قد يكون البشر الذين تُشكل أفعالهم الجريمة، أو أولئك الذين يُحاولون حلّ ألغاز الجريمة، أو يحكمون فيها، أو يسيطرون على الجناة، أو يساعدون ضحاياها. بمعنى آخر: في كل مرحلة من النظام الجنائي ثمة عمليات نفسية ينبغي معالجتها، ويُشكل فهم هذه العمليات وتطبيقاتها أساس علم النفس الجنائي.
تُعرف الجريمة بأنها سلوك ينتهك القواعد الأخلاقية التي وُضِعت لها جزاءات سلبية تحمل صفة الرسمية. أو هي السلوك الذي تُحرمه الدولة لما يترتب عليه من ضرر على المجتمع، والذي تتدخل لمنعه بعقاب مُرتكبيه. القتل، والسرقة بالإكراه، والإحراق العمد، والاحتيال، والعنف الأسري، وإساءة معاملة الأطفال، والابتزاز، والاغتصاب، وغيرها من الجرائم، هي قوام الجرائم في الواقع والخيال، وهي موجودة على الدوام.
يرجع اهتمام علماء النفس بعمليات الجريمة والقانون إلى محاولات فهم أفعال الأفراد وتعديلها؛ لذلك فرغم الصلة الوثيقة بين الاقتصاد والسياسة والدراسات الاجتماعية القانونية وعلم الاجتماع – جميعها من ناحية – ودراسة الجريمة والإجرام من ناحية أخرى، فإن صميم الجرائم كلها هو البشر.
ما الدور الذي يقوم به علم النفس الجنائي أو الشرعي؟
علم النفس الجنائي والقانون شريكان في قضية واحدة هي مكافحة الجريمة، ويكافح كل منهما هذه الجريمة بأسلوبه وأدواته. كما يشتركان في الهدف الأخير لكل منهما، ألا وهو حماية أسباب الأمن الاجتماعي.
عالِم النفس الجنائي هو شخص محترف يهتم بدراسة سلوك وأفكار المجرمين، وقد ازداد الاهتمام بهذا المجال الوظيفي بشكل كبير في السنوات الأخيرة؛ بفضل انتشار عدد من البرامج التلفزيونية الشهيرة التي يلعب أبطالها دور علماء نفس جنائيين، مثل «Criminal Minds» و «CSI».
ويرتبط علم النفس الجنائي بدرجة عالية بعلم النفس الشرعي، وفي بعض الحالات، يجري استخدام المصطلحين بالتبادل. وينطبق مصطلح «عالِم النفس الشرعي» على أي عالِم نفس على صلة أيًّا كانت بالشرطة أو بالعمل مع المجرمين. وهذا يتضمن مساعدة ضباط الشرطة، أو أولئك العاملين بالسجون، على التعامل مع ضغوط عملهم أو حتى انتقائهم وإدارتهم.

مصدر الصورة: allpsychologyschools
وتشغل الإجابة عن سؤال (لماذا يرتكب الأشخاص الجرائم؟) جزءًا كبيرًا مما يقوم به عالم النفس الجنائي. كذلك قد يُطلب منه تقييم المجرمين لتحديد مدى خطورة تعرضهم للانتكاس (مدى احتمال عودة الشخص لارتكاب الجريمة في المستقبل)، أو إجراء تخمينات متعمقة حول الأفعال التي يحتمل أن يكون المجرم قد قام بها بعد ارتكاب الجريمة.
فضلًا عن مساعدة القانون في حل الجرائم أو تحليل سلوك المجرمين، يُطلب من علماء النفس الجنائيين في كثير من الأحيان تقديم شهادة خبير في المحكمة. ويعتمد الدور الذي يؤديه علماء النفس الجنائيون في إجراءات المحكمة اعتمادًا كبيرًا على الاختصاص القضائي الذي يشاركون فيه، ومن خلال استحداث إجراءات أكثر تنظيمًا وموضوعية لبناء آرائهم الخبيرة على أساسها.
ولعل من أكثر أدوار علم النفس الجنائي شهرة هي تنميط الجاني، التي تعني وضع كل ما يتعلق بشخصية الجاني وتاريخه في ملف شخصي خاص. وقد بدأت هذه الممارسة خلال أربعينات القرن الماضي خلال الحرب العالمية الثانية، واليوم تستخدم المنظمات العالمية، مثل «مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي آي)» هذا التصنيف، للمساعدة في القبض على المجرمين العُنُف.
