سعت روسيا على مدار الأعوام الماضية إلى إعادة بناء امبراطوريتها الغائبة داخل منطقة الشرق الأوسط؛ خصوصًا بعدما فقدت كثيرًا من وزنها الإقليمي ودورها الفاعل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية في العقود الأخيرة، ويمكن القول إنه قد تحقق لفلاديمير بوتين رئيس روسيا ما أراد من إعادة فاعلية دور بلاده داخل قضايا الشرق الأوسط، واكتساب روسيا أهمية استراتيجية من وزنها الإقليمي الآخذ فى التعاظم، علاوة على الاشتباك في كُل القضايا.
لم يغب عن روسيا أثناء إعادة ترميم دورها، وتعظيم حضورها، وإعادة الاتصال مع الحلفاء الذين فقدتهم؛ مد قنوات الاتصال مع الحركات الإسلامية التي طرحت نفسها كتيارات تُمارس السياسة بأدواتها الحديثة من أجل السعي للسلطة والتي تتقاطع مع المصلحة الروسية، ليكونوا أحد الرهانات التي تعول عليها روسيا في تنفيذ استراتيجيتها.
يرسم التقرير التالي صورة شاملة عن ملامح هذا التواصل بين روسيا وهذه الحركات الإسلامية في العالم العربي، ومقاربة بين سياسة الاتحاد السوفيتى وسياسة روسيا الآن، وجدير بالذكر ههنا أن الأمر لا يشمل كل الحركات الإسلامية بالطبع، فهناك حركات وتيارات إسلامية مثل تلك المقاتلة في سوريا، هي عدو رئيس للدب الروسي، لا يمكنه التصالح معه أو مد جسور المصالح معه.
بوتين يتعلم الدرس: العدو القديم صار حليفًا في أفغانستان
مر 29 عامًا على انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان بدون تحقيق أي هدف من أهدافه على مدار 10 أعوام من الغزو؛ فقد خرج خاسرًا قوته العسكرية، ونفوذه السياسي، بعدما بلغ عدد قتلى هذه الحرب نحو 1.5 مليون قتيل، فيما وصلت تكلفة الحرب السوفيتية ملياري دولار سنويًا دون القدرة على البقاء في البلاد.
الوقع الأكبر على السوفييت، لم يكن الخسارة المُذلة والانسحاب من أفغانستان بعد 10 سنوات من الحرب، بل كان اكتسابهم عداوة مع قطاعات واسعة من الحركات الإسلامية الجهادية التى عرفت حينها بالمجاهدين الأفغان والمجاهدين العرب، وتسللت لكافة الحركات الإسلامية على اختلاف مشاربها الأيديولوجية، والتي وجدت في الوقت ذاته دعمًا سياسيًا وماليًا من عدد من الدول الكُبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، لاستمرار هجماتها ضد الاتحاد السوفيتي.
ويمكن القول بأن هذه الحرب التى أفقدت الاتحاد السوفيتي نفوذه ومهدت لتفككه، وأكسبته عداوات بلا ثمن سياسي، كانت درسًا راسخًا في ذاكرة الكثير من الروس وحُكام موسكو من بعد جوربتاتشوف؛ لتتأكد لديهم قناعة في تصميم استراتيجية جديدة قائمة على تحقيق نفوذ دون التورط في انخراط عسكري مباشر إلا للضرورة القصوى، وكذلك الأخذ في الاعتبار؛ فتح قناة اتصال دائمة مع الإسلاميين الفاعلين في بلادهم، والتي تتقاطع مصالحهم مع نفوذ موسكو، باعتبارهم ورقة رابحة محتملة لمد النفوذ الروسي في مناطق تواجدهم.
ولقد ظهر ذلك في إعادة بناء النفوذ الروسي في أفغانستان دون الانخراط العسكري المباشر؛ وذلك بعدما رفضت موسكو الانخراط في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) في عام 2001، بالتوازي مع توطيد علاقاتها بالحركات الإسلامية مثل حركة «طالبان» لاستثمار نفوذها في ترسيخ الحضور الروسي.

الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين
فعل ذلك فلاديمير بوتين، ضابط المخابرات الروسي، الذي أصبح بعد ذلك رئيسًا لروسيا؛ إذ صمم استراتيجية جديدة أعاد من خلالها النفوذ الروسي لعدد من قضايا الشرق الأوسط التي غابت عنها موسكو لصالح أمريكا، مرتكزًا فى هذه السياسة الجديدة – كما ذكرنا آنفًا – على استخدام الحركات الإسلامية ورقة رابحة لتحقيق النفوذ الروسي دون انخراط عسكري مباشر أو تكوين عداوة دائمة معهم.
تجلى ذلك في السياسة الروسية تجاه حركة طالبان فى أفغانستان؛ والتى تحولت من العداوة والحرب إلى الاحتضان السياسي والعسكري؛ لتكون ورقة روسيا الرابحة دومًا فى إعادة تموضع روسيا في أفغانستان، مقابل الحد من نفوذ أمريكا في كابول.
الأمر اتضح بصورة يقينية بعد اتهام قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، الجنرال جون نيكلسون روسيا بدعم حركة طالبان عبر تزويدها بالأسلحة؛ إذ ذكر في مقابلة مع شبكة «بي بي سي» البريطانية: «جلبنا أسلحة إلى أحد مقراتنا، كنا قد تسلمناها من قادة أفغان، وأبلغونا في حينه أن الروس أعطوها لحركة طالبان»، علاوة على التقرير الحصري الذي أذاعته قناة «سي إن إن» الإخبارية، والذي يوثق حصول الحركة على أسلحة روسية بمساعدة إيران، لمواجهة عناصر «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» في أفغانستان، أو عن طريق طاجيكستان المجاورة لروسيا.
لا ينحصر الدعم العسكري لحركة طالبان على روسيا، فقط، بل يشترك في ذلك أطراف دولية أبرزها إيران التى رأت في الحركة أحد الخيارات الاستراتيجية التي ينبغي التعويل عليها في محاربة (داعش).
لم يقف حدود الدعم الروسي لطالبان عند الدعم العسكري فقط؛ بل شمل دعمًا سياسيًا وتنسيقًا مستمرًا عبر لقاءات سرية وعلنية بين قاداتها ومسؤولين روس، وهو الأمر الذي انعكس على انزعاج أمريكي تمثل في غضب وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس من تطوير روسيا علاقاتها بحركة طالبان.
المساعي الروسية من أجل توظيف حركة طالبان لصالحها؛ تضمنت كذلك ممارسة ضغوط على الصين وباكستان لشطب أسماء شخصيات (طالبانية) بعينها من قوائم عقوبات الأمم المتحدة، وتهيئة المجتمع الدولي لاستخدامها درعًا واقيا وضروري فى الحرب ضد (داعش).
ثم أخذ الدور الروسي في أفغانستان ينتقل إلى مساحات نفوذ جديدة؛ عندما تحولت موسكو إلى راعٍ لمفاوضات السلام في أفغانستان، مثل رعايتها لاجتماع في سبتمبر الجاري، بحضور رسمي لقادة طالبان في هذه المفاوضات إلى جانب ممثلي العديد من الدول المجاورة، دون اعتبار لرفض حكومة أفغانستان إشراك جماعة «طالبان» في المفاوضات.
الجهاد الإسلامي و«حماس».. أوراق روسيا الرابحة في فلسطين
سعت روسيا لتوظيف حالة العزلة الإقليمية لحركة حماس خلال العامين الماضيين، خصوصًا بعد القطيعة الكاملة من جانب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الحركة الفلسطينية، ووضع عدد من قادتها على قوائم الإرهاب، وذلك بمد جسور التعاون مع الحركة الإسلامية التي لا تزال تتمتع بنفوذ كبير داخل قطاع غزة، وإحياء العلاقات معها بسلسلة لقاءات وتصريحات تُبارك خُطوات الحركة العامين الأخيرين.
