كل ما تراه حولك الآن من إنجازات عظيمة كان في البداية مجرد فكرة في عقل صاحبها. لطالما كانت البشرية منذ قديم الزمان شغوفة بالأفكار، المعقول منها والمستحيل، فمن الاختراعات العلمية الهائلة مثل السيارة والطائرة وشبكة الإنترنت، مرورًا بالأفكار والمعتقدات الفلسفية، وانتهاءً بالأفكار الأسطورية مثل تحويل التراب إلى ذهب، نجد أن الرابط المشترك بين كل ذلك كلمة واحدة «التفكير».
وبالرغم من أن فكرة تحويل التراب إلى ذهب لازالت تُروى في الأساطير والأمثلة الشعبية كأمر مستحيل، إلا أننا وفي عصر العلم وبالنظر إلى كل ما تحقق من اختراعات وأفكار غيرت مسار أصحابها ومصير العالم كله، نجد أن الإنسان قد توصل بالفعل إلى ما هو أكثر من تحويل التراب لذهب. فمن بضعة جنيهات قليلة استطاع الإنسان أن يحقق ملايين من خلال أفكار بدت بسيطة للغاية في بدايتها.
موقع «صراحة».. أو كيف تصنع ملايين من لا شيء
إن لم تكن تصفحت هذا الموقع حتى الآن، فبالتأكيد رأيت رابطًا له عند صديق لك على «فيسبوك» متبوعًا بجملة «أخبرني عن رأيك فيّ بصراحة».
انطلق الموقع يوم 17 يناير (كانون الثاني) هذا العام بفكرة بسيطة للغاية، وهي عرض لآراء أصدقائك في شخصك دون أن تعلم من هو الراسِل. ربما ليست فكرة حديثة على مواقع الإنترنت، إذ سبقتها أفكار مشابهه قبل ذلك، إلا أن الموقع وبتصميم بسيط للغاية حقق رقمًا فلكيًا في عدد الزيارات واستطاع جذب ملايين من المشتركين في أقل من شهر.
وفقًا لمؤشر ترتيب المواقع العالمي «أليكسا»، فإنه وحتى لحظة كتابة هذا التقرير بلغ ترتيب الموقع في مصر 294 بين كل مواقع الإنترنت، وفي تونس وصل الترتيب إلى رقم 38، أما في سوريا فوصل ترتيب الموقع إلى 43.
بأخذ مصر كمثال فإن عدد سكانها يبلغ 90 مليونًا، ووفقًا لأحدث إحصاء عالمي فقد وصل عدد مستخدمي الإنترنت في مصر عام 2016 إلى 38 مليون مستخدم، سواء من الهاتف المحمول أو من أجهزة الكومبيوتر، وبالعودة لمؤشر «أليكسا» فإن 32% من مستخدمي الإنترنت في مصر تصفحوا موقع «صراحة» مما يعني وأنه في خلال أقل من أربع أسابيع زار الموقع من مصر وحدها دون النظر لبقية دول العالم أكثر من 12 مليون زائر.
يصل معدل الدقائق التي يقضيها الزائر للموقع في تصفحه إلى ثمان دقائق وهو رقم رائع قد لا يتحقق في الكثير من المواقع الشهيرة، مما يتيح لصاحب الفكرة أن يعلن عنها بملايين الجنيهات مستغلًا هذا العدد الهائل والنجاح غير المسبوق في عدد الزوار قياسًا بالمدة الزمنية القصيرة.
لا يُبهر الموقع زواره بالكثير من التصميمات والتوضيحات، وإنما كان تصميمه بسيطًا للغاية، ولا يحتوي على كثير من «الجرافيك» والصور والبيانات؛ فقط بضع كلمات على خلفية رمادية، إلا أن الإبهار الحقيقي كان في الفكرة.
صراحة: كيف تُعلن عن فكرتك دون أن تدفع جنيهًا واحدًا؟

واجهة الموقع.
عند دخولك إلى الموقع وبعد إبداء رأيك في صديقك ستطالعك خانة التسجيل في أعلى الصفحة، ستقوم بالتسجيل من أجل أن تخوض التجربة بنفسك، وحينها ستنشر رابط الموقع على صفحتك الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنه سيدخل أصدقاؤك لإبداء آرائهم فيك، وستستهويهم الفكرة فيقومون هم أيضًا بالتسجيل على الموقع ونشر الرابط على صفحاتهم الشخصية لأصدقائهم وهكذا. وبذلك يُعلن الموقع عن نفسه ويُتداول بين ملايين من المستخدمين دون دفع جنيه واحد.
