خلال السنوات الأخيرة، تبنَّت روسيا استراتيجية نشطة في أفريقيا؛ أرست بموجبها وجودًا عسكريًّا، محدودًا أو سريًّا، في العديد من بلدان القارة، ومن بينها دول الساحل الأفريقي المتحالفة مع فرنسا، حسبما أعلن فاسيلي ألكسيفيتش نيبينزيا، مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة، يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

يمثل هذا النهج الجيوسياسي الجديد «تناقضًا صارخًا» مع نهج فترة التسعينيات؛ التي كان يهيمن عليها الضعف الكبير لنفوذ روسيا في المنطقة بأسرها، مع ترك المبادرة بالكامل للأمريكيين والأوروبيين، كما يوضح أليكسي ملاشينكو، مدير الأبحاث في «مركز حوار الحضارات».

يرجع ذلك إلى أسباب متداخلة، أبرزها أن الكرملين لم يكن متحفزًا للمغامرة بتوسيع دائرة نفوذه الإقليمي، قبل أن تستعيد روسيا عافيتها الاقتصادية نسبيًّا، بدءًا من منتصف العقد الأول من الألفية الثانية.

أما وأن الطريق أصبح ممهدًا أمام روسيا الآن في ظل تراجع الغرب وزيادة التهديدات، بدأت موسكو تسعى بجدية إلى عقد مزيد من الصداقات، وجني مزيد من الأموال، وحشد مزيد من النفوذ؛ لتعويض العزلة الاقتصادية التي تفرضها عليها الولايات المتحدة، وترسيخ أقدام روسيا قوةً عالمية.

الثغرة التي ستتسلل روسيا من خلالها لتعزيز وجودها في الساحل

بدون بذل جهود إضافية، لن يتراجع النشاط العسكري في الساحل خلال العام المقبل، بل سوف يزداد على غرار ما حدث في عام 2019 – حسب توقعات ستراتفور لعام 2020- ما سيؤدي بدوره إلى تعزيز التوترات بين القوى الأجنبية المتدخلة والحكومات المحلية المُحبَطَة، التي يطالبها السياسيون المعارضون، وحتى بعض السياسيين من الأحزاب الحاكمة، وحشد من المنظمات المدنية في دول مثل مالي والنيجر، بطرد القوات الفرنسية.

ستحاول روسيا استغلال هذا التوتر، استنادًا إلى العلاقات الأمنية الأوثق التي دشنتها مؤخرًا مع عدد من الدول الأفريقية، واتفاقيات التعاون العسكري التي أبرمتها مع العديد من الدول الرئيسية في منطقة الساحل، واستعدادها لدعم قتال السكان المحليين ضد المليشيات المسلحة، بناء على تحالفات أقدم تعود إلى الحقبة السوفيتية.

ومع استمرار النشاط المسلح في الساحل، وتلكؤ الجهات الغربية في زيادة التزاماتها الأمنية تجاه المنطقة، تتطلع روسيا إلى زيادة دورها هناك جزءًا من استراتيجيتها الأوسع نطاقًا.

ماذا ستستفيد روسيا من الساحل الأفريقي الفقير؟

– فتح أسواق جديدة لتسويق المعدات والخدمات العسكرية

تعزيز الدور الأمني الروسي في منطقة الساحل قد يفتح أمامها أسواقًا جديدة لتسويق معداتها وخدماتها العسكرية، مثل: نشر قوات عسكرية خاصة، أو التدريب تحت إشراف الجيش الروسي، مقابل الحصول على نصيب من كعكة الموارد الطبيعية المستخرجة من تلك الدول.

– تعزيز صناعة التعدين في المنطقة الغنية بالثروات الطبيعية

دخول موسكو إلى منطقة الساحل سيسمح لها بسحب المزيد من الدول الأفريقية إلى دائرة نفوذها، ويمكن أن يفتح أمامها فرصًا لصناعة التعدين في منطقة غنية باحتياطيات الذهب واليورانيوم.

ومع توسع تنظيمي القاعدة والدولة في أفريقيا، وتنافس القوى الدولية على الاستحواذ على نصيب من الكعكة بحجة توفير الأمن تارة، والبنية التحتية تارة أخرى؛ تصبح مناجم الذهب التي تحتضن ثروات بمليارات الدولارات مصدرًا مباحًا.

– ورقة ضغط في المنافسة الجيوسياسية الأوسع مع الغرب

تعزيز نفوذ الكرملين في الساحل من شأنه أن يضع العلاقات الأوروبية والأمريكية في تلك المنطقة تحت الضغط، وهو أمر يمكن لموسكو الاستفادة منه في تنافسها الجيوسياسي الأوسع مع الغرب.

صحيحٌ أن زيادة النشاط المسلح في الساحل يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة، ويتمخض عن تقويض الأمن والحكم المحليين، حسب تقرير مجموعة الأزمات  الدولية، ويرجع ذلك في جوهره لأسباب داخلية عميقة، كما يشرح مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية «CSIS»، إلا أن هذه الأزمة لا يمكن عزلها عن المنافسة الدولية بين القوى العظمى.