كيف يُساعد التحليل النفسي في حل الجرائم؟
في أغسطس (آب) عام 1996 قام شخصان يُدعيان داريل أتكينز وويليام جونز بسرقة شخص آخر يُدعى إريك نسبيت وقتله. وشهد جونز أن أتكينز هو الذي جذب الزناد. ولما كانا بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية حُكم على أتكينز بالإعدام.
وعندما أجرى عالم نفس تقييمًا لأتكينز وأفاد أن معدل ذكائه يبلغ 59، قبلت المحكمة العليا بهذا عند استئناف الحكم، باعتباره مشيرًا إلى أن أتكينز«متخلف عقليًا». وحكمت المحكمة بأن إعدام شخص متخلف عقليًا سيكون مخالفًا للتعديل الثامن للدستور الأمريكي؛ لأن هذه العقوبة ستكون «قاسية وغير عادلة».
توضح هذه القضية الدور الخطير الذي يمكن أن يؤديه علم النفس الجنائي من خلال تقِييمه للمدعَى عليهم، لكنها تُفيد أيضًا في توضيح التحديات الأخلاقية والمهنية التي يواجهها أي عالم نفس يُدلي بشهادَتِه بالمحكمة. وتُقدَّم شهادة عالم النفس الخبير المساعدة للمحكمة في اتخاذ قرارها، سواءٌ وافق الخبير على هذا القرار أم لا.

مصدر الصورة: allpsychologyschools
أيضًا من الأدوار الرئيسة التي يلعبها علم النفس الجنائي في حل الجرائم، الدور الإكلينيكي الذي يقوم على الخبرة التي يتمتع بها علماء النفس من العمل مع المرضى في وسط علاجي من نوع ما. وعادةً ما يتمثل هذا الدور في مساعدة الأشخاص المصابين بمرض أو اضطراب عقلي؛ وهو ما يمنح عالم النفس خبرة في جوانب كثيرة من الشذوذ العقلي، إضافةَ إلى مهارات المناقشة التي قد لا يمتلكها المحامون.
كمثال على ذلك، حدث أن اتُّهمت امرأة بسرقة كأس فضية، ولكن تَقدّم شخص آخر عمل معها واعترف بالسرقة، وخلال مقابلة هذا الشخص الثاني – كجزء من دفاعه – استَكشف علماء النفس مدى أهمية الكأس بالنسبة له، عبر إجراءات نفسية خاصة بالمقابلات الإكلينيكية التي تهدف إلى العلاج، وأثناء ذلك كشف الرجل عن تعلقه بالمرأة المتهمة ورغبته في حمايتها من حكم بالإدانة سيدمر حياتها، واعترف في النهاية بأنه بريء من الجريمة التي اعترف بها.
الإجراءات التي يستخدمها علم النفس الجنائي للوصول إلى الجاني
من الإجراءات التي يستخدمها علم النفس الجنائي في حل الجرائم، ما يُعرف بـ«الاختبارات النفسية» أو أكثر شيوعًا باسم «إجراءات القياس النفسي». وقد جرى تقييم نسبة ذكاء أتكينز باستخدام الشكل الأكثر شيوعًا للتقييم النفسي، ألا وهو معدل الذكاء، ويشيع استخدام أدوات القياس هذه مثل اختبارات معدل الذكاء في مجالات علم النفس.
ويوجد أعداد كثيرة من الاختبارات الأخرى التي يمكن أن تكون ذات نفع للإجراءات القانونية، مثل الاختبارات المتعددة لتقييم القدرة العقلية، أو التحصيل الدراسي، أو المهارات المعرفية، وبعضها موضوع، خصوصًا من أجل تشخيص أمراض بالمخ، مثل مرض ألزهايمر. ويمكن أن تشمل أيضًا قياسات لجوانب متنوعة من الشخصية، مثل أنماط التفاعل مع الآخرين، أو الانبساط النفسي، أو سبل التأقلم مع التوتر.
