كنا نجلس في الصف الأول، شبه ملتصقين بتلك الشاشة البيضاء الهائلة، التي أراها كما لو أنها المذبح الكبير في الكنيسة. وذروة ذلك الطقس كله تشكله اللحظة السحرية التي تنطفئ فيها الأنوار، وتغلق الستائر، وتخمد الأصوات، وتضج الشاشة بالحياة والحركة. *إيرنان ريبيرا في روايته «راوية الأفلام»
في أربعينيات القرن الماضي كانت شاشة السينما البيضاء هي منبع الأحلام والخيال، وكان الجمهور المفتون بقاعات السينما المُظلمة، وتلك الصور التي تشع بالحياة بحاجة إلى التأنق، والجميع على أتم استعداد لدفع ثمن التذكرة والجلوس على مدار ساعتين في دار العرض لمشاهدة فيلمهم المفضل.
أما الآن وفي عصر السرعة، فبإمكانك بضغطة زر أن تحصل على أي فيلمٍ تريد مشاهدته، وأنت جالس على أريكتك؛ إذ اتجهت شركات بث الأفلام عبر الإنترنت وعلى رأسها «نتفليكس» إلى مجال صناعة الأفلام والمسلسلات، بإنتاجاتٍ ضخمة تتزايد كل عام، وعروضٍ مميزة، أصبح من خلالها الفيلم يذهب إلى بيت المشاهد، بدلًا من أن يذهب إليه المشاهد في بيته، مما أثار مخاوف هوليوود من انقراض الشاشة الفضية في المستقبل، لتصبح بعد سنوات مجرد ذكرى.
كيف كونت «نتفليكس» إمبراطوريتها؟
من شركة تأجير وبيع الأقراص الرقمية (DVD) عبر البريد، إلى واحدة من كبرى شركات الإنتاج السينمائي، هكذا تدرجت شركة نتفليكس منذ تسعينيات القرن الماضي، تحديدًا عام 1997، حتى وصلت إلى كونها اليوم إمبراطورية تسعى لمنافسة دور العرض السينمائي، عن طريق بث الأفلام الجديدة كعرضٍ أول عبر الإنترنت.
بدأت نتفليكس شركة صغيرة لتأجير شرائط الفيديو والأقراص الرقمية، من قبل مؤسسيها ريد هاستينغز ومارك راندولف، إذ أتت فكرتها لرجل الأعمال المخضرم هاستينغز عندما أجبر على دفع 40 دولارًا غرامة تأخير شريط فيديو كان قد استأجره عبر البريد لفيلم أبوللو.
ضخ ريد هاستينغز حوالي 2.5 مليون من الدولارات لتأسيس الشركة في بدايتها، وأدخل صيغة الأقراص الرقمية (DVD) لأول مرة، والتي كان بمقدورها تخزين فيلم روائي كامل على قرص مقاسه خمس بوصات؛ وعلى الرغم من أن الأجهزة التي تقوم بتشغيل تلك الأقراص كانت في ذلك الوقت باهظة الثمن، وكان عدد قليل نسبيًا من الأمريكيين قادرين على شرائها، إلا أن هاستينغز وراندولف قد راهنا على المُستقبل، وبذكاءٍ حاد تركوا الاختيار ما بين شرائط فيديو فقيرة الجودة والأقراص الرقمية إلى المُستهلك في بداية الأمر، قبل أن تختفي شرائط الفيديو من الساحة، تاركة إرثها للأقراص الرقمية، والتي كانت تكلفة تأجيرها أربعة دولارات لمدة سبعة أيام، بالإضافة إلى دولارين هي تكلفة الشحن عبر البريد.
Embed from Getty Images
ريد هاستينغز، مؤسس نتفليكس
كانت الحملات الإعلانية التي روجتها الشركة في بدايتها غاية في الذكاء وأتت برد فعلٍ قوي لدى الجمهور؛ إذ كانت هناك رحلات ترويجية يعلن عنها للفائزين، كما عملت الشركة على تسويق الأقراص الرقمية كهدايا بالاتفاق مع شركاتٍ أخرى، فكان الإقبال الجماهيري على نتفليكس مذهلًا، لدرجة أدت إلى إغلاق الموقع الإلكتروني للشركة بشكلٍ مؤقت بعد افتتاحه بيومين؛ إذ لم يتحمل الموقع ضغط هذا العدد الكبير من المستخدمين.
بمرور الوقت نمت مكتبة نتفليكس بالمحتوى الفني والترفيهي، وأصبح الأمر يتم برمته عبر الإنترنت، وموقع الشركة الخاص بدلًا من البريد؛ وفي عام 2007 كان لدى الشركة رؤية مختلفة لمُستقبل الترفيه عن منافسيها، إذ بدأت في عملية بث الفيديوهات عبر الإنترنت، دون أية تكاليف زائدة على المُستهلك، وهو الأمر الذي لم يسعَ فقط لراحة العملاء، بل عمل أيضًا على تقليل تكاليف الخدمة بالنسبة إلى الشركة؛ فلم تعد بحاجة إلى بيع أقراص رقمية فعلية، أو استئجار أماكن للتوزيع، أو حتى دفع تكلفة الشحن بالبريد.
