خلال التاريخ المُعاصر، عمل المعارضون السياسيُّون على نشر أفكارهم وإيصالها إلى الجماهير، من خلال وسائل التواصل المتوفِّرة في عصرهم، فمن رسائل لينين الورقيَّة التي كانت تأخذ وقتًا طويلًا لنقلها من سويسرا إلى روسيا، ثم طباعتها في مطلع القرن، إلى أشرطة «الكاسيت» التي استخدمها آية الله الخميني خلال الثورة الإيرانيَّة في السبعينيات، إلى ثورات الربيع العربي التي شهدت انتشارًا لتقنية «البث المباشر».
وعلى مدار نحو قرن من الزمان، شهد العالم قفزات كبيرة في عالم التكنولوجيا ووسائل التواصل، سهَّلت انتشار المعلومات، وألغت المسافات بين البشر. فتحولنا من الكتب والرسائل للأشرطة المسجلة، ثم إلى القنوات التليفزيونية، وأخيرًا الإنترنت، الذي أصبح في جيب كلِّ شخص عبر الهواتف الذكيَّة، وأصبح معه تداول الأفكار والآراء – حتى المتطرَّف منها والشاذ – على بُعد نقرة زرٍّ فقط.
ثورة التكنولوجيا هذه أحدثت بدورها آثارًا سياسيَّة مُزلزلة لا تقلُّ أهميَّة، إذ جرَّدت الأنظمة السياسية من العديد من الأسلحة التي لطالما استعملتها لإسكات الأصوات المُخالفة، فتطورت أدوات المعارضين في الخارج لمقاومة السلطة ونشر أفكارهم، وتسببت – بمختلف أنواعها – في إشعال ثورات واحتجاجات في بلدانهم.
«رسائل من بعيد».. حين كانت رسائل لينين أهم من محاضراته
اندلعت الثورة البلشفية في سنة 1917، منذ ما يزيد على قرن من الآن، في الوقت الذي كان الزعيم الشيوعي الروسي فلاديمير لينين يقضي عامه الثالث في سويسرا، التي وصل إليها سنة 1914 هربًا من قمع الشرطة الروسية.
Embed from Getty Images
فلاديمير لينين، زعيم الثورة البلشفية وأول رئيس وزراء للاتحاد السوفيتي.
في زيورخ السويسرية، ألف لينين كتبًا، وعقد محاضرات ولقاءات مع مختلف المثقفين، حتى سمع بإسقاط القيصر الروسي واشتعال الثورة. في ذلك الوقت، قال لينين إن «الصحافة هي الأساس الآن»، وبدلًا من إلقاء المحاضرات وعقد الاجتماعات، قرر أن يبعث رسائل ورقية طويلة من منفاه في سويسرا إلى الداخل الروسي، تطالب العمال بالقطيعة مع الليبراليين البرجوازيين، والاستيلاء على السلطة بأنفسهم، من أجل نشرها في مجلَّة «برادا» التابعة للحزب الشيوعي.
كانت تلك وسيلته الوحيدة لمحاولة الوصول إلى الجماهير وضخِّ أفكاره في الثورة، وكان يبعث بالرسائل إلى مدينة أوسلو النرويجيَّة لدى الرفيقة ألكساندرا كولونتاي، والتي بدورها كانت تُرسلها إلى مدينة سانت بيترسبرج، ممَّا يعني أن الرسائل كانت تأخذ وقتًا طويلًا قبل أن تُنشر في الصحافة الروسية وتصل إلى الجماهير الثائرة.
في الأسابيع التالية لإسقاط الحكم القيصري، قرر لينين العودة إلى روسيا في رحلته الشهيرة ليكون في قلب الثورة التي أدت لاحقًا لتأسيس الاتحاد السوفيتي، الذي تولى فيه لينين رئاسة الوزراء.
