لم يكن أكثر العسكريين الأمريكيين تشاؤمًا في 2001 يتوقع هذا السيناريو، فبعد عقدين من الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، وإنفاق نحو تريليون دولار أمريكي، وأكثر من ألفين و300 قتيل أمريكي، ها هي الولايات المتحدة تسحب قواتها من البلاد، تاركةً إياها للمصير المجهول تنفيذًا لبنود اتفاق السلام الذي وقَّعته مع حركة «طالبان» في فبراير (شباط) 2020 في الدوحة، الحركة ذاتها التي ادَّعت الولايات المتحدة في 2001 أنها هزمتها إلى الأبد.

فكيف تم ذلك؟ وكيف تمكنت الحركة الأفغانية التي لاحقها الفناء في 2001 أن تناطح أقوى جيش في العالم طيلة عقدين كاملين لتفرض شروطها التفاوضية في النهاية، وتجبر الأمريكيين على الانسحاب غير آبهين بما ستخلفه هذه الخطوة من واقع مجهول لأفغانستان ولحلفائها فيها؟

بين القومية والأيديولوجيا.. «طالبان» تربح البشتون ولا تخسر الآخرين

منذ الحرب الأهلية الأفغانية، طرحت الأحزاب والجماعات الأفغانية نفسها بوصفها ممثلةً للجماعات العرقية المختلفة ومدافعة عنها، فعلى سبيل المثال، طرح عبد الرشيد دوستم نفسه مدافعًا عن إثنية الأوزبك، وأحمد شاه مسعود قدَّم نفسه ممثلًا للأفغان المتحدثين بالفارسية، فيما صار عبد العلي مزاري ممثلًا للهزارة (غالبيتهم ينتمون للمذهب الشيعي)، أما حركة «طالبان»، فقوامها الرئيسي منذ البداية من عرقية البشتون.

تشكل عرقية البشتون أكبر الإثنيات الأفغانية، ويُختلف على نسبتهم من الشعب الأفغاني، بين 40-60%، أي بين 20 إلى 22 مليون أفغاني، تليهم إثنية الأوزبك. وبموجب العرف السائد في البلاد فيجب أن تكون الزعامة للبشتون، ويتركزون في مناطق جنوب وشرق البلاد، وتقلُّ أعدادهم في المناطق الشمالية، وتعاني أفغانستان من حساسيات طائفية بين البشتون وأقلية الهزارة الشيعية، تعود أصولها إلى بناء الدولة الأفغانية في نهايات القرن التاسع عشر.

Embed from Getty Images

مقاتلون من حركة طالبان

تجيد «طالبان» توظيف هذه الحساسيات القبلية والعرقية، وتركز الحركة دعايتها بين البشتون، ومنذ عام 2001 نظرَ الكثير من البشتون إلى الحكومة الأفغانية على أنها رهينة في أيدي غير البشتون، وفي الوقت ذاته ظلَّ غير البشتون يعتبرون الحكومة تحابي البشتون الذين يتلقون الحصة الأكبر من الأموال الدولية.

ومع هذه الاختلافات الإثنية، تطرحُ «طالبان» نفسها حركةً دينية تتسع لعموم المسلمين، لا تعتمد فقط على استياء البشتون في مناطق الجنوب، حيث يتركز نفوذها وتسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي، ولكنها تحاول أيضًا توسيع نشاطها في الشمال بالاعتماد على مجموعات أخرى، وبنشر دعايتها الأيديولوجية التي تعزز فيها صورتها بوصفها جماعة دينية تتسع لكل المسلمين لتجتذب مسلحين من الأوزبك والتركمان والتتار ينتمون إلى الحركة انتماء أيديولوجيًّا حقيقيًّا وصارمًا.