 

ما الخطوات التي ستتبعها روسيا لزيادة وجودها في الساحل؟

في البدء، ستزيد روسيا من تعاونها مع دول المنطقة؛ عبر تدريب القوات المسلحة المحلية – متنافسة في ذلك مع جهود الاتحاد الأوروبي وفرنسا وأمريكا- وبيع المعدات العسكرية.

وعلى غرار التدخل الروسي في ساحات أخرى، يمكن أن يشمل هذا المستوى من النشاط – أو حتى المشاركة المباشرة في الصراع – نشر قوات عسكرية روسية خاصة، مثل مجموعة فاجنر ذائعة الصيت، التي شاركت في صراعات عديدة أبرزها سوريا، وأوكرانيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وليبيا، والسودان، وربما منطقة البلقان.

صحيح أن الأفراد العسكريين الروس، سواء الذين يعملون بشكل رسمي أو سري، لم يظهروا بعد في الساحل، فإن موسكو تعمل بالفعل على إبرام اتفاقيات وعلاقات تجارية مع العديد من الحكومات المحلية، تمهَّد الطريق لوصولهم عبر قنواتٍ سلسة.

كيف مهدت روسيا الطريق للوصول إلى هذه النقطة؟

1- مالي.. تعاون عسكري وأمني وإمداد بالسلاح

وقعت مالي وروسيا اتفاقية تعاون عسكري هذا العام، تنص على تدريب المتخصصين العسكريين إلى جانب دعم عمليات حفظ السلام في الحرب على الإرهاب. وصرح وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو بأن روسيا مستعدة للمساهمة في تعزيز الوضع الأمني ​​في مالي، وإن لم يكشف بالضبط كيف ستفعل ذلك.

وتوثيق العلاقة العسكرية الروسية مع باماكو له سوابق تاريخية؛ فبعد استقلال البلاد في عام 1960، انجذبت مالي في البداية إلى دائرة النفوذ السوفيتي. حتى إنها استضافت القاذفات الاستراتيجية الروسية قبل انقلاب عام 1968، الذي جلبت حكومة جديدة إلى السلطة، ربطت مالي ارتباطًا أوثق مع فرنسا.

وزودت روسيا مؤخرًا حكومة مالي بالأسلحة، على الرغم من أن عملية مهمة لبيع طائرات الهليكوبتر القتالية توقفت منذ عام 2016؛ بسبب مشكلات في السداد.

2- بوركينا فاسو.. تعاون عسكري وامتيازات تعليمية ونشاط تعديني

وفي بوركينا فاسو المجاورة، توصلت روسيا إلى اتفاق مماثل للتعاون العسكري في عام 2018. وحتى الآن، لم يقدم الجيش الروسي أي تدريب فعلي، لكن موسكو تقدم تدريبات في العديد من المجالات الأخرى، ويحصل الآلاف من طلاب بوركينا فاسو على التعليم العالي في روسيا، بموجب اتفاقيات سابقة في مجالات الزراعة، والاقتصاد، والتعليم.

وُضعت هذه العلاقات تحت المجهر خلال قمة روسيا- أفريقيا 2019 في سوتشي، حين طالب رئيس بوركينا فاسو صراحة بدور أكبر لروسيا لمكافحة الإرهاب في أفريقيا، ويرجح ستراتفور أن تُتَوَّج هذه الجهود بتدريب عسكري فعليّ، في إطار الجهد الإقليمي الأوسع الذي تبذله موسكو.

وتستضيف بوركينا فاسو أيضًا شركات التعدين الروسية العاملة في قطاع الذهب الوطني، والذي يمثل حوالي 75% من إجمالي صادرات الدولة الواقعة في غرب أفريقيا.

تقع هذه المناجم، التي تديرها شركة «Nordgold» الروسية، في المناطق التي أصبحت أكثر عرضة لهجمات المقاتلين الجهاديين، مما قد يعطي روسيا حافزًا إضافيًّا لنشر قواتها العسكرية الخاصة هناك.

3- النيجر.. نصيب من الثروات الطبيعية وتصدير مقاتلات Mi-35

تعمل روسيا أيضًا على توسيع مصالحها التعدينية في النيجر، إذ يبدو أن شركة «Rosatom» الروسية تسعى إلى الحصول على نصيب من كعكة استخراج اليورانيوم بينما تسعى شركة «Orano» الفرنسية (Areva سابقًا) إلى الحد من أنشطتها هناك.

وتعاونت روسيا والنيجر عن كثب في عدد من المشروعات الأخرى، بما في ذلك بناء خط أنابيب للنفط والسكك الحديدية، وبيع 12 طائرة هليكوبتر مقاتلة من طراز Mi-35 في صفقة أعلن عنها مؤخرًا.

ونظرًا إلى أن نيامي تجد نفسها مضغوطة بين نشاط بوكو حرام في شمال شرق نيجيريا، وتوسع المليشيات الجهادية من مالي، فإن لديها سببًا وجيهًا للتفعيل على فوائد أكثر من اتفاقية التعاون العسكري التي وقعتها مع موسكو في عام 2016.