من منفاه في فرنسا.. «إعلاميَّات» آية الله تطيح بشاه إيران
أحدثت الثورة الإيرانيَّة سنة 1979 زلزالاً سياسيًّا عميقًا في منطقة الشرق الأوسط، وما زالت انعكاساتها – حتى بعد 40 سنة – مؤثِّرة إلى اليوم؛ لكن المُفارقة أن الشخصيَّة الأكثر تأثيرًا في مسار الثورة الإيرانيَّة، أي الإمام آية الله الخميْني، لم يكن موجودًا داخل إيران في معظم الوقت، إذ أمضى مدَّة طويلة في المنفى، سواء في مدينة النجف بالعراق، أو في المعتقل بتركيا، انتهاءً بلجوئه إلى فرنسا حتَّى قيام الثورة.
كيف استطاع الخُميْني التأثير في مجريات الثورة وأن يضمن لنفسه مكانة الزعيم الأوحد لها، رغم وجوده في المنفى معظم الوقت؟ كان السرُّ يكمن في الشرائط المسجَّلة «الكاسيت» التي بعثها إلى الداخل الإيراني، إذ هاجم من خلالها نظام الشَّاه بجُرأة غير مسبوقة، وحشد بذلك آلاف الأنصار الإيرانيين الحانقين على النظام الدكتاتوري، وقد عُرفت هذه الشرائط باسم «الإعلاميَّات».
بدأ الخميني استخدام الشرائط المسجَّلة أو الإعلاميات حين طُرد من حوزته في مدينة قُم إلى النجف بالعراق، وبسبب تعلقه بالحَوزة، بدأ يرسل لأتباعه درسًا دينيًّا أسبوعيًّا مسجلًا على أشرطة «كاسيت»، لتنتشر هذه التسجيلات سريعًا حتى إلى فئات من خارج دائرة مريديه، وبدأ محتوى التسجيلات شيئًا فشيئًا يتحوَّل من مجرد درس ديني إلى موضوعات سياسيَّة صريحة، لتنتشر في سائر أنحاء إيران، ويُعرف التسجيل باسم «الإعلامية».
الأثر البالغ لإعلاميَّات المُرشد الإيراني ظهر جليًا قبل أشهر قليلة من اندلاع الثورة، عندما بدأ الشيخ السبعيني بإرسال أعداد متزايدة من إعلامياته إلى القوات المسلحة، وكانت الرسالة بسيطة: «ينبغي لهم ألا يخدموا الشاه؛ فالشاه هو الشيطان الطاغوتي المتجسد، وهم جنود الله المستضعفون، وينبغي لهم ألا يطلقوا النار على إخوانهم من المسلمين. لكن كل رصاصة تصيب قلب مسلم هي أيضًا رصاصة تصيب قلب القرآن. يجب أن يرجعوا إلى قراهم وأراضيهم، إلى المسجد، إلى الله».
في خريف سنة 1977، ضاعف الخميني من هجماته الدعائية الموجَّهة إلى الجيش، وبدأ في حثِّ الجنود على أخذ أسلحتهم معهم، حسبما جاء في كتاب «مدافع آيات الله» للصحافي المصري محمد حسنين هيكل.
لا شكَّ أن رمزية الخميني الدينية قد لعبت دورًا محوريًّا في أثر هذه الشرائط، بالإضافة إلى أسلوبه الساحر في الكلام؛ إذ كان الصوت يبدو وكأنه يداعب آذان سامعيه بموجات رقيقة، ويجعلهم في حالة أقرب إلى «النشوة»، بحسب ما قاله هيكل في «مدافع آية الله».
من المفارقة أنَّ النظام السياسيَّ الذي أسَّسه الخميني بعد نجاح الثورة صار يضيِّق على استخدام شبكة الإنترنت ويحجب مواقع التواصل الاجتماعي العالميَّة، مثل: «تويتر» و«فيسبوك» و«تيليجرام»، وظهر ذلك جليًّا أثناء الانتفاضة التي أعقبت الانتخابات الرئاسية سنة 2009، وفي الاحتجاجات الإيرانية في بداية سنة 2018.