ولعل من أبرز الاختبارات المستخدمة أيضًا ما يُعرف بـ«الاختبارات الإسقاطية»، التي تعود أصولها إلى أفكار «فرويد» عن العقل اللاواعي. وتتكون من صور غامضة على الشخص أن يُفسرها، ويمكن بواسطتها الكشف عن دوافع الفرد، ورغباته، وحاجاته، باستخدام مُثيرات غامضة وغير متشكلة إلى حد ما، ويقوم الفرد بتفسيرها وتأويلها.

مصدر الصورة: flickr
ومن أهم خصائص الاختبارات الإسقاطية أن الفرد يستجيب للمادة غير المتشكلة التي تُعرض عليه دون أن يكون لديه أية معرفة بكيفية النظر إلى هذه الاستجابات وتقديرها؛ ومن ثم لا يستطيع تزييف إجابته أو تلفيقها. لا تقيس هذه الاختبارات جوانب جزئية أو مستقلة من الشخصية، لكنها تحاول رسم صورة عن الشخصية ككل ودراسة مكنوناتها، وما بينها من علاقات ديناميكية. هذا إلى جانب أنها تُمثل نزعة من جانب الفرد للتعبير عن أفكاره ومشاعره وانفعالاته ورغباته في تشكيل المادة غير المتشكلة نسبيًا التي تُعرض عليه. ومن أوسع الاختبارات الإسقاطية انتشارًا: اختبار بقع الحبر «اختبار رورشاخ»، واختبار تفهم الموضوع «تات».
وفي بعض الحالات يحاول علم النفس الجنائي والأطباء النفسيون رسم ملامح المجرمين، كأداة إضافية تستخدمها الشرطة في القبض عليهم. ومن أجل القيام بذلك يبحث هؤلاء العلماء في جميع الأدلة المتاحة من الجريمة، عن أي شيء يعطيهم أدلة قيمة حول الشخص الذي قد ارتكبها. ومن المعلومات التي يستطيعون تحديدها حول شخصية الجاني: العمر المحتمل، والجنس، والعرق، والحالة الاجتماعية.
اقرأ أيضًا:-
جرائم غامضة ساعد التحليل النفسي في فك شفراتها
بدأ التطبيق العملي للتشخيص النفسي في حل الجرائم في خمسينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في مدينة نيويورك. استخدمت الشرطة هذه التقنية للقبض على رجل أرعب مدينة نيويورك على مدى 16 عامًا عُرف باسم «المُفجّر المجنون»، والذي كان يضع القنابل في جميع أنحاء المدينة، ويبعث برسائل يسخر فيها من فشل السلطات الأمنية في الإمساك به، ويختمها دومًا بالحرفين F وP.
لجأت الشرطة إلى مختص في علم النفس، يُدعى جيمس بريسيل، تطلب رأيه في شخصية المفجر المحتملة. كان برسيل يعمل مع شرطة الولاية في مجال الصحة العقلية والنفسية، وقد تحول ليصبح أول مُشخّص جنائي نفسي في العالم. طلبت الشرطة منه أن يفحص جميع الرسائل التي كتبها المفجر، بالإضافة إلى صور وأدلة أخرى جُمعت عبر السنين.
نظر بريسيل إلى الرسائل التي كتبها «المُفجّر المجنون»، وتفحّص كيفية استعماله القلم، وكيفية استعماله للمصطلحات، وكم كان موسوسًا تجاه بعض الأمور؛ وهذا ما ساعده على الوصول إلى استنتاجات معينة. وكانت استنتاجات برسيل مذهلة، فقال في تقريره عن تخيّله حول شخصية المفجر: «إن المفجر رجل أعزب يتراوح عمره بين الأربعين والخمسين عامًا، وهو منطوٍ على نفسه، ليس مُعاديًا للمجتمع، وماهر في الميكانيكا».
أيضًا استطاع بريسيل تحديد بعض الصفات الجسدية للمفجر؛ فقال: «إن جسده ممتلئ ومتناسق، وهو رجل نظيف، ومرتّب، وحليق ذو مستوى علمي جيد، لكنه من أصول أجنبية، ومتدين، وقد يغضب أثناء العمل عند انتقاده، وأن الدافع وراء جرائمه هو طرده من العمل، أو تأنيبه من قبل الشركة التي كان يهدد في رسائله بأنه سوف يستمر في تفجيراته حتى تنال جزاءها».