تغيير التكتيكات.. «طالبان» تنجح في التكيف العسكري

مفتاح نجاح أنشطة «طالبان»، وصحوتها الجديدة بعد أن ظن الأمريكيون أنهم ألحقوا بها هزيمة نهائية عام 2001، كان في قدرة الحركة على التأقلم مع المتغيرات، وتطوير إستراتيجيتها العسكرية وتكتيكاتها القتالية لتستوعب دروس الماضي ولتتكيف مع الواقع الجديد للوجود العسكري الأجنبي على الأراضي الأفغانية.

في البداية، شكَّل الهيكل التنظيمي الفضفاض للحركة، من وحدات شبه مستقلة تنتشر على الجبهات المختلفة، مع حرية شبه مطلقة للقادة المحليين في إدارة المعارك، عائقًا أمام جهود مجلس شورى الحركة، وهو المجلس الذي يمثل القيادة العليا للحركة ويتولى الإشراف على أنشطتها سياسيًّا وعسكريًّا، لتنظيم المجهود العسكري بشكل فعال وتحقيق نتائج حاسمة في ساحات المعركة.

كان لا بد من مستوى معيَّن من المركزية في قيادة الوحدات الإقليمية المختلفة للتنظيم، فتمَّ ذلك بإنشاء لجان عسكرية إقليمية للتخطيط وإدارة اللوجستيات وفض النزاعات، وبتعيين مسؤولين نظاميين لضمان امتثال القادة الميدانيين للتوجيهات المركزية الصادرة عن مجلس شورى الحركة.

Embed from Getty Images

مجموعة من الجنود الأمريكيين في أفغانستان في إنزال قبيل هجوم على حركة طالبان عام 2006

بين عامي 2006 و2008، تكبدت حركة «طالبان» خسائر فادحة قدرت بالآلاف في هجماتها ضد القوات الأجنبية والحكومة الأفغانية، فعلى سبيل المثال قتل نحو 300 عنصر من الحركة حين حاولوا شن هجوم على القوات البريطانية في مقاطعة هلمند عام 2008، واستندت إستراتيجية «طالبان» إلى أساليب «الحرب الكلاسيكية»؛ إذ يهجم مسلحو الحركة بأعداد كبيرة على البؤر المعادية؛ ما يُسهِّل استهدافهم من القوات الجوية المعادية، حتى أصدرت قيادة الحركة تعميمًا للمقاتلين يأمرهم بتجنب المواجهات المباشرة والتحول إلى تكتيكات حرب العصابات.

تضمن ذلك استخدام المدافع الرشاشة الثقيلة المضادة للطائرات، ومدافع الهاون الثقيلة، والأسلحة المتقدمة المضادة للدروع، فضلًا عن استخدام بنادق القنص والتوسع في استخدام العبوات الناسفة التي احتلت أهمية كبرى في تكتيكات «طالبان» القتالية، والتي صنِّعت في البداية من الألغام السوفيتية المعاد تدويرها، ثم صنعت من المواد الكيميائية المستوردة من باكستان. ورغمَ تطور قدرات القوات الأجنبية والقوات الحكومية الأفغانية في رصد هذه الألغام وتفكيكها، فإن «طالبان» وظَّفت هذه التكتيكات لإبقاء القوات المُعادية «في حالة دفاعية» أغلب الوقت.

«الجهاد المقدس».. سلاح «طالبان» في مواجهة «الاحتلال» وحلفائه

تشير إحصاءات أمريكية إلى أن عدد القتلى الأفغان بلغ منذ 2001 نحو 157 ألف قتيل، 43 ألفًا منهم مدنيُّون، وإذا ما احتسبنا أعداد المصابين، فإن التقديرات تشير إلى نحو نصف مليون أفغاني من ضحايا الحرب، وفي آخر الإحصائيات الصادرة عن الأمم المتحدة، تذكرُ أن أعداد الإصابات المدنية ازدادت بشكل مستمر خلال العقد الماضي.

وبعد عشرين عامًا من دخول الأمريكيين إلى أفغانستان، لا تزال أعداد القتلى المدنيين الذين يسقطون من جراء هجمات الطائرات بدون طيار «الدرونز» الأمريكية، والغارات التي تشنها قوات الأمن الأفغانية المدعومة أمريكيًّا، في ازدياد.

