«إننا تافهون مقارنةً مع أبعاد الكون ومسار التاريخ، وكل شيء سيستمر على حاله بعد موتنا، وكأننا لم نوجد على الإطلاق؛ ولكنك بمقاسات إنسانيتنا المؤقتة يا باولا أنت أهم عندي من حياتي نفسها، ومن مجمل حيوات الآخرين كلهم تقريبًا، كل يوم، يموت نحو سبعين مليون نسمة ويولد عدد كبير منهم، و مع ذلك فإنك أنت وحدك التي ولدت، وأنت وحدك التي قد تموتين» *إيزابيل الليندي – رواية «باولا»
بدأت الكاتبة التشيلية الكبيرة إيزابيل الليندي في كتابة روايتها «باولا»، محاولةً منها دفع الموت بعيدًا عن ابنتها الوحيدة باولا، التي وقعت فريسة مرض عضال، حاولت إيزابيل أن تخدع الموت بالحكاية، إلا أن مع كل حرف كانت تكتبه كانت تقترب باولا من الموت أكثر، فسجلت الليندي مشاعرها بوصفها أمًّا ثكلى، لكنها في الحقيقة كانت صوت لكل أم فقدت أحد أبنائها.
الحزن على الأبناء مختلف
وفاة الأبناء هي أقسى تجربة يمكن أن يمر بها الآباء، والتي عادةً ما تغير حياة الآباء للأبد فيصبح الحزن هو الرفيق الأبدي لهم، حاول الكثير من العلماء والخبراء النفسيين وخبراء الصحة العقلية دراسة الموت والخسارة والفقد، وتفسير المشاعر المختلفة التي ترافقهم، إذ تُشير مقالة منشورة على موقع «بي سايك سنترال» المهتم بالصحة العقلية إلى «نظرية كوبلر روس» للحزن والفقد والتي قدمتها الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس؛ لتفسير عاطفة الحزن التي ترافق الفقد.
وأشارت النظرية إلى أن أي إنسان يمر بخمس مراحل مختلفة تصاحبه أثناء عملية الفقد، إلى أن يصل إلى مرحلة التعافي وحددت روس هذه المراحل في إنكار الموت ثم الغضب ثم المساومة ثم السقوط في دائرة اكتئاب، والذى يعقبه المرحلة الأخيرة وهي التقبل والعودة إلى الحياة الطبيعية مرة أخرى إلا أن هذا لا يحدث في حالة وفاة أحد الأبناء.
«اضطراب الفجيعة المزمن»
«إلي الأبد.. ما هذا يا بولا لقد فقدت حساب الزمن، لقد تلاشت حدود الواقع؛ الحياة متاهة مرايا متقابلة وصور مشوهة، في مثل هذه الساعة قبل شهر كنت امراة أخرى، أكثر شبابًا بقرن مما أنا عليه الآن» *إيزابيل الليندي، رواية «باولا»
تتلاشى أعراض الحزن الطبيعي تدريجيًّا بمرور الوقت، إلا أن حزن الآباء على الأبناء لا ينتهي، هو حزن يشبه ألمًا متواصلًا مكبوتًا، يقف حائلًا أمام عودة الآباء إلى حياتهم الطبيعية مرةً أخرى، ويُسمي دليل تشخيص الأمراض النفسية «DSM» هذا الشعور المتناهي من الحزن بـ«اضطراب الفجيعة المزمن»، أو «PCBD»؛ وهو حالة حزن مطولة بسبب فقد عزيز، لا تتحسن بمرور الوقت، ويشعر الشخص المصاب بها باشتياق للميت، مع صعوبة في استئناف حياته الطبيعية، كما ذكر موقع «ثيرافيف كونسيلينج» المعني بالصحة العقلية.
يشير «اضطراب الفجيعة المزمن» إلى حالة الحزن المزمنة نتيجة فقدان أحد أفراد الأسرة أو شخص عزيز، ويصاحب هذه المشاعر أفكار وسلوكيات هدامة تعرقل سير الحياة الطبيعية، فيشعر الآباء المكلومون بالاكتئاب واليأس والعجز، والوحدة والرغبة في الموت، والشعور بالذنب.