حراك الجزائر.. «البثُّ المباشر» لكسر الحصار والمنفى والتعتيم
في الحراك الجزائري الذي انطلق في فبراير (شباط) 2019، كان لتقنيات «البثِّ المباشر» (اللايف) فضل كبير في نقل الاحتجاجات والمظاهرات التي سادت البلاد ضد نظام الرئيس بوتفليقة، والتي نجحت في إيقاف ترشُّحه لعهدة خامسة ثم دفعه للاستقالة. سمحت هذه التكنولوجيا بنقل انتهاكات أجهزة الشرطة على الهواء مباشرة، ممَّا سبَّب ضغوطًا كبيرة على هذه الأنظمة، وجعلها تأخذ هذه المتغيِّرات في الحسبان. بالإضافة إلى ذلك، فقد سمحت للمعارضين الموجودين في الخارج أو الممنوعين من النشاط، أن يوصلوا أصواتهم وآراءهم إلى متابعيهم، قبل الحراك وبعده.
أحد أشهر الأمثلة على ذلك، هو المُعارض محمد العربي زيتوت، الذي بدأ مساره المهني في سلك الدبلوماسيَّة في أوائل التسعينيات، قبل أن يقرِّر في سنة 1995 الاستقالة من وظيفته بسبب اعتراضه الشديد على انتهاكات النظام العسكري، الذي أوقف انتخابات 1992، وقرر الانتقال إلى بريطانيا حيث بدأ مشواره المعارض، من خلال إطلالات على الصحافة المكتوبة والمرئيَّة يعارض فيها النظام الجزائري.
بدأ زيتوت بنشر فيديوهات مُعارضة للنظام على «يوتيوب» منذ 2008، لكن متابعاته في تلك الفترة لم تكن تتجاوز بضع مئات على أقصى تقدير، من القلَّة القليلة التي كانت تملك وصلة إنترنت حينها، ومهتمَّة بالشأن السياسي الذي كان يعرف نفورًا جماعيًّا منه.
شارك أيضًا في بعض الإطلالات على شاشة «الجزيرة»، أبرزها في برنامج «الاتجاه المعاكس»، ثم اختفت هذه الإطلالات تمامًا بفعل تفاهمات بين النظام القطري والجزائري، حسبما يقول، لينتقل حصرًا إلى الظهور على المنصات المفتوحة التي وفَّرتها التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي للمعارضين السياسيين.
حاول محمد العربي زيتوت استغلال سياق الربيع العربي سنة 2011؛ من أجل الدفع نحو تغيير النظام في الجزائر، لكنَّه قوبِل بالكثير من المعوِّقات التي حالت دون انتشار خطابه الراديكالي آنذاك، وأبرزها عدم انتشار الإنترنت بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى سياق اقتصادي واجتماعي ووضع صحيٍّ مختلف تمامًا للرئيس بوتفليقة، ولذلك لم تكن 2011 هي لحظة التغيير المنشودة التي حلم بها العربي زيتوت، بل تأخرت ثماني سنوات كاملة.
لا يمكن تجاهل التأثير الكبير الذي لعبه العربي زيتوت خلال الحراك الجزائري الذي انطلق عام 2019، إذ كان من أكثر الشخصيَّات متابعة من طرف الجماهير، فكانوا يتجمَّعون داخل سيَّاراتهم، أو على طاولات المقاهي، مستمعين على هاتف أحدهم إلى «لايف» المعارض محمد العربي زيتوت، الذي تستمع فيه إلى ما لن تجده في الجرائد، ولا في القنوات الرسميَّة والخاصة، مثل الأحاديث عن كواليس اجتماعات الجنرالات، وصراعاتهم في الخفاء، وثرواتهم، وولاءاتهم، والصراع بين المخابرات والجيش والرئاسة، وعلاقة رجال الأعمال بكلِّ هؤلاء، وذلك من خلال خطاب معارض راديكالي يرفض كل المنظومة السياسية والحزبية، والانتخابات التي يشرف عليها النظام.