هذا بالإضافة إلى تحرك روسيا بشكل أكثر فاعلية من أجل فتح قنوات اتصال معها وسط تصريحات عدائية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية للحركة الفلسطينية، وقد بدأ هذا التوظيف بمُباركة الخارجية الروسية للوثيقة السياسية الجديدة للحركة، واصفًة إياها بـ«خطوة في الاتجاه الصحيح».
تجلى هذا التعاون الدائم أيضا في الزيارات السنوية الدائمة؛ إذ أصبح لا يمرّ عام منذ 2015، إلاّ وتحدث زيارة من إحدى قيادات «حماس» لموسكو. كان آخرها زيارة وفد من حركة حماس برئاسة عضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق، في 25 يونيو (حزيران) الماضي، والتي التقى فيها ممثّل الرئيس الروسيّ للشرق الأوسط ونائب وزير الخارجيّة ميخائيل بوجدانوف في مقرّ وزارة الخارجيّة الروسيّة.
التعاون بين الجانبين أخذ شكلًا رسميًا بعد إعلان السفير الروسي في إيران لوان جاجاريان أنّ «حماس هي أحد الممثّلين الرئيسين للشعب الفلسطيني، وهي حركة وطنية، وموسكو لا تعدها إرهابية»، في إشارة حول تمسك روسيا بحماس طرفًا أساسيًا في أي مفاوضات تتعلق بالقضية الفلسطينية.
مُغازلة القطب الروسي للحركة الإسلامية قوبل بحفاوة كبيرة من جانب قادة الحركة الذين أطلقوا سلسلة تصريحات تدعو للتقارب مع روسيا، وتأسيس تحالف جديد، بدت ملامحه من واقع الزيارات المتكررة والمحادثة التليفونية بين رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، وهو الممثل الخاص للرئيس الروسي في الشرق الأوسط، تباحثا خلالها في قضايا الشرق الأوسط والعلاقات الثنائية بين البلدين، والوثيقة السياسية للحركة.

رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)
ونقل أحمد يوسف، المستشار السياسي السابق لزعيم «حماس» إسماعيل هنيّة، توقعات الحركة بشأن علاقتها مع روسيا، قائلًا في تصريحات نقلها موقع «المونيتور» سابقًا: «حماس ذاهبة في اتجاه تقوية علاقاتها مع روسيا لمواجهة الضغوط التي قد تأتيها في المرحلة المقبلة من قوى دوليّة وإقليميّة، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل».
تحولت روسيا لحركة حماس كمفاوض مُفضل تعطيه أولوية في رعاية مفاوضات القضية الفلسطينية؛ بل وتلجأ له في أشد أزماتها كما حدث خلال زيارة مستشار الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب للشرق الأوسط جيراد كوشنير ومندوب دونالد ترامب لشؤون التفاوض الدوليّ جيسون غريبنلات إلى الشرق الأوسط لوضع ملامح لصفقة القرن، حيث تزامنت هذه الزيارة مع زيارة لوفد من حركة حماس إلى روسيا لاستدعاء التدخل الروسى لوقف تمرير صفقة القرن.
خدمت هذه الزيارة روسيا، ومنحتها نفوذًا واسعًا داخل القضية الفلسطينية، وأكدت أن أمريكا ليست اللاعب الوحيد في القضية الفلسطينية؛ بل موسكو هي الأخرى صاحبة نفوذ واسع عبر صلاتها مع الأطراف الفاعلة، وتأتي في مقدمتهم حركة حماس.
لم تقف روسيا عند مد قنوات الاتصال مع حماس فقط لتعزيز نفوذها فى الداخل الفلسطيني؛ بل شملت كذلك حركة الجهاد الإسلامي التي زار وفد منها موسكو لأول مرة فى تاريخها في 10 أغسطس (آب) بدعوة رسمية من الأخير، ووصفت الزيارة «بالناجحة، معربة عن أملها بأن تلعب روسيا دورًا إيجابيًا لدعم القضية الفلسطينية، ورفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة».
