في اجتماعٍ وُصف بالتاريخي، أعلنت قيادة الأركان الجزائرية في بيانٍ لها نهاية شهر مارس (آذار) الماضي، ضرورة تطبيق دستور الجزائر، وبالخصوص المادة 102 منه لحلّ الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ 22 فبراير (شباط)، وهو تاريخ اندلاع المظاهرات السلمية ضد نظام بوتفليقة ورموزه.
رحّب المتظاهرون باقتراح الجيش الذي أعقبه استقالة بوتفليقة بعد ذلك بيومين، ومنذ ذلك الوقت ما فتئت قيادة الأركان تحذر وتكرر في خطابات رئيس أركانها الفريق أحمد قايد صالح من تبعات الخروج عن المسار الدستوري، وما قد يشكلّه من فراغٍ وفوضى داخل البلد، خصوصًا بعد مطالبات الحراك الشعبي برحيل الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح، والوزير الأوّل نور الدين بدوي الذي تعتبر المؤسسة العسكرية رحيلهما تعديًا وخرقًا لدستور الجزائر.
لكن إقالة رئيس الدولة الأربعاء الماضي لوزير العدل براهمي سليمان، وتعيين النائب العام لقضاء العاصمة بلقاسم زغماتي بديلًا له؛ أعاد الجدل إلى المسار الذي تنتهجه السلطة حتى الآن، والذي يشوبه اختراقات لدستور الجزائر بحسب العديد من المراقبين القانونيين. في هذا التقرير نستعرض معكم أهم الخروقات الدستورية التي أحدثتها السلطة حتى الآن.
«الخرق منذ البداية».. لماذا تأخر تطبيق «المادة 102»؟
تنص «المادة 102» من دستور الجزائر على أنّه «إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبًا، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع، ويُعلِن البرلمان، المنعقد بغرفتيه المجتمعتين معًا، ثبوت المانع لرئيس الجمهورية بأغلبية ثلثي أعضائه، ويكلّف بتولّي رئاسة الدولة بالنيابة مدة أقصاها 45 يومًا رئيس مجلس الأمة الذي يمارس صلاحياته مع مراعاة أحكام المادة 104 من دستور الجزائر».
وعلى الرغم من إصابة بوتفليقة بجلطة دماغية سنة 2013، ولزومه المستشفى في فال دوغراس عدّة أشهر، عاد على إثرها إلى البلاد منقولًا بكرسيّ متحرك، وانقطاعه عن مخاطبة شعبه؛ إذ يعود تاريخ آخر خطابٍ عام ألقاه بوتفليقة إلى شهر مايو (أيار) من عام 2012، وهو خطاب «قوى الشر» الشهير الذي خاطب فيه شباب مدينة سطيف شرقي البلاد، وذلك إذا استثنينا بالطبع ذلك الخطاب القصير «المتلعثم» الذي لم تتجاوز مدته دقيقة ونصف، والذي كان بوتفليقة مضطرًا لإلقائه أمام البرلمان امتثالًا للبروتوكولات الرئاسية بعد فوزه بالولاية الرابعة عام 2014؛ ناهيك عن المطالبات من السياسيين بتطبيق الدستور وعزل بوتفليقة، إلّا أن المادة الدستورية لم تطبق إلّا بعد ضغطٍ شعبي كبير.
وعن هذه الحالة يقول المحامي وأستاذ القانون الدولي بجامعة غرداية، ياسين المقبض لـ«ساسة بوست»: إنّ «أكبر خرق للدستور في تاريخ البلاد هو المماطلة في تطبيق (المادة 102) لمدة ست سنوات كاملة، لأنّ بوتفليقة كان وضعه الصحي صريحًا لا يستطيع من خلاله أداء مهامه، ومع ذلك رأينا كيف تماطل السلطة في تطبيق الدستور، وانتظار موقف المؤسسة العسكرية الذي طالب بتطبيق المادة 102».