وفي هذا السياق تشير كاثرين روجرز، عالمة النفس والمؤلفة الرئيسية لدراسة عن «الآثار طويلة الأمد لموت الأبناء على الآباء»، والمنشورة على موقع «المكتبة الأمريكية» أن موت أحد الأبناء لا يجعل الآباء عرضة لمجموعة متنوعة من المشكلات النفسية فقط، إلا أنه يصيبهم ببعض الأعراض العضوية مثل «متلازمة القلب المكسور»؛ وهي حالة تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ أعراض النوبة القلبية.
ما المقصود بـ«متلازمة القلب المكسور»؟
«طفل دون سن الخامسة عشرة يموت كل خمس ثوانٍ في العالم» *الأمم المتحدة
تعد متلازمة القلب المكسور رد فعل لصدمة عاطفية قوية مثل موت أحد الأبناء، وهي حالة تشبه إلى حد كبير أعراض النوبة القلبية، ويوضح موقع «مايو كلينك» الطبي أن الجسم خلال متلازمة القلب المكسور يفرز معدلات كبيرة من هرمونات التوتر، مثل الأدرينالين؛ والتي تؤثر بشكلٍ كبيرٍ في آلية عمل عضلة القلب، فينخفض تدفق الدم في شرايين القلب ويعاني الشخص من أعراض تشبه النوبة القلبية التي تحدث في الأساس نتيجة انسداد كلي أو جزئي في شرايين القلب، وذلك على عكس متلازمة القلب المكسور التي تكون فيها الشرايين غير مسدودة.
متى ينتهي كل هذا الحزن؟
«أضع يدي على قلبي وأغمض عيني وأركز تفكيري، هنالك شيء قاتم في الداخل إنه يبدو في البدء مثل الهواء في الليل، ظلمات شفافة، لكنه ما يلبث أن يتحول إلى رصاص كتيم، أحاول تهدئة نفسي، وتقبُّل ذلك السواد الذي يحتلني بالكامل» *إيزابيل الليندي، رواية «باولا»
يبدو أن كل محاولات التهدئة والتعايش تصبح مؤلمة مهما مرت السنوات على حوادث فقد الأبناء، يظهر ذلك ضمن نتائج الدراسة الطويلة التي أجرتها عالمة النفس كاثرين روجرز، والتي تشير إلى أن هناك بعض الآباء الثكالى الذين رافقتهم أعراض الحزن والاكتئاب على مدار 18 عامًا من وفاة أبنائهم، تقول روجرز إن إحساس الفقد يظل يرافق الآباء طوال سنوات حياتهم، كما لو كان الأمر يشبه عملية بتر أحد الأعضاء، إحساس حي بفقدان دائم لجزء من جسده، قد يتكيف معه لكنه لن ينمو مرةً أخرى.
نشر موقع «ويب ميد» الطبي عام 2005 شهادة مجموعة من الآباء الثكالى الذين فقدوا أبناءهم في حوادث مختلفة، إحدى هذه الشهادات كان لجلوريا هورسلي، مستشارة الحزن والفقدان في سان فرانسيسكو، وواحدة من الآباء الذين فقدوا أبناءهم تقول فيها: «السنة الأولى من فقدان أحد الأبناء هي السنة الأصعب، وتزداد فيها معدلات إصابة الآباء بالاكتئاب ونوبات الغضب»، تضيف هورسلي: «فقدت ابني البالغ من العمر 17 عامًا في سنة 1983، وعلى الرغم من أنني كنت أعمل معالجة نفسية وأعلم كيفية التعامل مع الحزن فإنني لم أستطيع أن أتجاوز حزني».
يقول واين لورد الذي فقد طفليه الاثنين في حادث سيارة منذ أكثر من 14 عامًا «لا توجد خسارة في الدنيا أكبر من فقدان أبنائك كلما مر الوقت كلما تعمق حزنك، موت الأبناء هو الحزن الذي يصاحبك بقية عمرك، أبناؤك هم إرثك عندما تفقدهم تفقد مستقبلك»، ويضيف لورد «على الرغم من كل هذا الحزن الذي لا يمكن تجاوزه إلا أنه ما زالت هناك فرص للتعافي والمضي قدمًا».
