مع تسلم الرئيس عبد الفتاح السيسي سلطة إدارة البلاد، برزت إحدى استراتيجياته لتعويض التناقص في الإيرادات، وعجز الموازنة، وهي اللجوء لرجال الأعمال لسد هذه الفجوة التمويلية بالأمر المباشر: “هتدفعوا يعني هتدفعوا، عارفين يعني إيه صندوق أنا بشرف عليه، وهعرف آخذ حقي تمام، ومحدش هيعرف ياخد مني حاجة لجيب حد، مصر محتاجة، وأولى بيها أهلها والقادرين”.
خلال السطور التالية، نعرض مجموعة من الحقائق عن علاقة رجال الأعمال بنظام الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، من خلال رصد لحجم الأموال والتبرعات التي قدمتها النخبة الرأسمالية المرتبطة بالسلطة خلال الفترة الماضية، وما هو المقابل لهذا الدور سواء كان امتيازات مادية / معنوية لهذه المجموعة، وعلاقة هذه التدفقات بسيطرة النظام على المجتمع، وشرعية الدولة، ومقاربة لاستراتيجية “السيسي” لتعويض التناقص في الإيرادات.
لماذا توسع نظام الحكم في طلب الإعانات من القطاع الخاص؟
التوسع في طلب الإعانات من رجال الأعمال جاء على خلفية أسباب داخلية وخارجية، ففي الداخل تدهورت الإيرادات الريعية للدولة المصرية، إلى جانب إطلاق الدولة العديد من المشاريع القوميّة العملاقة التي تمتصّ السيولة من السوق، وتدرّ عوائد على المدى البعيد. أما خارجيًا فقد تراجعت المنح الخليجية المتدفقة بعد حصول النظام الحالي على مساعدات بقيمة 16.7 مليار دولار من خلال مساعدات ماليّة في صورة ودائع بفائدة صفريّة لدعم الاحتياطيّ النقديّ الأجنبيّ لمصر، ومساعدات نفطيّة، عقب 30 يونيو. وهذا التراجع في المنح الخليجية يرجعه الخبراء لأسباب تتعلق بالوضع المالي والسياسي للدول الخليجية؛ خاصة المنتجة للنفط، بعد تراجع أسعاره عالميًا، وكذلك تراجع تصدير الخطر «الإخواني» و«الحرب على الإرهاب»، والذي كانت الحكومة تسوقه خارجيًا لاستجلاب هذه المنح.
لماذا كان رد فعل رجال الأعمال في التبرع لصالح “صندوق مصر” ضعيفًا حسب ما جاء في تصريح سابق للسيسي؟
مع بداية ولاية عهد “السيسي”، لم تكن هناك استراتيجية مطروحة من النظام في التعامل مع أوساط النخبة الرأسمالية المرتبطة بالسلطة، مما خلق مخاوف وتوجسًا لمجموعات رجال الأعمال، والذي تضاعف مع التوسع في الاعتماد على الجيش في عدد من المشروعات الاقتصادية الكبرى، ما قد يهدد مصالحهم حال استمرار المؤسسة العسكرية في تنفيذ هذه المشروعات.
هذا التوجس، عبر عنه رجل الأعمال البارز، نجيب ساويرس، في مقابلة تلفزيونية لبرنامج «هنا العاصمة» في سبتمبر الماضي قائلًا: “إن الجيش له مهام أخرى غير المشروعات، وهي حماية البلاد، والالتفات إلى المصائب التي تحدث في ليبيا والعراق”. واعتبر ساويرس أن الجيش لديه ميزة ليست لدى رجال الأعمال، وهي أنه “لما بينزل مش مهم التصاريح، ولا بيدفع رشوة، وبيقدر يتخطى المشاكل اللي إحنا عايزين نتخطاها كلنا”.
في هذا الصدد، يوضح هاني سري الدين، رئيس مكتب “سري الدين وشركاه” للاستشارات القانونية والمحاماة، المستشار القانوني للتحالف الفائز بوضع المخطط العام لمشروع تنمية إقليم قناة السويس “لساسة بوست” “توجس رجال الأعمال في بداية تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي كان أمرًا طبيعيًا، كحال كافة فئات المجتمع، التي ترغب في معرفة السياسات وطبيعة العلاقة التي تجمعها مع السلطة الحاكمة”.
