضة الأكثر شعبية في العالم (كرة القدم) في أهم بطولاتها في كأس العالم، فلم يسلم المونديال من تأثيرات موسيليني وهتلر.

فالنجم مونتي ذو الأداء المميز خلال مسيرة الأرجنتين في كأس عالم 1930 ظهر بشكل باهت في نهائي البطولة الذي جمع بين أوروجواي والأرجنتين، وعقب البطولة أرجع مونتي سبب سوء أدائه إلى تهديدات تلقاها ليلة المباراة، عندما قال: «بعثوا إليَّ رسائل وهددوني بأشياء أطارت النوم من عيني الليلة السابقة (للنهائي).. هددوا بقتلي أنا ووالدتي، كنت أشعر برعب شديد، ولم أفكر في المواجهة التي كنت أخوضها، وألحقت ضررًا كبيرًا بالجهد الذي بذله زملائي، قلت لزملائي: «أنا مُراقب، فلتسجلوا أنتم؛ لأني لا أستطيع»

اللاعب لويس مونتي

أما عن مصدر التهديدات، فقد لفت لوثيانو برنيكي في كتابه «أغرب الحكايات في تاريخ كأس العالم» إلى إمكانية تورط المافيا الإيطالية فيها من منطق أن هزيمة المنتخب الأرجنتيني ستجعل مونتي كبش فداء لجماهير الأرجنتين، لينصب الهجوم عليه، ويشعر مونتي بسوء معاملة تدفعه لقبول العرض باللعب لنادي اليوفنتوس الإيطالي، ومن ثم ارتداء قميص المنتخب الإيطالي واللعب مع الأزوري في النسخة المقبلة لكأس العالم.

وخلال المباراة النهائية تبدل تقدم الأرجنتين بهدفين مقابل هدف واحد بالشوط الأول إلى تأخر بهدفين مقابل أربع أهداف لأوروجواي، التي حصدت لقبها الأول لكأس العالم؛ ليحصد مونتي مرارة الخسارة ومسؤوليتها، ويقول:«الأرجنتينيون جعلوني أشعر كأني حثالة أو دودة، لقد وصفوني بالجبن، حمّلوني وحدي مسؤولية الهزيمة في النهائي، وفجأة وجدت أمامي شخصين يعرضان علي لعب طريقة للعب كرة القدم».

الشخصان اللذان قصدهم مونتي كانا مبعوثين من نادي اليوفنتوس الإيطالي، انتظراه حتى عودته للعاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس، ليقبل مونتي الانتقال للسيدة العجوز، ومن ثم الحصول على الجنسية الإيطالية بعد، واللعب لمنتخب إيطاليا، وهي سردية تؤكد بشكل أكبر وقوف المافيا وراء تهديدات مونتي الذي مثّل إيطاليا في كأس عالم 1934، وتلقّى تهديدات مختلفة هذه المرة!

تحية فاشية لموسوليني.. «من يخسر المونديال يتحمّل»

دفع الحضور الأوروبي الضعيف في بطولة 1930 أوروجواي إلى مقاطعة النسخة التالية لكأس العالم الذي نظمتها إيطاليا، عام 1934 بعد منافسة مع السويد على التنظيم؛ انتهت باختيار إيطاليا بعد ضغط كبير من موسليني الملقب بالـ«دوتشي» للفوز بتنظيم البطولة، واستغلال الأمر لخدمات سياسية لنشر الفاشية والنازية، فالمنتخب الفائز بالبطولة لا يحصل على كأس العالم فقط، وإنما يحصل أيضًا على «كأس الدوتشي» وهو أكبر في حجمه من كأس العالم!

وطفت رائحة الفاشية على نسخة كأس العالم تلك؛ إذ أَجبر لاعبو المنتخب الإيطالي، ومنهم مونتي على دخول الحزب الفاشي، وهدُدوا بالقتل إذا لم يفوزوا باللقب، أما ملعب العاصمة الإيطالية روما (الأولومبيكو) فقد حمل اسمًا جديدًا، وهو «ملعب الحزب الوطني الفاشي».

أما التحية الرومانية المعبرة عن التحالف النازي الفاشي بين هتلر وموسيليني، بمد الذراع مستقيمة للأمام مع ميلها لأعلى، فقد نفذها لاعبو منتخبي ألمانيا وإيطاليا أثناء عزف النشيد الوطني مع بداية كل مباراة، ليس هذا فحسب، بل نفذها أيضًا لاعبو منتخبات أخرى كالأرجنتين والسويد تحيةً منهم للمنصة الرسمية والحكومة الفاشية المنظمة لكأس العالم.

Embed from Getty Images

لاعبو منتخب إيطاليا يأدون التحية الفاشية في كأس عالم 1934

لم يكن لموسليني ومنتخب بلاده أي مجال للخسارة ففوز إيطاليا بكأس العالم هو أقرب لـ«أمر سيادي» مهما كانت الوسيلة؛ فقد جنّست إيطاليا لتحقيق تلك الغاية لاعبًا برازيليًا، وأربعة لاعبين أرجنتينيين، بينهم ثلاثة حصلوا على الجنسية بالمخالفة للوائح الفيفا، من ضمنهم مونتي نفسه، فالأمر جلل، وفوز إيطاليا حتمي من وجهة نظر موسوليني، فكرة القدم مكسب، أو مكسب لإيطاليا، ولا مجال للخسارة، فهي ليست مجرد منافسة رياضية، وإنما فرصة مثالية لموسيليني لإظهار قوته الفاشية للعالم أجمع.