وبوجود الإنترنت في كل بيت، نما عدد متابعي نتفليكس؛ إذ وصل في عام 2014 طبقًا لتقرير (CNN) إلى 50 مليون متابع في حوالي 40 دولة، وفي يوليو (تموز) الماضي، أعلنت الشركة وصول عدد متابعيها إلى 104 مليون متابع حول العالم، وهو ما يشير إلى ازدياد ضخم في عدد المتابعين خلال ثلاث سنواتٍ فقط، وعن ذلك أعربت الشركة الأمريكية بأن الرقم كان أعلى من التوقعات، ويدل على أن الاستثمار في العروض والأفلام الجديدة كان يؤتي ثماره.
السعي نحو احتكار الصناعة
بدأت نتفليكس مع بداية شهرتها منذ 2007 وحتى الآن في التعامل مع عالم الأفلام المُستقلة؛ إذ أصبح الكثير من منتجي الأفلام المُستقلة يفضلون بث أفلامهم عبر شبكة نتفليكس، وهو الأمر الذي ساعد الاستديوهات المستقلة حينذاك على توزيع أفلامهم بشكلٍ أفضل من أي وقتٍ مضى، ومع حلول عام 2013، بدأت مكتبة نتفليكس تسعى إلى عمل محتوى أصلي خاص بها؛ بدءًا من مسلسل House of Cards وصولًا إلى Orange Is The New Black واللذين وصلا لشهرة واسعة حول العالم، وبينهما مئات العروض كانت كلها إنتاج خاص للشركة.
وفي أواخر عام 2017، أعلنت نتفليكس ضخ أكثر من 8 مليارات دولار، في خطة لتطوير إنتاج المحتوى الأصلي الخاص بمكتبتها، وكانت خطة عام 2018 تهدف لأن تحتوى مكتبة نتفليكس الفنية على 50% من محتوى سينمائي وتلفزيوني أصلي من إنتاجها.
يشير التقرير إلى أن مكتبة نتفليكس الأصلية – أعمال من إنتاجها الخاص – هي سر نجاحها حتى اليوم، إذ تُعد سيطرة الشركة على صناعة محتواها الخاص، خطة نحو السيطرة على مستقبل مصيرها؛ وخوفًا من أن تتلقى أية ضربات قادمة من منتجين يحجبون أعمالهم عن مكتبتها.
وعلى الرغم من وجود منافسين للشركة على ساحة البث عبر الإنترنت وإنتاج المحتوى الخاص مثل مؤسسة Hulu (هولو)، والتي لا تعتمد سوى على جمهور الولايات المتحدة الأمريكية، ومؤسسة Amazon (أمازون) والتي تعتبر المنافس الأساسي حول العالم، إلا أن نتفليكس تمكنت من أن تحتفظ بمكانتها في المقدمة؛ إذ عمدت إلى اقتراض بعض التجارب من منافسيها؛ فاستفادت من تجربة هولو مع الـ«USP» الخاص بها والذي يعرض آخر الحلقات والإنتاجات للأعمال الفنية والبرامج الترفيهية، كما استفادت من تجربة أمازون مع بث الأعمال التلفزيونية للمشتركين الدوليين أثناء العرض المباشر على القنوات المحلية، وهو ما قامت به نتفليكس خلال عرض الموسم الأخير من سلسلة Breaking Bad.
ويرجع تقرير«ذي أتلانتك» سبب هذا النجاح الساحق للمؤسسة إلى شبكة المعلومات؛ إذ تحتفظ نتفليكس بقاعدة بيانات قوية ومفصلة عن عملائها، قامت بجمعها عبر سنوات اشتراكهم، وقد ساعدت تلك المعلومات المفصلة عن العملاء في البداية على معرفة ما الذي يفضله العميل من الأعمال السينمائية أو الترفيهية، وذلك من أجل اقتراحات الموقع على العميل عما قد يفضل مشاهدته؛ ولكن فيما بعد استُخدمت تلك القاعدة من أجل معرفة الذوق العام، ونوعية الأعمال التي قد يصاحبها النجاح، وذلك لاستخدامها في تحديد الإنتاجات الخاصة بالشركة.
عن ذلك يقول الكاتب أليكسيس مادريجال: «عندما بدأت نتفليكس الإنتاج، كان لديها قاعدة بيانات عن الميول السينمائية الأمريكية، وتلك البيانات قد لا تستطيع أن تخبرهم عن كيفية عمل برنامج تليفزيوني، إلا أنها تخبرهم عما يجب أن يقدموه؛ فعندما أنتجت الشركة مسلسل House of cards، لم يخمنوا ما الذي يريده المشاهدين، بل كانوا يعرفون».
