في مطلع سنة 2013، كانت الساحة السياسية في مصر على صفيح ساخن، فبعد سنتيْن من الثورة الشعبية التي أطاحت الرئيس حسني مبارك، ووصول الرئيس المنتخب محمد مرسي إلى السلطة؛ عرفت البلاد حالة حادَّة من الاستقطاب بين التيار الإسلامي ممثَّلًا بشكل رئيسي في جماعة الإخوان المسلمين التي وصلت إلى الرئاسة، وفازت بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية؛ وبين التيار المدني ممثلًا في أحزاب وشخصيات سياسية ليبرالية ويساريَّة تجمَّعت في تنظيم «جبهة الإنقاذ» المُعارضة، والتي أيَّدت إطاحة مرسي من طرف الجيش. 

اتَّسمت أول تجربة ديمقراطية بعد ثورة 25 يناير بجوٍّ حاد من الاستقطاب الأيديولوجي بين الإسلاميين وخصومهم سبق صعود مرسي للسلطة، وبحسب الكثير من المراقبين فقد استغلت هذا الاستقطاب والحالة العدائية «الدولة العميقة»؛ إذ انتشر الخطاب الناري الإقصائي ضد المخالفين والمُعارضين، وجرى تخوين الرأي الآخر، وغاب صوت العقل لصالح العاطفة والانحياز الأيديولوجي، وجرى تغليب صراعات الهويَّة والدين خلال النقاشات حول الدستور بدلًا من التركيز على آليات الانتقال الديمقراطي وتفكيك شبكات النظام القديم.

يرى الكثيرون أن فشل التجربة الديمقراطية قصيرة العُمر بعد الثورة المصريَّة، كان أحد أسبابه الرئيسية انخراط الأطراف السياسية المتنازعة في الاستقطاب الأيديولوجي، وفي الوقت الذي حاول كل طرف تحقيق انتصارات مرحليَّة على خصمه السياسي، كان النظام القديم يعمل بصفة منهجيَّة على تفكيك الثورة وإعادة إحياء شبكات نفوذه القديمة، وتصدير الصراع إلى داخل معسكر الثورة نفسها؛ إلى غاية الوصول للحظة تدخل الجيش، أو الانتصار الكامل للثورة المضادة. 

فبعد شهور طويلة من الشحن والتأليب بين التيارات المختلفة، والشيطنة والتكفير والتخوين المتبادل، سوَّق النظام القديم لنفسه بصفته المُنقذ الوحيد لمدنية الدولة من طغيان التيار الإسلامي، ليصبح التدخل العسكري في نظر العلمانيين «أخفَّ الضررين»، أو «شرًّا لا بد منه» من أجل التخلُّص من هيمنة الإسلاميين على الدولة والمجتمع.

 

لكن الواقع المصري بعد سنوات على عزل الجيش للرئيس مرسي قد بدَّد أوهام هذه النخب المدنية؛ إذ يوجد اليوم في السجون المصرية معتقلون سياسيون من جميع التيارات الفكرية. علَّق سابقًا، وقبل أن تدور كل تلك الأحداث، الناشط السياسي المصري، محمد يسري سلامة، حول تلك الحالة من الاستقطاب بمقولة استشرافية: «عما قريب سيتجمع الشرفاء من الإخوان والإسلاميين مع الشرفاء من جبهة الإنقاذ وغيرها في السجون والمعتقلات، حينها سيتسنى لهم مناقشة خلافاتهم جيدًا».