Embed from Getty Images

جندية أمريكية من داخل الولايات المتحدة توجِّه طائرة مسيرة في قندهار، أفغانستان، لاستهداف مقاتلي طالبان، عام 2006 

وقد دأبت الولايات المتحدة على تنفيذ ضربات جوية باستخدام طائرات بدون طيار في أفغانستان، غير مبالية في كثير من الأوقات بسقوط ضحايا مدنيين، وكثفت إدارة ترامب من تلك الضربات وخففت من قواعد الاشتباك على أمل الضغط على مسلحي «طالبان» في المفاوضات، كما يتكرر سقوط المدنيين نتيجة هجمات القوات الحكومية الأفغانية، الأمر الذي يثير الاستياء محليًّا، وسبق أن أقال الرئيس الأفغاني، أشرف غني، مدير جهاز المخابرات على وقع الانتقادات بسبب انتهاكات نفذتها القوات الأمنية بحق مدنيين.

«يقولون إنهم آسفون؟ ماذا ينفع الأسف؟ الناس هنا غاضبون من الأجانب وغاضبون من الحكومة»

* عبارات غاضبة لأحد السكان المحليين بعد غارة أمريكية خلفت عشرات القتلى المدنيين

لهذه الهجمات أثرها في «طالبان»، ولكن لها مفعولًا عكسيًّا أيضًا؛ إذ تستغلها الحركة لكسب المزيد من الدعم والشعبية، وتعزز من صورة الوجود الأمريكي بوصفه «احتلالًا»، على الرغم من محاولات الولايات المتحدة تقديم جنودها للمجتمع الأفغاني بصفتهم «منقذين» أو «ضيوفًا».

وفي بلد لا يزال سكانه يتذكرون بفخر مقاومتهم للغزو السوفيتي في سبعينيات القرن الماضي، تطرحُ «طالبان» نفسها بوصفها تجسيدًا لتلك الفكرة «المقدسة» التي تضرب بعمقها في الثقافة الأفغانية، وهي فكرة «مقاومة المحتل»، الفكرة التي تلهب حماسة المقاتلين، وتجعلهم على استعداد للتضحية بأنفسهم.

ووجدَ استطلاع أجراه «المعهد الأفغاني للدراسات الإستراتيجية» أن معظم الأفراد المنتسبين إلى قوات الأمن الأفغانية لا يقاتلون سوى من أجل الرواتب، في حين أن معظم مقاتلي «طالبان» انضموا إلى الحركة لأجل ما يرونه «غايةً نبيلة»؛ قتال الولايات المتحدة والقوات الحكومية المتحالفة معها.

تاريخ

منذ 3 سنوات
تشارلي ويلسون.. رجل الملاهي الليلية الذي هزم السوفيت في أفغانستان

الدعم الباكستاني.. إسلام آباد تبسط أذرعها لـ«طالبان»

في مطلع عام 2018، انتهجت إدارة ترامب سياسة حادة ضد حليف رئيسيٍّ في المنطقة: باكستان؛ إذ علقت واشنطن المساعدات المالية التي اعتادت تقديمها إلى إسلام آباد سنويًّا بسبب سياستها «المتسامحة» تجاه ما وصفته الولايات المتحدة بـ«الشبكات الإرهابية»، التي تستغل الأراضي الباكستانية للقيام بأنشطتها، في إشارة إلى حركة «طالبان» الأفغانية، وشبكة «حقاني» المرتبطة بها.

ومن المعروف الآن أن باكستان لعبت دورًا كبيرًا في تأسيس حركة «طالبان» ودعمها منذ منتصف التسعينيات، عدا عن أن العديد من الأفغان الذين انضموا في بادئ الأمر إلى الحركة تلقوا تعليمًا في المدارس الدينية في باكستان، ولعبت المخابرات الباكستانية دورًا في دعم الحركة وتوجيهها وتدريبها، وكانت باكستان واحدة من ثلاث دول فقط، إلى جانب السعودية والإمارات، تعترف بحكومة «طالبان»، كما كانت آخر دولة تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع «طالبان» عام 2001.

