تربية طفل قادر على الإنجاز والتعلم واكتساب المهارات المختلفة، هو حلم يسعى إليه الكثير من الآباء ومقدمي الرعاية، خاصة في العصر الحالي الذي يشهد الكثير من التنافس في مختلف المجالات، والأسر المحظوظة هي التي تتوافق رغبتها في تربية طفل ناجح مع رغبة طفلها في التحقق والتعلم وإنجاز المهام المختلفة.
إلا أن هذه المعادلة ليست دائمًا تميمة حظ الأطفال وأسرهم، خاصة وإن تحولت رغبة الطفل في الإنجاز والتحقق إلى هوس ورغبة مرضية في الوصول إلى المثالية والكمال، الأمر الذي يجعل الطفل غير راضٍ تمامًا عما يحققه وفي حالة قلق وإحباط وانتقاد دائم لنفسه، حتى وإن أدى المهمة الموكلة إليه على أكمل وجه. يُعرف علماء النفس هذه الحالة باسم «perfectionism» أو السعي نحو الكمال، فما هو؟
عرفت الدكتورة مجدة السيد أستاذ علم النفس الإكلينيكي في جامعة الملك عبد العزيز في دراسة لها هي وباحثون آخرون منشورة على موقع «ريسرش جيت» السعي نحو الكمال، بأنه الرغبة السوية التي تدفع الفرد إلى الإنجاز العالي والأداء المثالي، إلا أن هناك جانبًا مظلمًا من السعي نحو الكمال وهو «الكمالية العصابية».
ما هي الكمالية العصابية إذًا؟
تشير الدكتورة مجدة السيد إلى أن الكمالية العصبية هي «رغبة الطفل في تحقيق أعلى مستويات الأداء بشكل مبالغ فيه، ولا يتناسب مع قدراته العقلية والجسدية، فيشعر دائمًا بعدم الرضا والإحباط ويقع في دوائر الاضطرابات النفسية تحت ستار التفوق والإنجاز».
كيف يحدث ذلك؟
تساعد رغبة الطفل نحو إنجاز بعض المهام الصعبة على تنمية قدراته وتعزيز ثقته بنفسه، لكن الإفراط في وضع أهداف غير واقعية ورفع سقف التحديات يجعل الطفل يمارس ضغوطًا هائلة على نفسه في محاولة لتحقيق هذه الأهداف مما يضر بصحته النفسية.
وقد أشارت الباحثة نوال محمد موسى في رسالة ماجستير من إعدادها منشورة على موقع جامعة الملك سعود، إلى أن الطفل الذي يسعى إلى تحقيق الكمال والمثالية عادة ما يقع تحت تأثير واحدة من عدة أنماط للكمالية:
- الكمالية الذاتية: وتشير إلى وضع الطفل معايير أداء عالية وغير واقعية ويلزم نفسه بتحقيقها.
- الكمالية الموجهة للآخرين: وهي توقع الطفل من الآخرين أداء مثاليًّا ودقيقًا ويشعر بالصدمة إذا خالفت توقعاته الحقيقة.
- رغبة الطفل الملحة في إتمام كل المهام والتعاملات على أكمل وجه وبشكل مثالي حتى يشعر بالقبول والاستحسان من الآخرين.
- عدم تقبل الخطأ: فحصول الطفل على علامة غير كاملة في الامتحان مثلًا، أو فوزه بمركز ثان في رياضة معينة أو مسابقة، أو حتى عدم فوزه في لعبة عادية مع أصدقائه يجعله يشعر بالفشل والإخفاق.
- التخطيط المسبق قبل اتخاذ أي قرار خوفًا من الوقوع في الخطأ.
- التنظيم الشديد.
تهدد الأنماط السابقة جميعها سلامة الطفل النفسية، إلا أنه وفقًا لدراسة نشرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس فإن «الكمالية الذاتية» هي الأكثر تعقيدًا من حيث قدرتها في التأثير على الطفل، لأنها غالبًا ما ترتبط بصورة الطفل عن نفسه وربطه لاحترامه لذاته بقدرته على الإنجاز الذي يجعله دائمًا في حالة جلد للذات، وفريسة للاكتئاب وفقدان الشهية العصبي.
وفي هذا السياق أشارت دراسة منشورة على موقع «المجلة الإيرانية للطب النفسي والعلوم السلوكية» إلى العلاقة بين الرغبة في تحقيق الكمال وبين بعض الاضطرابات النفسية، فالرغبة في تحقيق الكمال تُعد عملية نفسية شائعة في اضطرابات مختلفة مثل اضطرابات القلق، والاكتئاب، واضطراب الوسواس القهري (OCD)، واضطرابات الأكل.
لماذا قد يسعى طفلك إلى الكمالية؟
تعد مرحلة الطفولة المبكرة -الفترة من ثلاث إلى خمس سنوات- من الفترات الحرجة التي تتطور فيها شخصية الطفل ويكتسب فيها الكثير من من المهارات المختلفة، وتشير دراسة منشورة على موقع المكتبة الوطنية الأمريكية للطب أنه على الرغم من أن مرحلة الطفولة المبكرة تُعد مرحلة حاسمة لتطوير سمات الكمالية عند الأطفال، فإن هناك عدة عوامل تساعد على تحفيزها بشكل كبير ومنها:
1- متطلبات الحياة الاجتماعية
في العصر الذي نعيش فيه يبدو كل شيء من حولنا محفزًا على التنافس، فلم تعد تنمية الطفل مقتصرة على المدرسة والتعليم النظامي، بل أصبح هناك اهتمام كبير من قبل الكثير من الآباء ومقدمي الرعاية بتنمية مهارات الطفل المختلفة وممارسة الرياضة وتعلم الموسيقى واللغات والرسم، مما يشكل عبئًا كبيرًا على الطفل، ويجعله دائمًا في دائرة المنافسة وحالة من السعي المستمر نحو الكمالية.