فهل يمكن أن تذوق الثورة في الجزائر من الكأس نفسها التي شربت منها نظيرتها من قبل في مصر؟

من العِرق إلى الأيديولوجيا.. تحوُّل الخطاب الاستقطابي في الحراك الجزائري

يتَّسم خطاب الاستقطاب بعدَّة صفات متشابهة في مختلف التجارب الثورية، أهمُّ هذه الصفات هي الاختزالية الشديدة للظواهر المعقَّدة، وتعميم الاتهامات على الطيف السياسي المخالف بأكمله، بالإضافة إلى الحديَّة والراديكالية في الخطاب تجاه المخالفين، وتخوين أصحاب الطرح الوسطي التوافقي بصفتهم «مخدوعين» أو «واهمين»، ويتَّسم أيضًا بنزع الأنسنة عن الطرف الآخر، أي أن التيار السياسي المُخالف ليس متأثرًا بظواهر اجتماعية وثقافية وسياسية معيَّنة، بل هو في جوهره «شرير أو عميل»، وقد يتَّهم بأنه يحمل أجندة واضحة لهدم الدولة والمجتمع. 

طلت ظاهرة الاستقطاب في الحراك الجزائري، من خلال ضخٍّ تدريجي لبروباجندا في وسائل التواصل الاجتماعي منذ 22 فبراير (شباط) 2019. وقد ركَّزت السلطة في المرحلة الأولى من الحراك (فبراير 2019- مارس 2020) على الاستقطاب بأساس عرقي وهويَّاتي بشكل رئيس، من خلال إذكاء الخطاب المعادي للأمازيغ في الجزائر، واتهامهم بالانفصالية والخيانة، وبثِّ مصطلح «الزواف» في التلفزيون العمومي، وهو الذي يشير إلى فرق عسكرية شكَّلها الاستعمار الفرنسي من جنود جزائريين، بالإضافة إلى إثارة موضوع «الراية الأمازيغية» بصفتها مناقضة ومزاحمة للعلم الوطني، أو رمزًا للانفصال؛ وجرى اعتقال العشرات من حامليها داخل المسيرات. 

أما في المرحلة الثانية من الحراك، أي خلال فترة توقُّفه بسبب جائحة كورونا، ثمَّ عودته في 22 فبراير 2021؛ فقد ركَّزت السلطة هذه المرة على الخلافات الأيديولوجية أكثر من العرقية؛ إذ اتهمت السلطة حركة شعبية احتجاجية تخرَّج في أكثر من 20 ولاية بالاختراق والتحريف من طرف تنظيم «حركة رشاد» التي تنشط من الخارج، والتي تتهمها السلطة بأنها «ذات مرجعية قريبة من الإرهاب» بسبب خطابها القريب من الإسلاميين، وانتماء بعض أعضائها سابقًا إلى «الجبهة الإسلامية للإنقاذ».

ويتركَّز مظهر هذا الاستقطاب بشكل رئيسي في الصراع بين الحركات المحسوبة على الإسلاميين، وفي مقدِّمتها «حركة رشاد»، وبين الأصوات العلمانية المختلفة؛ أبرزها تيَّار «القطيعة المزدوجة» الذي ينادي بـ«رفض الدولة العسكرية والدولة الإسلامية» في آن واحد، كما يركِّز على معارضة حركة رشاد والإسلاميين، وضرورة إخراجهم من الحراك، ويجد هذا التيَّار صدى وحضورًا شعبيًّا في أوساط الجالية الجزائرية في فرنسا، أكثر مما يجده في الداخل؛ ورغم ذلك فإنه يملك حضورًا على مواقع التواصل الاجتماعي. 

التسعينيات وليس الأيديولوجيا.. العشرية السوداء تطارد الجزائريين بعد 30 سنة

أحد أبرز روافد هذا الاستقطاب في الجزائر، هو فترة الحرب الأهلية خلال التسعينيات، التي تتجدَّد حولها النقاشات بصفة دوريَّة، وكثيرًا ما تتحوَّل إلى اتهامات متبادلة بين الإسلاميين والعلمانيين انطلاقًا من موقف كل طرف من هذه الأزمة، ففي حين يُتهم الإسلاميين من طرف خصومهم بارتكاب جرائم العنف والقتل وحمل السلاح ضد الدولة، يتهم الإسلاميون العلمانيين بالوقوف إلى جانب الانقلاب العسكري ضد المسار الديمقراطي، وتبرير الجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية في حق الإسلاميين؛ ومن ثم يُطرح مشكل الثقة بين الطرفين حول مدى التزامهم الحقيقي بمُخرجات الديمقراطية. 