هل ستختفي دور العرض حقًا في المُستقبل؟
في القرن الماضي، تحديدًا عام 1936، بدأ بث أول انطلاقة في الولايات المتحدة لجهازٍ صغير سحري قادر على جلب الأفلام والأخبار إلى بيتك، ليحل محل دور العرض السينمائي، والراديو الذي كان المحطة الأساسية لمعرفة الأخبار؛ هكذا بدا أول ظهور للتلفزيون في العالم، تبع تلك الانطلاقة انتشار هذا الجهاز بين دول العالم، حتى وصل إلى المشاهد العربي عام 1956 في العراق، لتكون هي الدولة العربية الأولى صاحبة الريادة في ذلك، قبل أن تتبعها مصر عام 1961.
كان ظهور التلفزيون في ذلك الوقت يشكل تهديدًا صريحًا لصانعي السينما في العالم، وقد عبر إيرنان ريبيرا في روايته «راوية الأفلام» عن تلك المخاوف قائلًا: «وصل في تلك الأيام بالذات أول جهاز تليفزيون إلى المكتب، وهو جهاز، مثلما كان ينتظر الجميع، سيقضي دفعةً واحدة وإلى الأبد على السينما»، وُصف هذا الجهاز الصغير بالوباء الذي اجتاح العالم؛ إذ ظهرت في دور العرض السينمائي – ولأول مرة في تاريخها – صفوف كاملة من المقاعد الشاغرة، لصالح هذا الصندوق البارد الصغير، وتلك الصور الشبحية التي تظهر فيه بلا أدنى جودة.
استطاعت السينما أن تتعافى من الوعكة الصغيرة، إبان ظهور التلفزيون، إذ لم تكن تلك الشاشة الصغيرة تعرض سوى أفلام قديمة، تاركةً للسينما ساحتها وأعمالها لتعرض لأول مرة فيها، وبمرور الوقت أصبحت تكنولوجيا شاشات السينما تستطيع أن تحاكي الصورة المعروضة ببعض المؤثرات الصوتية والمرئية والحركية حتى، مما جعلها تتفوق على نظيرها، إلا أن المخاوف الآن على دور العرض السينمائي أصبحت أكبر بكثير من أي وقتٍ مضى.
مع كل هذه الإنتاجات الضخمة، والعروض التي تبث حصريًا على شبكة الإنترنت من خلال المواقع الإلكترونية مثل نتفليكس وأمازون وهولو، أصبحت صناعة السينما مُهددة في نظر منتجي هوليود، لدرجة جعلتهم يتوقعون وفاة السينما التي نعرفها؛ إذ إضافةً إلى تلك المواقع الإلكترونية، أصبحت تكنولوجيا شاشات التلفزيون الحديثة تسعى جاهدة لمحاكاة شاشات السينما، بدءًا من استخدام خاصية الـ 3D وصولًا إلى كبر حجم الشاشة التي قد تصل إلى حجم شاشات السينما ونفس إمكانياتها، ولكن في بيتك.
فإذا كنت تبحث في مواقع بيع الأجهزة التلفزيونية الحديثة لعام 2018، فستنبهر بخاصية الـ4K، وهي تكنولوجيا حديثة قادرة بالفعل على جلب صورة السينما إلى منزلك، ولكنها تتجاوز الصورة لصوت سينمائي، قد لا يحتاج مكبرات صوت خارجية، مع أحجام الشاشات قد تصل إلى 65 بوصة، فهل التكنولوجيا الحديثة ومواقع بث الأفلام الإلكترونية قادرة حقًا على قتل السينما؟
يقول الكاتب جوش ديكي في مقاله عن مواقع بث الأفلام الإلكترونية، والتكنولوجيا الحديثة للشاشات التلفزيونية، أن صناعة السينما، تلك التي استطاعت أن تصمد على مدار أكثر من 120 عامًا، تلقى الآن حتفها في غرفة المعيشة بمنازلنا؛ مُشيرًا إلى أن دور العرض السينمائي تموت بالبطيء، وللأسف بشكلٍ مؤكد، عن طريق مواقع بث الأفلام عن طريق الإنترنت، تلك التي أصبحت قادرة على أن تجلب أفلام العرض الأول السينمائي إلى بيتك بعد حوالي عشرة أيام فقط من عرضها الخاص بقاعات العرض.
«هوليوود تبيع الشيء الوحيد الذي كان قادرًا على إبقاء المُشاهد داخل قاعات السينما، وهو لا علاقة له برومانسية نظرتنا الخاصة عن التجربة السينمائية، من الشاشة العملاقة، إلى القاعة المُظلمة، وغرباء تتشارك معهم الفيلم، ولكن السحر الحقيقي الذي يباع، هو المحتوى الحصري، الذي يجبرنا على أن نشتري التذكرة، لأننا لن نشاهد هذا العمل في أي مكانٍ آخر»، هكذا عبر جوش عن الصفقات الأخيرة، التي على وشك أن تُعقد الآن في استديوهات هوليوود، والتي ستسمح للإصدارات الجديدة من أفلام هوليوود بأن تبث في نفس الوقت عبر الإنترنت مقابل من 30 إلى 50 دولار، مُصرحًا بأن دور العرض السينمائي لن تستطيع أن تصمد أكثر من 10 إلى 15 عامًا آخرين، موجهًا رسالته للجميع: «استمتعوا بالسينما، بينما لا يزال هناك وقت».