وبالنظر لكيفية التعرف على الموقع فإن 55% من عدد المشتركين في الموقع قادمون من نفس الموقع، مما يعني أن أكثر من نصف زوار الموقع قد اجتذبتهم الفكرة عندما دخلوا إليه، وقاموا بالتسجيل فيه فورًا وهو ما يعكس نجاح تسويق الفكرة لنفسها بدرجة كبيرة.
السر في نجاح موقع صراحة
بعد كل تلك الأرقام السابقة يصبح من الأجدر التفكير في السر وراء نجاح انتشار الموقع بهذه الطريقة. عند دخولك لواجهة الموقع تجد سؤالًا بالخط العريض: «هل أنت مستعد لمواجهة الصراحة؟ احصل على نقد بناء بسرية تامة من زملائك».
بضع كلمات قليلة انتقاها صاحبها بعناية بالغة حتى تُحدث في نفس قارئها التأثير المطلوب؛ إذ تكمُن وراء السؤال شُبهة تحدي بين الشخص ونفسه؛ هل أنا حقًا مستعد لمواجهة الصراحة؟ البعض منا يخاف من المواجهة والبعض قد تؤذيه الصراحة إلا أن السؤال سيدفع الكل إلى ما هو أقوى من الخوف وأقوى من «خشية الإيذاء»، الفضول!
«أنا لا أمتلك موهبة خاصة، ولكني فضوليّ جدًا» ألبرت أينشتاين.
إحدى أكبر السمات المميزة للإنسان هي الرغبة في معرفة كل جديد والسعي نحو إشباع فضوله الذي لا ينتهي. عند قراءتك لعنوان التقرير، وحده الفضول دفعك للدخول لهذه الأسطر ومعرفة كيف يمكن للبعض استغلال بساطة أفكارهم في صناعة الملايين، عند قراءتك لسؤال موقع «صراحة» سيدفعك الفضول أيضًا إلى التسجيل عليه.
في مقال له بموقع «بي بي سي المستقبل» وتحت عنوان «لماذا نحن فضوليون للغاية» يبدأ «توم ستانفورد» أستاذ الطب النفسي بجامعة «شيفيلد» في إنجلترا مقاله بكلمات صادمة جدًا: «أنا مضطر لأن أُضايقك وأخبرك أنه وبغض النظر عن طموحاتك في الحياة وأهدافك المستقبلية بعيدة المدى، فإن قراءة هذا المقال لن تذهب بك بعيدًا؛ لن توقف شعورك بالجوع، لن تضيف معلومات قد تنقذ حياتك؛ وبالتأكيد لن تجعلك أكثر جاذبية للجنس الآخر».
إلا أن ما دفع القراء للدخول وقراءة المقال من وجهة نظر «ستانفورد»، هو شيء واحد متجذر فينا نحن البشر منذ قديم الزمان؛ إنه الفضول. ويشير «ستانفورد» في مقاله إلى أن البشر كائنات فضولية بطبعها، وأننا بدافع من فضولنا فحسب يمكن أن نفعل أشياء غير منطقية.
«يدفعنا الفضول إلى قراءة أخبار لأناس لن نقابلهم أبدًا في حياتنا، وإلى تعلم مواضيع لن نستخدمها على الإطلاق، واكتشاف أماكن لن نعود إليها أبدًا ولن نسكنها. نحن فقط نحب التوصل إلى إجابات لعلامات الاستفهام؛ حتى وإن كانت الإجابات غير مفيدة لنا في حياتنا».
هكذا يقول ستانفورد، وبالعودة إلى موقع «صراحة» نجد أنه اعتمد في واجهته على علامة الاستفهام التي تحدث عنها دكتور «ستانفورد»، ونسبها إلى شخص كل قارئ؛ «هل تخشى أنت من مواجهة الصراحة؟» ومن هنا كانت الفكرة أكثر «فضولية» للجميع. ربما يقل فضول الناس عند التعرض لمواضيع لا تخص حياتهم ولكن حين يتعلق الأمر بذات الإنسان فإنه يصبح أكثر فضولية من أي وقت مضى.