 مسيرة للجبهة الإسلامية للإنقاذ خلال فترة التسعينيات

وفي الوقت الذي تركِّز فيه الاستقطاب السياسي في الحالة المصرية حول أسباب أيديولوجية، كالموقف من الدين في السياسة، وأسلمة الدولة، والهوية ومواد الدستور؛ فإن روافد الاستقطاب في الجزائر تصبح أكثر تعقيدًا بشكل كبير لارتباطها بالدماء، إذ تتركَّز بشكل رئيسي حول المواقف المتباينة من مرحلة التسعينيات، وعن المسؤول الحقيقي عن العنف والدماء التي سالت في تلك الفترة، أو موقف التيارات من الانقلاب العسكري. 

يملك الطرفان الإسلامي والعلماني سرديَّتيْن مختلفتيْن ومنفصلتيْن بعضهما عن الأحداث وتسلسلها والمسؤول عنها؛ ويرى كل طرف أنه «الضحية الوحيدة» في تلك الأحداث، وأن خصمه السياسي هو الجلَّاد الرئيسي؛ هذه النقاشات تهدِّد بشكل خطير نسيج الحراك الشعبي، وتضع الأجيال الشابة التي لم تعش مرحلة التسعينيات عُرضة لتوريث هذه الصراعات والعُقد، وما يرتبط بها من كراهية وإحساس بالمظلومية. 

من المؤكد أن مصطلحيْ «الإسلاميين» أو «العلمانيين» شديدا الاختزالية؛ إذ يختزلان طيفًا واسعًا من الآراء والأفكار والشخصيات المتنوِّعة التي لا يجمعها موقف واحدة من جميع القضايا. فكما يوجد إسلاميون رفضوا العنف خلال فترة التسعينيات، هنالك أيضًا شخصيات محسوبة على التيار العلماني عارضت الانقلاب العسكري وقمع الإسلاميين. 

متظاهر من الحراك الجزائري

لا يمكن نسب ظاهرة الاستقطاب الأيديولوجي إلى السلطة وحدها؛ إذ إن هنالك خلافات جوهرية بين التيارات السياسية في الجزائر حول شكل الدولة والمجتمع، وهي الخلافات التي تُحلُّ عادة بالوسائل الديمقراطية؛ لكن البعض يرى أن السلطة تستثمر هذه الخلافات من أجل ضرب الأطراف بعضها ببعض، وتُذكي حدة هذه الخلافات من خلال استهداف طرف داخل الحراك – وهو الطرف الذي يتغيَّر حسب الظروف – وشيطنته وتسليط كل الأضواء على أخطائه وتناقضاته، من أجل الاستفراد به وقمعه بعد الحصول على موافقة شريحة شعبية واسعة، تكون قد وقعت ضحيَّة لبروباجندا السلطة.

وتعمل السلطات الجزائرية منذ عودة الحراك في 22 فبراير الماضي على شيطنة حركة رشاد ونسبها إلى «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، بل اتهامها الصريح بـ«الإرهاب»، ليس فقط بالاستعانة بوسائل الإعلام الحكومية، بل انخرطت في الحملة حتى وسائل إعلام خليجية وإماراتية. ليس هذا فحسب، بل إن إطلاق الاتهامات بالإرهاب والارتباط بـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» والحديث عن شعارات للعشرية السوداء داخل الحراك، يهدف حسب مراقبين داخل الحراك، إلى العودة بالذاكرة الجماعية للجزائريين إلى زمن العشرية السوداء، حيث جرى إجهاض أول تجربة ديمقراطية عاشتها البلاد، وتحوَّلت بشكل دراماتيكي إلى حمَّام من الدماء، كان الشعب هو ضحيَّتها الأولى. 

