عندما جنحت سفينة عملاقة بمجرى قناة السويس في مارس (آذار) الماضي، أصاب حركة النقل البحري شلل كبير انعكس بالسلب على معدل التجارة العالمي. فقناة السويس توفر طريقًا مثاليًّا يربط بين غرب الأرض وشرقها، وتعطلها يعني أن خسائر تقدر بملايين الدولارات سوف تقع على الشركات والكيانات التجارية التي تسلك هذا الطريق. صحيح أن قناة السويس تعد تحفة معمارية واقتصادية؛ إلا أنها ليست الوحيدة في العالم، بل هناك مثيلتها في الجزء الجنوبي من الكوكب، وتحديدًا في بنما، حيث قناة بنما التي تربط بين المحيط الهادي والأطلنطي، ووفرت على السفن القادمة أو الذاهبة من قارتي أمريكا الجنوبية والشمالية وإليهما قطع نحو 15 ألف كم.
أهل بنما مثلهم مثل أهل مصر؛ عانوا وناضلوا كي يمتلكوا زمام إدارة القناة من دولة أجنبية، فبينما كانت فرنسا تسيطر على قناة السويس لأكثر من 50 عامًا؛ استولت الولايات المتحدة الأمريكية على قناة بنما لفترة زمنية مشابهة، ونستخدم اللفظ «استولت» هنا لأن أمريكا ليست من بدأ حفر القناة؛ بل فرنسا، ثم سلكت أمريكا عدة طرق ملتوية حتى وضعت يدها على القناة، ومن ثم بدأ قرن كامل من التدخل الأمريكي في الدولة اللاتينية.
ما نجح في مصر لا ينجح بالضرورة في بنما
تتحدث أغلب دول أمريكا اللاتينية – ومن بينها بنما – اللغة الإسبانية، وذلك بسبب الاستعمار الإسباني الذي وجه دفته نحو القارة الجنوبية؛ والتي بالأساس اكتشفها مستكشفون إسبان كانو يجوبون المحيطات بحثًا عن أرضٍ جديدةٍ.
ففي القرن السادس عشر، وتحديدًا في عام 1513، اكتشف المستكشف الإسباني فاسكو بالبوا (Vasco Balboa) أثناء رحلة استكشافية له على السواحل البنمية؛ أن بنما عبارة عن برزخ أو حاجز مادي يفصل بين مسطحين مائيين (المحيط الهادي والمحيط الأطلنطي)، وأنها يمكن أن تصبح مركزًا للسفن التجارية الإسبانية لنقل البضائع بين المحيطين بسهولة وفي وقتٍ أقل.
لكن فكرة بالبوا كانت نظرية لم ينفذ منها أي شيء على أرض الواقع، حتى إنه مات بعد اكتشافه بست سنوات فقط، وعلى الرغم من ذلك ظلت الفكرة حلم أجيال متعاقبة، حتى نجح المعماري الفرنسي الشهير فرديناند ديليسبس في إنجاز قناة السويس في نهاية العقد السابع في القرن التاسع عشر.
في عام 1881، فوضت الحكومة الفرنسية المعماري الفرنسي الأشهر في ذلك الوقت فرديناند ديليسبس بإدارة مشروع حفر قناة بنما، وكانت الحكومة الفرنسية وقتها تعتقد أن ديليسبس يمكنه أن يكرر النجاح الذي حققه قبل 12 عامًا عندما افتتح قناة السويس في مصر.
ديليسبس
لكن الظروف كانت مختلفة في بنما عن مصر، أولًا الاختلاف المُناخي. فطقس مصر الحار صيفًا والمعتدل ممطر شتاءً؛ كان يقابله طقس حار ممطر في كل شهور السنة باستثناء شهرين فقط؛ وهي المدة التي كان يزور فيها ديليسبس المشروع، بينما يقيم بقية العام في منزله بالعاصمة الفرنسية باريس.
أما العامل الثاني الذي يفرق بين مشروع مصر وبنما؛ كان الطبيعة الجغرافية، فقناة السويس حُفرت في أرض صحراوية مسطحة في مستوى سطح البحر نفسه، أما الأرض البنمية فهي عالية جدًا عن سطح البحر؛ تقريبًا ترتفع عن سطح البحر بحوالي 85 قدمًا؛ لذلك كان حفر قناة بنما يتطلب وقتًا أطول بكثير من حفر قناة السويس؛ وذلك على الرغم من أن قناة بنما تساوي فقط 40% من طول قناة السويس.