كان العربي زيتوت من بين أبرز المعارضين الداعين للمشاركة في احتجاجات 22 فبراير (شباط)، وسرعان ما تحوّلت صفحته على «فيسبوك» وقناته على «يوتيوب» إلى أكثر الصفحات متابعة منذ بداية الحراك في 22 فبراير، ورغم جودة الصوت الرديئة والوضعيَّة المعوجَّة للكاميرا في أغلب الأحيان، فاقت مشاهداته بمراحل الصحف والقنوات الإخبارية التي أنفقت المليارات من أجل استوديوهاتها الفارهة، ويبقى إلى اليوم أحد أكثر السياسيين متابعة على وسائل التواصل الاجتماعي، ويحظى «البثُّ المباشر» الذي يُطلقه كلَّ ليلة بمئات الآلاف من المشاهدات، وقد هتف العديد من المشاركين في الحراك باسمه في العديد من المحافظات الجزائريّة.
في مصر.. البث المباشر يُشعل تظاهرات نادرة
هل من الممكن أن تُشعل ثورة من الخارج من خلال كاميرا موبايل؟ كاد ذلك أن يحدث مرة، ولن يكون من المستغرب حدوثه مجددًا في وقت قريب.
في الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) 2019، اندلعت مظاهرات ليليَّة في عدَّة مناطق في مصر، هي الأولى من نوعها منذ سنوات. وكان المسؤول المباشر عن اندلاع هذه الموجة الاحتجاجيَّة ممثِّل سابق ومقاول، ينشر فيديوهات يكشف فيها عن بعض خبايا السلطة المصرية من فندق في إسبانيا، ومن خلال بث مباشر على «فيسبوك».
وجد محمد علي أن البث المباشر على «فيسبوك» هو الوسيلة المثلى من أجل الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من المصريين، خصوصًا وأنَّ المحتوى النقدي الذي يكشف خبايا السلطة وملفَّات الفساد المتعلِّقة بمشروعات الرئيس السيسي وقصوره الرئاسيَّة، والمتعلِّقة حتّى بأسرته ودائرته الضيِّقة؛ من المستحيل أن يُسمح بعرضها في القنوات الفضائيَّة أو وسائل الاعلام المصريَّة التي تتحكَّم فيها السلطة.
واللافت في ظاهرة محمد علي لم يكن فقط أنها كشفت عن إمكانية وصول الخطابات المعارضة لشريحة شعبية واسعة، رغم القمع الإعلامي وحجب مواقع الإنترنت المختلفة، بل أثبتت أنها يمكن أن تتحوَّل إلى تحرُّكات حقيقيَّة شديدة التأثير على أرض الميدان، لا مجرَّد انتقادات في خانة التعليقات لتفريغ شحنة الغضب كما ظنَّ الكثيرون.
اتبع محمَّد علي أسلوبًا في الحديث نال عنه انتقادات بالسطحية، أو أنه لا يرقى إلى المعايير الفكرية والثقافيَّة للنخبة المعارضة، خصوصًا عندما اتجه لتحليل وتفسير بعض الظواهر السياسية شديدة التركيب، مثل «جذور الجماعات الإرهابيَّة» و«الربيع العربي» وغيرها.
لكن البعض قد يُجادل بأنَّ أسلوبه التبسيطي المباشر، الخالي من المصطلحات المعقَّدة التي يستخدمها السياسيُّون عادة، هو ما سمح له بالوصول إلى شرائح شعبيَّة أوسع، وسرعان ما تحوَّل في نظرهم إلى «بطل شعبيٍّ» يفضح الفساد ويخاطر بحياته من أجل الوطن، وهو ما أدَّى بهم إلى الاستجابة إلى دعوته إيَّاهم للخروج احتجاجًا على نظام الرئيس السيسي.
هذه الاستجابة المفاجئة شكَّلت صدمة كبرى، ليس فقط للنظام المصري الذي تفاجأ بالأعداد التي نزلت في 21 سبتمبر، بل أيضًا للطبقات المثقَّفة التي ربما نظرت إلى ظاهرة محمد علي باستخفاف، ولم تؤمن بقدرة ممثل ومقاول يفضفض على موقع «فيسبوك» في بث مباشر من إسبانيا، على تحريك الشارع، الذي بقي راكدًا لسنوات رغم انتهاكات وتجاوزات النظام المصري.