هذا الربط بين المطالب الديمقراطية وتهديدات الفوضى والدماء؛ كان قد تكرَّر في خطاب الرئيس المخلوع مبارك سنة 2011، وكثيرًا ما ترفعه السلطة في وجه الحركات الشعبية المطالبة بالديمقراطية؛ المُختلف في الحالة الجزائرية هو أن هذا الخطاب يغذِّي أيضًا حالة الاستقطاب السياسي؛ إذ إن مرحلة التسعينيات عرفت درجات قياسية من هذا الاستقطاب، وصلت حدَّ التشفِّي والتحريض المباشر على القتل من طرف مختلف النخب السياسية بعضها ضد بعض.  

جدير بالذكر أن هناك الكثير من النقد يوجَّه لـ«حركة رشاد» حول نهجها السياسي أو خطابات بعض المحسوبين عليها أو القريبين من دوائرها، أو تورُّطهم في الكثير من الأحيان فيما يصفه البعض بـ«الشعبوية» التي تتنافى مع أهداف الحراك أو تضرُّ به، وهو نقد يوجه من داخل الحراك نفسه؛ لكن الأمر قد وصل إلى دعوة البعض إلى مغادرة الحراك لأن «رشاد» تسيطر عليه، خصوصًا مع الخطاب الشرس الذي ترفعه السلطة ضد هذه الحركة، وإصدار مذكِّرات توقيف دولية في حق أشهر قيادييها، محمد العربي زيتوت – الموجود في بريطانيا – واتهامه بـ«الإرهاب». 

هل يكون الطلبة طوق النجاة؟ 

وسط هذه الحالة الاستقطابية، تظهر خطابات داخل الحراك تدعو إلى عدم الوقوع في فخ الصراعات الأيديولوجية أو تبادل الاتهامات حول المسؤولية من أحداث التسعينيات، ويظهر هذا الفكر من خلال شعارات تتردَّد في مختلف المحافظات، من بينها «لا يوجد إسلامي ولا يوجد علماني، هناك عصابة تسرق عيناني (أمام الأعين)»، بالإضافة إلى شعارات تتّهم النظام بالمسؤولية حول فترة التسعينيات: «مخابرات إرهابية، توفيق ونزَّار باندية (لصوص)، مانسيناش التسعين، ماتوا كل الزوالية (الفقراء)»، وخصوصًا شعار «قولولهم من قتل معطوب وحشاني، قولولهم أنتم إرهاب مافيا عيناني»، والذي يجمع ضحيَّتيْن من تيارين مختلفين (لوناس معطوب المغنِّي القبائلي من الحركة الثقافية البربرية، وعبد القادر حشاني القيادي في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ») الذيْن  توفيا خلال العشرية السوداء.

إضافة لذلك فإن الطلبة الجزائريين الذين يمثِّلون فئة الشباب النشيط، والذين يخرجون كل ثلاثاء في العديد من الجامعات، يبدون غير مكترثين بالنقاشات النخبوية والأيديولوجية، كما أن حداثة سنَّهم جعلتهم غير معنيين بصراعات التسعينيات التي لم يعيشوها، وهو ما قد يشكِّل بارقة أمل في تجاوز هذا المطبِّ الذي يعرقل الحراك الجزائري.

ومن خلال الخطاب الأخير للسلطة، الذي تركِّز فيه على أن الحراك قد تغيَّر، ولم يعد هو الحراك نفسه الذي انطلق في 22 فبراير 2019 بل اخترِق من طرف حركة رشاد الإسلامية المتهمة بـ«الإرهاب»، حسب رواية السلطة؛ بالإضافة إلى مؤشرات على حملة قمعية محتملة ضد المسيرات بهذه الذريعة، خصوصًا بعد اجتماع الرئيس تبون بـ«المجلس الأعلى للأمن» وإعطائه إشارات حول التعامل الصارم مع المسيرات، فإن أصواتًا داخل الحراك ترى أنه من مصلحة الحراك أن ينأى عن الصراعات الأيديولوجية في هذه المرحلة.

الربيع العربي

منذ سنتين
هادر ولا يتوقف.. ما المطالب الحقيقية للحراك الجزائري؟

المصادر

تحميل المزيد