ويضيف “سري الدين” أن تقديم الحكومة الحالية تسهيلات لرجال الأعمال لاستئناف المشاريع الاقتصادية، والإعلان الواضح عن سياسات الضرائب والطاقة وتوجهاتها الاقتصادية ساهم في تخفيف هذه الضبابية عن العلاقة بين الطرفين، والذي أدت بدورها إلى تشجيع رجال الأعمال للتبرع، والتواصل مع النظام بشكل أكثر فاعلية، كما أن دور الجيش في تولي عدد من المشاريع الاقتصادية مسألة مؤقتة، وليست دائمة.
كيف يدعم رجال الأعمال النظام في مصر؟
بلغ حجم إيرادات صندوق “تحيا مصر” من تبرعات رجال الأعمال أكثر من 5 مليارات جنيه، والذي صدر بشأنه قرارًا جمهوريًا، بحيث يكون صندوقًا ذا طبيعة خاصة، تكون له الشخصية الاعتبارية، ويتمتع بالاستقلال المالي والإداري.
كذلك شملت هذه التبرعات خلال افتتاح قناة السويس الجديدة، إذ تنوعت هذه التبرعات بين نشر إعلانات ترويجية للقناة في الصحف الدولية، كما جاء في الغلاف الرئيسي لجريدة الإيكونوميست والذي أوضح الجزء الخاص بالدعاية والإعلان في الموقع الإلكتروني للمجلة أن تكلفة نشر إعلان على الغلاف الأمامي أو الخلفي هو 200 ألف دولار تقريبًا وهو ما يعادل مليون ونصف جنيه مصري، والذي جاء برعاية شركة مقاولات وهندسة مصرية يترأس مجلس إدارتها، أيمن إسماعيل سليمان، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـ «ماونتن فيو»، ورئيس مجلس إدارة «إنديفور مصر».
كما شملت قائمة الرعاة الأساسيين للحفل ضمن الفئة البلاتينية، كُلًا من شركة “حديد عز” المملوكة لرجل الأعمال أحمد عز، “مجموعة طلعت مصطفى” والتي واجهت تهمة الاستيلاء على أراضي الدولة في مشروعها “مدينتي”، وانتهت بتسوية القضية بعد أن دفعت المجموعة تسعة ملايين جنيهًا، وشركة “سيراميكا كليوباترا” المملوكة للعضو السابق بالحزب الوطني المنحل محمد أبو العينين، ومجموعة “أوراسكوم” المملوكة لعائلة “ساويرس”، وشركة “القلعة القابضة”، وشركة “حديد المصريين” المملوكة لأحمد أبو هشيمة.
وفي مستهل زيارة “السيسي” لألمانيا في شهر مايو الماضي وسط انتقادات واسعة من كبرى الصحف الألمانية لهذه الزيارة، على خلفية ازدياد وضع حقوق الإنسان في مصر سوءًا، نشرت صحيفة “فرانكفورتر ألمانية” – صوت اليمين الوسط المحافظ في ألمانيا – إعلانات مدفوعة الأجر على مساحة صفحتين بداخل الصحيفة الألمانية تحمل الصفحة الأولى منها مقالًا تحت عنوان “خطاب مفتوح إلى البوندستاج الألماني” بقلم رجل الأعمال المصري محمد أبو العينين، وجاءت الصفحة الثانية أيضًا بداخل الصحيفة تحت عنوان “المصريون في طريق المستقبل” شملت الصفحة على ثلاث تقارير منفصلة الأول عن “رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي”، والثاني عن نتائج المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ والثالث والأخير عن “السياحة الثقافية في مصر”.