حسب المحلل السياسي الفلسطيني هاني حبيب لموقع «المونيتور»: «فمثل هذه الزيارات تأتي بسياسات مواجهة للسياسة الأمريكيّة، خصوصًا بعد مواقف دونالد ترامب في ما يتعلّق بملفّات القدس واللاجئين، والموقف الروسيّ الرافض لصفقة القرن الذي يقوّي الموقف الفلسطينيّ».
تأكيد شهادات وفد الحركة حرص الخارجية الروسية على التواصل الدائم مع الحركة هي إشارة بالغة الأهمية عن الرهان الروسي على الفصائل الإسلامية لتعزيز نفوذها، ومزاحمة الدور الأمريكي الذي بدأ يفقد جزءًا من حضوره في ظل العداوات الواسعة التي خلقها مع أكثر من فاعل في القضية الفلسطينية.
حزب الله.. رهان روسيا في الداخل اللبناني
انعكس التقارب الإيراني الروسي في العديد من القضايا بمنطقة الشرق الأوسط على مد جسور التواصل بين «حزب الله» وموسكو، والتي عززها انخراط الطرفين مع النظام السوري في حلف داعم لإبقاء نظام بشار الأسد في سوريا ضد الانتفاضة المقاومة له.
وظهر هذا التعاون الوثيق بين «حزب الله» وروسيا فى التواصل والتنسيق المستمر بين العناصر المُسلحة للمنظمة اللبنانية والضباط الروس في سوريا؛ إذ أوردت صحيفة «الأخبار» اللبنانية المقربّة من «حزب الله»، في 24 نوفمبر (تشرين الثانى) 2016، أن المنظمة عقدت اجتماعها الرسمي والمباشر الأول مع ضباط روس كبار لمناقشة المعركة النهائية للسيطرة على حلب. وأشار التقرير أيضًا إلى «امتداح الضباط الروس الذين كانوا وراء الدعوة إلى الاجتماع، أداء حزب الله خلال غزوة الشهيد أبي عمر سراقب».
عززت حرب يوليو (تموز) 2006 بين «حزب الله» وإسرائيل، العلاقة الثنائية بينهما، بعدما دعمت روسيا المنظمة اللبنانية عسكريًا فى مواجهة إسرائيل، سواء عن طريق صواريخ الكورنيت الروسية التي نجحت بإيقاف الدبابات الإسرائيلية، أو عن طريق زيارة خبراء عسكريين روس للجنوب اللبناني، والتقائهم بعدد من ضباط الحزب بعد حرب عام 2006؛ مما أسس لعلاقة راسخة بين الجانبين قادرة على تجاوز الخلافات في وجهات النظر السياسية لبعض القضايا.
وتبدو الرغبة من جانب حزب الله في تعزيز الحضور الروسي فى الداخل اللبنانى واضحة ومُحببة؛ إذ تُشير التحركات الداخلية للكتلة البرلمانية لحزب الله، إلى الضغط نحو الاعتماد على روسيا فى الدعم العسكري بدلًا عن الولايات المتحدة الأمريكية.
يظهر ذلك من واقع تصريحات للنائب عن حزب الله نواف الموسوي، والتي رسمت تصورًا كاملًا عن رؤية حركته السياسة نحو موسكو، متسائلًا: «لماذا لا نتجه عوضًا عن ذلك شرقًا باتجاه روسيا والصين، ونذهب لجلب السلاح من هاتين الدولتين العظميين اللتين تمتلكان قدرات تسليحية أثبتت كفاءتها في ساحة المعركة؟ ولماذا حتى الآن تمتنع الحكومة عن إبرام اتفاق تعاون استراتيجي مع الاتحاد الروسي؟ سوريا لديها علاقة مع الاتحاد الروسي، لماذا لا نشمل لبنان بالتغطية الجوية الروسية؟ وإن كان الاتحاد الروسي بحاجة إلى قواعد عسكرية ومطارات، فالأمريكي يستخدم مطاري رياق وبيروت، فلماذا لا يمكن أن يستخدمها الروسي، وهذا السلاح الذي تمتلكه المقاومة هو إنتاج روسي من الكورنيت وغيره؟».