وأضاف المقبض: «عند النظر إلى الجانب الدستوري، ما حدث هو أن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة استقال ولم يقل وبالتالي (المادة 102) لم تطبّق حرفيًّا على وضع بوتفليقة؛ لأنّ في حالة مثل حالة بوتفليقة كان على المجلس الدستوري أن يجتمع لإثبات حالة العجز التي كان عليها الرئيس، ويطبق ما تنصه المادة 102 في تلك الحالة»، وأشار المقبض: «ما تمّ في قضية تفعيل المادة 102 على بوتفليقة هو معاملة مع رئيس بصلاحيات كاملة وصحة جيّدة مستقيل، وليس مع رئيس مختطف الصلاحية وفي حالة عجز، وهنا الخرق الدستوري».
«إلغاء الانتخابات».. حالة لم يضع لها دستور الجزائر حسابًا
فور تعينه رئيسًا للدولة خلفًا للرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، استدعى عبد القادر بن صالح الهيئة الناخبة لرئاسيات 4 يوليو (تموز)؛ حسب ما تنصه صلاحيات رئيس الدولة في دستور الجزائر، غير أنّ الرفض الشعبي للحراك ومقاطعة الأحزاب لهذه الانتخابات، وعزوف المترشحين عنها أدت إلى إعلان المجلس الدستوري استحالة إجراء الانتخابات الرئاسية، وهي الحالة التي استوجبت إطلاق المجلس فتوى دستورية متممة له.
ويوضّح المحامي عبد الله درويش في حديثه مع «ساسة بوست» أن الدستور الجزائري لم يتوقع حدوث حالة عدم التقدم للترشح للانتخابات، وفي تلك الحالة يرى درويش أن «المجلس الدستوري ليس من صلاحياته تأجيل الانتخابات، وإنما يعلن إثبات استحالة إجراء الانتخابات الرئاسية، ويُخطر رئيس الدولة بعدم توفر الشروط القانونية»، مضيفًا أنّ «صلاحيات المجلس الدستوري وفق (المادة 182) من الدستور الجزائري هي أن يسهر على صحة انتخابات رئيس الجمهورية ويعلن نتائجها، وبالتالي فالإلغاء هنا غير دستوري».
الاستعانة بفتوى دستورية لتبرير «التمديد لبن صالح»
أمام الرفض الشعبي والمقاطعة السياسية للانتخابات، وجدت السلطة نفسها في «مأزقٍ دستوري» تبرر من خلاله بقاء رئيس الدولة في منصبه؛ ليجتمع المجلس الدستوري ويعلن إلغاء الانتخابات وإصدار «فتوى دستورية» تبيح لرئيس الدولة عبد القادر البقاء على رأس الدولة الجزائرية حتى تنظيم انتخابات رئاسية جديدةٍ في ظرف 90 يومًا.
وهو الأمر الذي استغربته أستاذة العلوم السياسية الدكتورة هجيرة بن زيطة في حديثها مع «ساسة بوست»؛ قائلة إنّ الدستور الحالي لا يحتوي على حلّ لتلك المعضلة الدستورية؛ مع ذلك استطاع المجلس الدستوري تكييف فتوى من أجل البقاء تحت المسار الدستوري، واعتبرت دكتورة هجيرة أن «السلطة الفعلية والمتمثلة في المؤسسة العسكرية تتمسك بالدستور شكليًّا من أجل تجنب الضغوطات والتدخلات الخارجية حتى لا تفتح أي مجال للمساومات الدولية، لكن في أثناء الممارسة هناك تجاوز واضح للدستور كلما كان ذلك يصب في مصلحتها ورؤيتها للحل».
وحسب إسماعيل معراف أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة الجزائر، فإن «تمديد فترة رئاسة بن صالح تمت خارج إطار الدستور، وهي لا تستند على أساس قانوني، وإنما هي اجتهاد للمجلس الدستوري». ومن جهته شدّد العضو السابق في المجلس الدستوري البروفيسر عامر رخيلة على أنّ «قناعاتي ثابتة ومؤسسة على الدستور، استمرار عبد القادر بن صالح في منصبه مرتبط بمرسوم استدعائه للهيئة الناخبة، وبما أنه لا وجود لهذا المرسوم فإنني أعتبر أن بقاء بن صالح غير دستوري، وكل إجراء يتخذه باطل».
جديرٌ بالذكر أنّ الدستور الجزائري يحدّد فترة رئيس الدولة المعين بعد استقالة الرئيس المنتخب بـ90 يومًا «كأجل أقصى» على أن ينظم خلالها انتخابات رئاسية، ويسلم السلطة للفائز بها وهو الأمر الذي لم تلتزم به السلطة.