كيف يتجاوز الآباء كل هذا الفقد؟
«ما الذى سيحدث لهذا الفراغ العظيم الذي هو أنا الآن؟ بماذا سأملأ نفسي عندما لا تبقى قشة واحدة من الطموح، عندما لا يبقى أي مشروع ولا أي شيء مني؟ تختزلني قوة الامتصاص إلى حفرة سوداء وسأختفي. الموت؛ مغادرة الجسد هي فكرة فاتنة، لا أريد البقاء حية وأنا ميتة من الداخل وإذا كنت سأستمر في هذا العالم فلا بد لي أن أنظم سنواتي المتبقية» *إيزابيل الليندي، *رواية باولا
يقاوم الآباء فكرة التعافي من وفاة أطفالهم بسبب شعورهم بالذنب تجاه أبنائهم المتوفين، لذلك فإن المضي قدمًا لا يحدث بسلاسة، لكن هناك بعض النصائح الطبية التي قد تساعد في عملية التعافي:
1- التدخل والعلاج المبكر أمر بالغ الأهمية
يمكن أن تترك الصدمات واضطرابات ما بعد الصدمة واضطراب الفجيعة المزمن الناتجة من فقدان الطفل ندوبًا دائمة يمكن أن تغير سلوك الشخص وشخصيته تمامًا لبقية حياته إذا تُركت دون علاج.
البحث عن العلاج يمكن أن يغير حياة المرء تمامًا، مما يمنحه فرصة للعودة إلى الحياة قبل الصدمة، قد تساعد المساعدة المهنية المتخصصة من قبل الطبيب النفسي على تخفيف مشاعر الحزن وسرعة التعافي، من خلال الخطط العلاجية المختلفة التي يقدمها الطبيب النفسي من علاج دوائي أو العلاج السلوكي المعرفي.
2- إيجاد معنى في الحياة
وفقًا لموقع الجمعية الأمريكية لعلاج الأورام، لا يتصالح الآباء مع فكرة موت أبنائهم، إلا أنهم مع الوقت يتعلمون كيفية التعايش مع خسارته الكبيرة، يساعدهم في ذلك العثور على معنى وهدف جديد يحيون من أجله، مثل إنجاب طفل جديد أو الانخراط في العمل التطوعي.
3- اللجوء إلى العائلة أولاً وأخيرًا
أشارت دراسة عن كيفية تعامل الآباء الثكالى مع حزنهم منشورة على موقع «ساج ببليشينج» إلى أن عددًا كبيرًا من الآباء أكدوا الدور الفعال الذي لعبته عائلاتهم في دعمهم عندما احتاجوا إلى مساحات آمنة للتعبير عن حزنهم، وكيف ساعدتهم الروابط العائلية والاجتماعية في توفير مساحات من الدعم والحب غير المشروط والاستماع إلى أوجاعهم دون الحكم على مشاعرهم.
4- مجموعات الدعم.. طوق نجاة آخر
وفقًا لموقع «فيري ويل فاميلي» الطبي فإن مجموعات الدعم تعد إحدى المساحات الآمنة التي قد تساعد الآباء الثكالى من التخفيف من وطأة الحزن والفقد من خلال مشاركة تجاربهم الشخصية ومشاعرهم مع آباء آخرين، الأمر الذي يساعدهم في تفهم مشاعرهم بشكل صحيح والتعبير عنها دون خجل وتسميتها، كما أن تبدل الأدوار والاستماع إلى آباء آخرين وتقديم الدعم لهم يساعد بشكل كبير في تحسين آليات التكيف لديهم.
5- لا بأس بالاستسلام لاستراحة قصيرة
أحيانًا تمثل بعض المسؤوليات مثل رعاية الأطفال الآخرين ضغوطًا إضافية على الآباء الثكالى، لذلك من الأفضل لهم التَخفف من بعض المسؤوليات وطلب دعم العائلة لتولي بعض مهام رعاية الأبناء أو المهام المنزلية المختلفة، وأخذ استراحة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق، وإعادة البحث عن الذات من جديد، قد يساعد في ذلك ممارسة الرياضة، وممارسة اليوجا والتأمل.
30 عامًا مضت منذ أن فقدت الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي ابنتها الوحيدة باولا، كتبت خلالها إيزابيل الليندي 13 رواية، تحول بعضها إلى أعمال سينمائية، وشاركت خلال هذه السنوات في العمل التطوعي وقدمت الكثير من الحكايات الملهمة عن الحب والشغف والأمل، لكن «باولا» تظل حكايتها الأكثر إلهامًا.