هل سيكون هذا الدور مقابل (امتيازات – إعفاءات – ثمن معنوي أو رمزي) لصالح رجال الأعمال؟
شملت قائمة الامتيازات مجموعة من القوانين التي رأى الخبراء أنها محاولة للتصالح مع رجال الأعمال، لتحسين مناخ الاستثمار، والتي تمثلت في تقديم كل الضمانات والتطمينات حتى يعود رأس المال عن طريق إضفاء تأمين على الصفقات وعلى أطرافها حتى لو كان على حساب دولة القانون.
ففي 19 مايو 2015، أعلنت رئاسة مجلس الوزراء عن تأجليها لتطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على توزيعات البورصة لمدة عامين بعد أن أعلنت وزارة المالية الشروع في تطبيقها وسط حالة غضب من النخبة المالية، والذي كان من المفترض توفير 5 مليارات جنيه للدولة حسب تصريحات وزير المالية.
كما شملت قائمة القوانين تعديل بعض أحكام القانون رقم 62 لسنة 1975 في شأن الكسب غير المشروع، والتي كان أهمها ما يتعلق بالتحفظ والتصالح مع رموز الأنظمة السابقة.
وقبل أيام من انعقاد «المؤتمر الاقتصادي» في شرم الشيخ، وافقت المجموعة الاقتصادية في مجلس الوزراء على تخفيض وتوحيد الحد الأقصى للضريبة على الدخل من 25 في المئة إلى 22.5 في المئة، وإلغاء الضريبة الاستثنائية الإضافية، في مسعى منها لتشجيع الاستثمار.
وفي 12 مارس، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارًا بقانون يتضمن تعديلًا تشريعيًا على 3 مواد في قانون اﻹجراءات الجنائية يمنع سقوط الدعوى الجنائية عن الموظف العام مختلس مال الدولة، وينظم تصالح الدولة مع المستثمرين في جرائم المال العام.
أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارًا بتعديل قانون شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم والشركات ذات المسؤولية المحدودة، الخميس، وقوانين الضريبة العامة على المبيعات وضمانات وحوافز الاستثمار والضريبة على الدخل، هي المسألة التي سهلت إجراءات تأسيس استثمارات جديدة في مصر.
كما كان هذا الدور له ثمن معنوي أو رمزي، فقد قامت الدولة بتغيير صورة رجال الأعمال من خلال مرافقة رجال الأعمال “للسيسي” في كافة زياراته الرسمية، (برلين – نيويورك – الكويت – الصين)، وحديثه الأخير وتنظيم أكثر من مأدبة عشاء لهم، والحديث بشكلٍ دائم عن “الدور الاجتماعي لرجال الأعمال في المجتمع”.
هل يضعف لجوء نظام الحكم لتبرعات رجال الأعمال من سيطرة النظام على المجتمع؟ أو هل يهدد ذلك سلطة الدولة؟
في كتابه “النظام القوي والدولة الضعيفة”، يشرح مؤلفه الراحل سامر سليمان هذه المسألة: “اضطرار السلطة السياسية إلى منح بعض الأفراد والهيئات الخاصة الحق في المُساهمة في أعمال المنفعة العامة أو مساعدة الجماعة في وقت الأزمات يحمل معه مخاطر تبلور مراكز مستقلة من النفوذ السياسي، لأن الإنفاق يؤدي بالضرورة إلى خلق أتباع مُخلصين، والسيطرة على هذه المسألة تصبح أكثر صعوبة كلما زاد هذا الدور الاجتماعي”.
في الفترة الأخيرة، تحققت ما سماه “سامر” من تشكيل “مراكز مُستقلة من النفوذ السياسي” تابعة لرجال الأعمال، إذ تشير التقارير الإخبارية لتشكيل تحالفات سياسية بواسطة مجموعات من رجال الأعمال للترشح في البرلمان، والدفع بوجوه تابعة لهم وعلى رأسهم “محمد محمد أبوالعينين”، “نجيب ساويرس”. وكذلك تكوين لوبي إعلامي من خلال إنشاء عدد من القنوات، فظهرت قناة “سي بي إس” لصاحبها محمد الأمين، وعاد منصور عامر إلى ضخ أمواله في عدد من القنوات التيفزيونية، وأسس “أبوالعينين” قناة “صدى البلد”.