أنت المسؤول الوحيد عن النجاح، لكن ليكن الرب في عونك إذا انتهى الأمر بفشلك

هكذا هدد موسوليني المدرب فيتوريو بوتسو، في لقاء جمع بين الدوتشي والمنتخب الإيطالي قبل انطلاق البطولة، حذره فيه من أنه «سيتّحمل» ثمن الخسارة، مُترجمًا تهديده للاعبين أيضًا «إما الفوز أو الصمت التام» مُشيرًا بيده إلى علامة الذبح، وقد نجحت إيطاليا بالفوز بكأس العالم بعد انتصارها على تشيكوسلوفاكيا بهدفين لهدف، لينجو بذلك مونتي، وينجح في المرتين من تجنب تنفيذ تهديدات القتل ضده، بخسارة مع الأرجنتين في مونديال 1930، وفوزه مع إيطاليا في مونديال 1934.

ألمانيا تعزز نازيتها بالرياضة

ومثلما نظمت إيطاليا الفاشية كأس العالم وفازت به عام 1934، نظّمت ألمانيا النازية بعد عامين فقط أولمبياد عام 1936، وقد تمكنت ألمانيا من تصدر دول العالم المشاركة في الأولمبياد، وحصدت 89 ميدالية متفوقةً بفارق كبير عن أقرب منافسيها: أمريكا، التي حصدت 56 ميدالية؛ لتعزز تلك النتيجة من الدعاية النازية، وقوة هتلر، الذي حضر الافتتاح في بطولة الأولمبياد، واستقبله الجمهور بالإشارة النازية، لتقوى قوة الدعاية النازية والفاشية السياسية من مناسبات رياضية كبرى بحجم كأس العالم والأولمبياد.

الجمهور يستقبل هتلر بالإشارة النازية في افتتاح دورية الألعاب الأولمبية برلين 1936

لم تخلُ نسخة كأس العالم التالية عام 1938 من تأثيرات الفاشية والنازية؛ فمع انطلاق كأس العالم في فرنسا تلقت الفيفا شكاوى كثيرة من اضطرار بعض الفرق المشاركة في مونديال 1934 لتأدية التحية الرومانية؛ مما دفع الفيفا للسماح لكل منتخب بالتصرف الملائم أثناء النشيد الوطني، فيما تمسك منتخبا ألمانيا وإيطاليا بأداء التحيات النازية والفاشية أثناء النشيد الوطني.

ولم تتوقف التأثيرات عند هذا الحد؛ فقبل أقل من ثلاثة أشهر من بدء كأس العالم قرر هتلر توسيع حدود ألمانيا ليضم النمسا، فيما عرف بـ«ـآنشيلوس» (ذلك الاتحاد السياسي والعسكري الذي كونه هتلر مع النمسا) في مارس (آذار) 1938؛ مما تسبب في مشكلة بكأس العالم؛ لأن النمسا كانت من ضمن المشاركين في الكأس.

المنتخب الألماني يؤدي الإشارة النازية في كأس عالم 1938

وقد أدى ذلك التحالف إلى انسحاب النمسا، وحاولت أن تسمح لإنجلترا بأن تأخذ مكانها، وهو ما لم تسمح به الفيفا، ليُلغى ذلك المكان، ويلعب 15 مُنتخبًا بدلًا عن 16 مُنتخبًا في تلك النسخة من المونديال، ومع انسحاب النمسا حاولت ألمانيا ضم بعض لاعبي النمسا إليها، ونجحت في ضم بعضهم، وفشلت في ضم آخرين من أفضل لاعبي النمسا.

فقد استدعى الجهاز الفني لمنتخب ألمانيا، فالتر ناوش، قائد منتخب النمسا، للعب مع ألمانيا، لكن ناوش فضّل الهرب لسويسرا؛ لأن النظام النازي كان سيجبره على الطلاق من زوجته اليهودية، أما «موتسارت كرة القدم»، كما يُلقب ماتياس زينديلار، أفضل لاعب نمساوي في تلك الفترة، وأحد أهم نجوم مونديال 1934، فقد رفض هو الآخر اللعب في ألمانيا وخدمة نظام هتلر، حتى ولو كان الثمن ابتعاده عن كرة القدم الشغوف بها.

وقد اشتهر زينديلار بمعارضته للنازية، وتضامنه مع اليهود، ولم يمر إلا عدة أشهر على رفض زينديلار؛ حتى توفي في ظروف غامضة مع عشيقته نتيجة لحادث تسرب غاز في شقتهما بفيينا، بحسب الرواية الرسمية، فيما تحدّثت روايات أخرى حول قتل النازييين لهما، أو اتفاق زينديلار وعشيقته على الانتحار هربًا من ملاحقة وحدة «إس إس» العسكرية الخاصة لحماية هتلر، التابعة للحزب النازي.

ولم تستمر ألمانيا طويلًا في تلك البطولة لتخرج أول مرة في تاريخها من الدور الأول لكأس العالم الذي فاز به حليفتها إيطاليا قبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أوقفت كأس العالم 12 عامًا حتى عام 1950، وهو خروج ألماني مبكر لم يتكرر إلا بعد 80 عامًا، بخروج الماكينات الألمانية من الدور الأول لمونديال روسيا 2018!

المصادر

تحميل المزيد