وأنهى برسيل تقريره حول الجاني بخاتمة مهمة، قال فيها: «إن المفجر قد يكون يسكن وحده أو مع أقرباء له، وتحديدًا مع أخت له، لكنك ستراه يرتدي بِذّة داكنة تُقفل بأزرار عند الصدر». وأهم ما قال: إن «المفجر كان أو ما زال يعمل في الشركة التي وردت في رسائله».
نشرت الشرطة الوصف الذي قدّمه برسيل حول شخصية المفجر المجنو، وتبعًا لذلك الوصف قامت امرأة تعمل في الشركة المعنية بالبحث في ملفات موظفي الشركة، حتى وجدت ملف جورج ميتسكي. وجدت في ملفه الذي كان مُغلقًا منذ نحو 20 سنة رسائل غضب كتبها، يُطالب فيها بتعويض من جراء حادث تعرّض له إثر انفجار مرجل في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1931، وكانت التعابير المستعملة مطابقة لتعابير المفجر.
وفي يناير (كانون الثاني) عام 1957 أوقف المحققون ميتسكي في منزله تمامًا كما توقع بريسيل. كان الرجل يرتدي لباس النوم، ويبدو لطيفًا وعرفّ بنفسه على أنه جورج ميتسكي، وأنه الرجل الذي تبحث عنه الشرطة. وجاء مطابقًا لما وصفه بريسيل فكان رجلًا ذا جسد متناسق يبلغ من العمر 54 عامًا، من أصول بولندية، أعزبًا، يعيش مع أختيه غير المتزوجتين.
وعندما طلبت منه الشرطة أن يرتدي بذّة للذهاب معهم، ذهب وارتدى بذّة تُقفل عند الصدر، ووجدت في مرآبِه معملًا صغيرًا لصُنع القنابل، واعترف ميتسكي بقيامه بـ21 عملية تفجير، وأن الحرفين اللذين كان يختم بهما رسائله يرمزان إلى عبارة اللعب النظيف (Fair Play). وقد كان ذلك نجاحًا باهرًا بالنسبة لبرسيل الذي قام ببناء ملاحظاته وفقًا لوقائع بسيطة ومنطق الاستنتاج.
عرف بريسيل أن صانعي المتفجرات غالبًا ما يكونون من الرجال، وأظهر ميتسكي عددًا من مظاهر الارتياب، مثل الشعور بالاضطهاد ورفض النقد، وكان ما ساعده على تحديد عمر ميتسكي أن الارتياب لا يبلغ ذروته قبل أن يصل الإنسان إلى عمر 35 عامًا، ولما كان المفجر كان قد بدأ في زرع القنابل منذ 16 عامًا، فإن عمره الآن يتراوح بين 40 إلى 50 سنة.

جورج ميتسكي. المصدر: nypost
كذلك، شكّ في أن المفجر قد أتى من شرق أوروبا، ذلك المكان الذي كان معروفًا بعدد كبير من المُفجرين، بعدما دلّت اللغة المستعملة في الرسائل على أن الرجل مُغترب. أما التفصيل الخاص بأن الرجل يرتدي بذّة تُغلق بأزرار عند الصدر أتى من النظرية التي تقول بأن الذين يُعانون من جنون الارتياب عادةً ما يكونون أنيقين إلى حد الهوس.
وفي السياق ذاته استطاع ديفيد كانتر أول محلل جنائي بريطاني فك أسرار أمكنة جرائم مختلفة، وساعد في القبض على مغتصب قام باغتصاب 24 امرأة على الأقل، وقتل 3 نساء أخريات. وكان القاتل يتعمد إتلاف الأدلة وتهشيم أجزاء مختلفة من الجسد؛ وذلك لمنع عناصر الشرطة والعلماء من جمع الأدلة الجنائية.
وقد احتاجت الشرطة إلى شخص يساعدها في فك أسرار أمكنة الجرائم؛ فاستدعت البروفيسور ديفيد كانتر لمساعدتها في التحقيقات بسبب خبرته في علم السلوك؛ من أجل إعداد ملف شخصي يساعدها في الوصول إلى القاتل، وقد كان.