حكومة «تصريف الأعمال» تجاوزت صلاحياتها الدستورية
لا تزال حكومة تصريف الأعمال التي شكلها بدوي منذ في أواخر شهر مارس (آذار) الماضي، رحيلها هو أكثر مطالب الحراك؛ غير أنّ الدستور الجزائري الذي ينصّ في مادته 104 على عدم إقالة أو تعديل الحكومة في حال تطبيق المادة 102 وقف عائقًا أمام تلبية مطالب المتظاهرين، تمسك السلطة بالدستور للحفاظ على حكومة نور الدين بدوي اصطدم بخرق دستوري للحكومة نفسها، بعد تجاوزات في صلاحياتها؛ إذ يحدد الدستور الجزائري صلاحيات حكومة تصريف الأعمال.
غير أن الحكومة الحالية تجاوزت حسب الخبراء جميع الصلاحيات في تسييرها للملفات المسموح بها لحكومة تصريف الأعمال؛ إذ قررت العودة إلى استيراد السيارات المستعملة أقل من ثلاث سنوات، كما أنها شرعت في تحضير مشروع قانون المالية لسنة 2020، وكذا عزم وزير التعليم العالي استبدال اللغة الإنجليزية بالفرنسية في التعليم بالجامعة، وعن هذه التجاوزات للمساحة الدستورية المحددة، أكّد الخبير القانوني مقران آيت العربي أن حكومة بدوي «لا تملك لا الحق القانوني ولا السياسي ولا الشرعي لاتخاذ الإجراءات التي تباشرها منذ أشهر».
إقالة وزير العدل «الخرق الواضح» للدستور الجزائري
في بيانٍ لها أعلنت الرئاسة الجزائرية مساء الأربعاء الماضي إقالة وزير العدل حافظ الأختام، سليمان براهمي، وتعيين النائب العام لمجلس قضاء العاصمة، بلقاسم زغماتي خلفًا له، كما أنهى رئيس الدولة، مهام الأمين العام لوزارة العدل سمير بورحيل، وعيّن محمد زوقار خلفًا له، وذلك بعد استشارة الوزير الأول؛ في خرقٍ واضحٍ لدستور الجزائر الذي يمنع اقالة أو تعديل حكومة بدوي، والذي تصرّ القيادة العسكرية على المحافظة على مساره من أجل الوصول إلى حلّ الأزمة.
وفي ذات السياق أكّد الخبير الدستوري الدكتور عامر رخيلة، أن رئيس الدولة عبد القادر بن صالح، قام بالتعدي على حدود صلاحيات رئيس الجمهورية، وذلك بإنهاء مهام وزير العدل حافظ الأختام، سليمان براهمي، وتعيين النائب العام لمجلس قضاء العاصمة، بلقاسم زغماتي خلفًا له.
ويرى رخيلة أن «بن صالح أعطى لنفسه الحق في ممارسة صلاحية التعيين والإقالة وهي من المهام الحصرية لرئيس الجمهورية وليس رئيس الدولة، وهو ما تشير إليه المادة 104 من الدستور التي تنص على أنه (لا يمكن أن تقال أو تعدل الحكومة القائمة إبان حصول المانع لرئيس الجمهورية أو وفاته أو استقالته حتى يشرع رئيس الجمهورية الجديد في ممارسة مهامه)».
من جهته عبّر الأستاذ والمحلل السياسي حسين دوهاجي في حديثه مع «ساسة بوست» عن أنّ «السلطة الفعلية حاليًا في ما يتعلق الأمر بما تراه هي مصلحة عامة، فلا مشكلة عندها في تجاوز دستور الجزائر كإقالة الوزير العدل، أو إقالة المديرين العامين وتعيين آخرين خلفًا لهم، أو إجراء حركة في الإطارات السامية للدولة، أو إنهاء مهام مسؤولين برتب سامية في الجيش وتعيين آخرين بدلًا عنهم»، وأضاف دوهاجي أنّ «الدستور تحول إلى خرقة يستعملها المتحكمون في السلطة حسب الأهواء والرغبات لا أكثر، وهو مسار لا يختلف في شيء عن النظام الفاسد الذي يدّعون شن الحرب عليه».