2- الاهتمام المبالغ فيه بإنجازات الأطفال
يحتاج الطفل إلى التشجيع الدائم سواء أصاب أم أخطأ، إلا أنه في كثير من الأحيان يقع بعض الآباء في فخ التعزيز الانتقائي للإنجازات فقط، الأمر الذي يشعر الطفل بأن تقبل والديه له مرهون بنجاحاته فقط.
3- لا مجال للخطأ
ترديد عبارات مثل «يجب أن تكون أنت الأفضل» أو «يجب أن تحصل على المركز الأول»، تجعل الطفل يشعر أن الخطأ أمر سيئ وغير مقبول، ويجعله دائمًا في حالة خوف من البدء في أي أمر جديد تجنبًا للخطأ.
4- الضغوط الدراسية
تشكل المدرسة عبئًا كبيرًا على الأطفال الساعين للكمال، فهاجس الحصول على العلامة الكاملة والتفوق في كل المواد يطاردهم طوال سنوات التعلم.
5- الآباء المثاليون
يشير موقع «فيري ويل فاميلي» أنه على الرغم من أن العوامل الوراثية لها دور في اتسام الطفل بالكمالية فإنه في بعض الأحيان يكون السعي وراء الكمال سلوكًا مكتسبًا من أحد الآباء الذين يتسمون بالكمالية، فيصبح الطفل مطالبًا بأداء كل شيء على أكمل وجه، مدفوع برغبته المكتسبة للكمال ورغبة الأهل التي تشكل ضغطًا كبيرًا عليه.
متى يجب عليك التدخل ومنع ابنك من السعي نحو الكمال؟
قد تبدو فكرة السعي وراء الكمال فكرة مثالية للوهلة الأولى، إلا أن تأثيرها السلبي على طفلك قد يجعلك تُعيد النظر في الأمر، خاصة إذا ظهرت عليه أحد العلامات التالية، والتي نشرها موقع مؤسسة «كندا انزيتي» أحد المؤسسات الكندية المعنية برفع الوعي بالصحة النفسية:
- الشعور بالقلق والخوف من ارتكاب الأخطاء.
- التهرب من إتمام المهام وتأجيلها خوفًا من عدم إنهائها كما يرغب.
- الشعور بالإحباط والهزيمة وتضخيم الأمور البسيطة.
- إظهار ردود أفعال مبالغ فيها والانهيار إذا لم تسر الأمور كما يرغب مهما كان الأمر بسيطًا حتى وإن كان خسارته في لعبة أمام أحد أصدقائه.
- الخوف من خوض تجارب جديدة لأنه يخاف الخسارة والفشل.
وكيف تساعد طفلك الساعي نحو الكمال؟
غالبًا ما يخفي الأطفال الذين يتسمون بالكمال الضغوط التي يعانون منها من توتر وقلق، لذلك إليك مجموعة من النصائح التي قد تساعد طفلك على اكتساب سلوك متوازن يساعده على التطور والنمو في بيئة صحية:
1- قدم لطفلك الحب غير المشروط
قدم لطفلك الحب غير المشروط وامدح إخفاقاته قبل إنجازاته، فالحب غير المشروط وفقًا لمقالة منشورة على موقع «هيلث إن» الطبي يساعد على تحسين الصحة العقلية للطفل، بالإضافة إلى أنه يساعده على تجاوز أي أحداث تؤثر فيه بشكل سلبي وتدعمه لتقبل ذاته واحترامها.
2- هناك دائمًا فرصة للتعلم
أخبر طفلك أن إتقان العمل أمر مستحسن، وإن رغبته الدائمة في بذل الكثير من الجهد أمر طيب، لكن هذا لا يمنع أن هناك مساحة للخطأ والتجربة والتعلم واكتساب المهارات المختلفة، فالخطأ لا يعني دائمًا أنه مقصر لكنه يعني أن هناك دائمًا فرصًا جديدة للتعلم.
3- استمع إلى صوت مخاوفه
شجع طفلك على الحديث عن مخاوفه من الإخفاق والفشل، أخبره أنه لا بأس من كل تلك المخاوف حاول أن تناقشها معه بهدوء، ويؤكد موقع «فيري ويل فاميلي» أن إجراء مثل هذا الحوار مع الأبناء يساعدهم على التخلص من جلد الذات وبناء حوار إيجابي مع أنفسهم يجعلهم قادرين على تجاوز كل تلك المخاوف تدريجيًا.
4- ركز على نقاط القوة وساعده على تطوير نقاط الضعف
ساعد طفلك على معرفة نقاط قوته واستغلالها بشكل مناسب لقدراته العقلية والجسدية، فعادة ما يعتقد الطفل أنه إذا أبدع في شيء ما، لن يستعصي عليه أي شيء آخر، ويقوم برفع سقف أدائه للمهام المختلفة فيشعر بالإحباط واليأس في النهاية؛ كما أنه من المهم أيضًا أن تخبر طفلك بنقاط ضعفه وتساعده على تطويرها وتقبلها.
5- اطلب المساعدة المهنية المتخصصة
قد يؤدي السعي إلى الكمال إلى العديد من المشاكل التي تضر بصحة طفلك النفسية، فيصاب ببعض الاضطرابات مثل القلق والاكتئاب، لذلك من الأفضل طلب المساعدة المهنية المتخصصة من الطبيب النفسي أو من أخصائي العلاج السلوكي.