وبرغم أن باكستان أوقفت دعمها للحركة إبان هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، على الأقل علنيًّا، وسمحت للتحالف الدولي باستخدام أراضيها لغزو أفغانستان، فإن هذا الدعم سرعان ما تجدد، بسبب عدم ثقة إسلام آباد في نوايا الحكومة الأفغانية الجديدة، ووفَّرت باكستان لقادة «طالبان» ملاذات آمنة في أراضيها، كما أن مجلس شورى الحركة اتخذ من مدينة كويتا بمقاطعة بلوشستان الباكستانية مقرًّا له.

وفي 2015، قال برويز مشرف، الرئيس الباكستاني السابق (2001-2008) إن باكستان جدَّدت دعمها لحركة «طالبان»، لأن الحكومة الأفغانية بقيادة حامد كرزاي تقاربت مع الهند على حساب باكستان، وأن كرزاي نظرَ بعين الريبة إلى الدور الباكستاني التاريخي في دعم طالبان، العدو اللدود لإسلام آباد، قاصدةً «طعن باكستان في الظهر» حسب وصفه، وسمح كرزاي لخصوم باكستان بلعب أدوار محورية في الحكومة، وإقامة علاقات وثيقة مع الهند، ما دفع باكستان إلى إعادة فتح قنوات الدعم لحلفائها القدامى في «طالبان».

ولا تزال الحركة الأفغانية تحظى بدعم باكستاني، إذ رتَّبت إسلام آباد المحادثات الأولية بين الولايات المتحدة و«طالبان»، والتي أدت لاحقًا إلى اتفاق الدوحة للسلام.

طالبان تُفاوض.. يد في الميدان وأخرى على الطاولة

بعد مفاوضات عسيرة، وقعت حركة طالبان اتفاقًا مع الولايات المتحدة الأمريكية في 29 فبراير (شباط) 2020، وتمت مراسم التوقيع في العاصمة القطرية الدوحة، بحضور دولي ضخم للاتفاق التاريخي الممهِّد عمليًّا لإنهاء أطول حرب أمريكية خارجية، وتباهى قادة الحركة بأنهم أجبروا القوى العظمى في العالم على الجلوس معهم إلى طاولة واحدة، والامتثال لشروطهم في النهاية، بعد أن كانوا قبل سنوات يصمونهم بـ«الإرهاب».

Embed from Getty Images
وفد طالبان التفاوضي في العاصمة القطرية الدوحة 

ونص الاتفاق على أن تتوقف طالبان عن شنِّ أي عمليات عسكرية ضد القوات الأمريكية أو التحالف الدولي، مع قطع علاقة الحركة بتنظيم القاعدة، إضافة لبدء مفاوضات سلام مع الحكومة الأفغانية، وفي المقابل تعهد الأمريكيون بسحب قواتهم خلال 14 شهرًا من تاريخ توقيع الاتفاق وشطب أسماء قادة طالبان من القائمة السوداء.

هذا الاتفاق الذي كلل سنوات من المفاوضات بين الحركة والأمريكيين، كان فرصةً لاستعراض في الأداء السياسي لطالبان؛ إذ نجحت في تحسين شروط التفاوض بالتوازي مع تصعيد عسكري من الحركة في معظم الأراضي الأفغانية للضغط على نظرائهم في المفاوضات.

وإلى جانب النصِّ على الانسحاب الأجنبي، مهد الاتفاق لإطلاق سراح آلاف من معتقلي الحركة لدى الحكومة الأفغانية، بادرةَ حسن نية للبدء في مفاوضات سلام بين الجانبين، وهو ما تم بالفعل؛ إذ أُفرج عن عدد كبير من معتقلي الحركة.

دولي

منذ 3 سنوات
صراع عمره أكثر من 20 عامًا.. دليلك الشامل لفهم حرب أفغانستان

المصادر

تحميل المزيد