ماذا لو كنت حزينًا عند رؤيتك للموقع؟ العلم يخبرنا
لنتخيل أننا نجلس في نهاية يوم شديد التعب بعد رحلة عمل شاقة طوال اليوم، تخالجنا الكثير من الأفكار السلبية، وقبل النوم تصفحنا «فيسبوك» فوجدنا صديقًا نشر الرابط الخاص بالموقع ودخلنا إليه وبعد إبداء آرائنا في هذا الصديق، رأينا السؤال على واجهة الموقع، هل يمكن لفضولنا أن يتغلب على التعب الجسماني وسلبية الأفكار ويجعلنا نخوض غمار التجربة؟ العلم يُجيب: نعم
في دراسة هامة نُشرت في مجلة «طب الأعصاب Neuro Magazine»، قادها أساتذة الطب النفسيّ بجامعة «كاليفورنيا» وُجد أن مخ الإنسان يكافئه بقدر أكبر من السعادة إذا كان فضوليًا. شملت الدراسة 19 متطوعًا من مختلف الأعمار، سُئل كلُ منهم أسئلة خاصة لإثارة فضولهم مثل: ماذا تعني لك كلمة «ديناصور»؟ وطُلب من كل متطوع تقييم مدى فضوله تجاه كل سؤال.
بمراقبة أدمغتهم من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي وجد العلماء أن المنطقة المسؤولة عن تنظيم السعادة والمكافأة داخل مخ الإنسان، أضاءت بقوة عندما كان المتطوعون في ذروة فضولهم. كذلك وجدوا زيادة ملحوظة في نشاط «الهيبو كامبس» وهي المنطقة المسؤولة عن الذاكرة داخل مخ الإنسان.

صورة توضح طريقة إفراز المخ للدوبامين LA Johnson/NPR
استنتج العلماء من التجربة أن المنطقة المسؤولة عن تحفيز العقل البشري، هي نفس المنطقة التي تُحفز أدمغتنا عند الفضول، وحين تنشط دائرة الفضول يُطلق المخ هرمون «الدوبامين» المسؤول عن إحساسنا بالسعادة، كذلك له دور هام في الوصل بين خلايا المخ المسؤولة عن التعلم.
مما سبق يمكن القول بأنه مهما كانت حالتك النفسية، فعند رؤيتك لرابط موقع «صراحة» سيدفعك الفضول للدخول والتسجيل ومشاركة الرابط مع أصدقائك.
من منا لا يحب المديح؟
في حياة كل واحد منا محبون وكارهون له من الأصدقاء والمجتمع من حوله، حتى أكثر الأشخاص المكروهين بالنسبة لنا، لديهم أصدقاء مقربون يحبونهم أو يحبون بعض الصفات الجيدة فيهم، لذا فإن معرفة رأي الآخرين فيك تتضمن نوعًا من احتمالية المديح، فعند مشاركة الرابط مع أصدقائك فأنت متأكد نوعًا ما أن الرسائل ستحوي مديحًا لك ولبعض الصفات الشخصية فيك، مما يجعلك أكثر حماسًا لتجربة الموقع.
في تقرير على موقع «psychologytoday» توضح الكاتبة «هار ستروف» أن الإطراء والمديح واحد من أكثر الأمور أهمية في حياة الفرد الاجتماعية، وإذا حصل الشخص على المديح المناسب فهذا يمده بطاقة وسعادة لهما أثر السحر في حياته الشخصية.
يمكن تلخيص أسباب نجاح الموقع من وجهة نظر العلم بأنه لعب على اثنين من أكثر الأمور أهمية في حياة الفرد الشخصية: الفضول وحب المديح.
اجعل نقدك بناءً
السبب الأخير الذي يُمكن أن يوضح سرّ نجاح الموقع، هو هذه الجملة الصغيرة التي تُطالعك عند دخولك إلى الرابط وقبل البدء بإبداء رأيك في صديق. لم يترك صاحب الفكرة الناس لأخلاقهم أو عاداتهم في الذم والمدح، بل وجههم لجعل نقدهم بناءً قدر الإمكان وأتبع عبارته بهذا الرمز « 🙂 » الذي يعني ابتسامة صغيرة كي ينفي صيغة الأمر أو الإلزام في عبارته، وبالنظر إلى حرص غالبية البشر على مراعاة مشاعر المقربين منهم، ومع استبعاد أصحاب المزاح الثقيل، يمكن القول إنه حتى من كان يملك رأيًا سلبيًا فيك فإن رؤيته لهذه العبارة ستجعله أقل قسوة عند إبداء رأيه وسيحاول أن يجعل نقده «إن وُجد» في صالحك بطريقة غير تجريحية لمشاعرك.
فكرة بسيطة قد تجعل منك مليونيرًا في أقل من شهر
بهذه الفكرة وكما أشرنا سابقًا، يُمكن لصاحب الموقع الحصول على الكثير من الأموال لقاء عدد الزوار الهائل والمتزايد يومًا بعد يوم، وحتى حين يقل تأثير الموقع مع مرور الزمن كما يقول البعض، يمكن له أن ينقل فكرته ويطورها إلى أبعاد أخرى مستفيدًا من حجم الإقبال الهائل الذي حدث على الموقع.