كيف ستموِّل روسيا عملياتها المحتملة في الساحل الأفريقي؟

من المحتمل أن تسعى موسكو إلى إيجاد طريقة مبتكرة لتمويل مثل هذه العمليات، مثل تلك التي اعتمدتها في أماكن أخرى، عبر تقديم المزيد من الأسلحة الروسية، والتدريب، والخدمات القتالية، مقابل الحصول على الموارد المعدنية.

صحيح أن دول الساحل الأفريقي ربما لن توفر مصدرًا هائلًا للثروة بالنسبة لروسيا، لكنها برغم ذلك ما تزال قادرة على تقديم بعض الدعم المالي لصناعة الدفاع الروسية، وهو أحد أهداف الكرملين الرئيسية.

مثل هذه الصفقات تتوافق مع استراتيجية السياسة الخارجية التي طورتها روسيا للإفلات من مخالب العقوبات الغربية، التي تركت الاقتصاد الروسي في حاجة ماسة إلى أسواق جديدة.

يأتي ذلك في سياق الجهود الرئيسية التي يبذلها بوتين لتعزيز الاقتصاد الروسي، من خلال تطوير مصادر جديدة للدخل، دون الاضطرار إلى إجراء إصلاح حقيقي، حسبما خلص تحليل نشره معهد دراسات الحرب «ISW» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

حدود ما تستطيع روسيا تقديمه لحكومات الساحل الأفريقي

بينما تستطيع موسكو أن تقدم للحكومات المحلية قدرات تكميلية، في شكل أسلحة، وتدريب، ودعم عسكري مباشر، يستبعد تحليل نشره موقع ستراتفور أن تحل روسيا محل الجهود الغربية الأوسع التي تقودها فرنسا في المنطقة.

وفي حين يمكن أن يوفر الدعم العسكري الروسي لحكومات الساحل قدرة عسكرية إضافية، يستبعد أن يكون بديلًا للتدخلات الغربية الحالية، وإنما دعمًا محدودًا، بسبب تعقيد استضافة عمليات عسكرية روسية وغربية في الوقت ذاته. فبما أن دول الساحل تعمل عن قرب مع الجيشين الفرنسي والأمريكي، فإن الاستعانة بروسيا ستكون مهمة معقدة.

وسيعتمد مدى المشاركة الروسية على مقدار الوصول الذي ستتيحه الحكومات المحلية. إذ يرجح ألا تشارك روسيا في سباق استعراض القوة التي تنخرط فيه العمليات الغربية الحالية في الساحل، بل ما يناسب احتياجات موسكو أكثر، هو اتباع نهج عملي، أكثر محدودية.

دولي

منذ 3 سنوات
«فورين بوليسي»: جولة بوتين في أفريقيا كانت فاشلة! وهذه هي الأسباب

الوصفة المثالية لحكومات الساحل.. الجمع بين روسيا والغرب

صحيح أن الدعم العسكري الروسي قد يقتصر على توفير قدرة عسكرية تكميلية لحكومات الساحل، دون أن يكون بديلًا عن التدخلات الغربية الحالية. لكن هذا الدور الروسي المقيَّد سيساعد هذه الحكومات في الوقت ذاته على تجنب الاعتماد المفرط على فرنسا وحلفائها، وهو ما يخشونه بالنظر إلى تاريخهم المرير من التبعية للمصالح الفرنسية.

والوصفة المثالية لحكومات الساحل بحسب ستراتفور هي: الحصول على مساعدة من القوات الروسية والغربية في الوقت ذاته. وهناك سابقة لهذه النتيجة في إحدى غزوات الجيش الروسي المبكرة في أفريقيا، إذ نشرت روسيا مقاولين عسكريين من مجموعة فاجنر لتدريب القوات المسلحة في جمهورية أفريقيا الوسطى، وحماية مصالحها في قطاع التعدين.

اكتسبت هذه القوات دورًا رئيسيًّا في تقديم المشورة وحماية الرئاسة، والتنسيق بين الحكومة وقوات المتمردين. إلى جانب ذلك، توجد بعثة الاتحاد الأوروبي لتدريب القوات الحكومية، وقوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وقوامها 10 آلاف فرد، وتدخل أحادي الجانب من القوات العسكرية الفرنسية في مطار بانجي.

هل يمكن أن تعيش مصالح روسيا والغرب في أفريقيا معًا؟

سيعتمد التعايش بين الجهود الغربية والروسية في الساحل الأفريقي إلى حد كبير على حجم الدور الروسي. فإذا كانت القوات الروسية تقوم في المقام الأول بتدريب القوات المسلحة المحلية، وتقديم المشورة لها وتجهيزها، فإن التعايش سيكون أقل صعوبة.

ولكن إذا كان الروس سيتوسعون في العمليات القتالية في الساحل الأفريقي ضد الميليشيات العرقية والجهادية، فإن تنسيق أنشطتها مع القوات الفرنسية وغيرها من القوات الغربية سيصبح أكثر تعقيدًا. هذا الواقع سوف يحد من المدى الذي يمكن للحكومات المحلية أن تسمح به لروسيا بدخول الساحل الأفريقي.

المصادر

تحميل المزيد