بعد ثلاث أو أربع سنوات، خاطب أحد كبار المهندسين في المشروع، ديليسبس، واقترح عليه تغيير طريقة العمل في القناة؛ فبدلًا من محاولة هدم الجبال البنمية ومساواتها بسطح البحر؛ الأفضل أن تزيد من مستوى سطح البحر حتى يصل إلى مستوى الجبال.
فيديو توضيحي للطريقة العبقرية التي تعمل بها قناة بنما:
على الرغم من أن غرابة الفكرة؛ فإنها كانت في منتهى العبقرية، وجرى تنفيذها لاحقًا بشكلٍ خلَّاق جدًا. لكن ديليسبس لم يقتنع بها آنذاك وأمر بمباشرة حفر وهدم الجبال طبقًا لخطته الأصلية؛ حتى أمرت الحكومة الفرنسية بوقف المشروع عام 1889، بعد أن أعلنت شركة ديلسبس إفلاسها بسبب فشل المشروع.
بعد ثماني سنوات من العمل – الذي لم يكن ديليسبس يتابعه سوى مرتين في العام – مات خلالها حوالي 20 ألف عامل في حفر القناة بسبب الحوادث والإرهاق الشديد والأمراض التي كانت تنقلها الحشرات في الغابات البنمية؛ فضلًا عن هجوم الزواحف السامة والحيوانات البرية على هؤلاء الأبرياء، وجدت الحكومة الفرنسية أن ديليسبس أضاع ميزانية المشروع التي كلفت الحكومة الفرنسية مع مجموعة من المستثمرين حوالي 260 مليون دولار.
حُكم على ديليسبس بعد وقف المشروع – ومعه ابنه وشريكه في إدارة المشروع – بتهمة إهدار المال العام؛ وقررت المحكمة حبسه هو وابنه خمس سنوات؛ لكن ألغي الحكم عليه في وقتٍ لاحقٍ وخُفف الحكم عن ابنه بالسجن لمدة عام.
أمريكا تريد السيطرة لكن تحتاج إلى عرَّاب فرنسي
في بداية القرن العشرين كانت الإمبريالية الأمريكية في مرحلة الحبو، وتعني أن تقوم إحدى الدول بالتدخل في الشئون الداخلية – تحديدًا العسكرية والسياسية – لخدمة مصلحتها العليا فقط.
وفي ذلك التوقيت كانت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس تيدي روزفلت، تنفذ خطة تنمية نفوذها في القارة اللاتينية، وبرزت الحاجة لوجود رابط بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ، لإعطاء مساحة كافية للبحرية الأمريكية كي تؤثر عسكريًّا على أكبر عدد ممكن من الدول في الأمريكتين.
وكانت الأنظار الأمريكية في البداية غير موجهة ناحية بنما؛ بل إلى دولة لاتينية أخرى، هي نيكاراجوا، لأنه على الرغم من أنها لم توفر أقصر طريق ممكن؛ بل كانت الطبيعية الجيولوجية غير معقدة لوجود عوامل مساعدة مثل بحيرة تشغل مساحة كبيرة سوف توفر مساحة ووقت أثناء الحفر.
وصلت هذه الأخبار إلى فرنسا، وتحديدًا إلى مهندس ومستثمر سابق في مشروع قناة بنما الذي أفشله ديليسبس، وكان يدعى فيليبي فاريلا؛ الذي كان لا يزال مهووسًا بمشروع قناة بنما؛ وحينها قرر أن يحاول إقناع الحكومة الأمريكية بالعدول عن اختيار نيكاراجوا وتوجيه دفتها ناحية بنما.
ذهب فاريلا إلى عددٍ كبيرٍ من أعضاء الكونجرس الأمريكي، وتحدث معهم عن مميزات قناة بنما، وعن مساوئ نيكاراجوا، وادعى وجود براكين ناشطة سوف تنفجر بشكل مستمر وتدمر القناة الأمريكية، ومن الأمور التي تبدو ساخرة بعض الشيء، أن فيليبي فاريلا أقنع أعضاء الكونجرس بخطر البراكين من خلال بعض الطوابع البريدية التي صنعها بنفسه، وكانت الطوابع البريدية تحمل اسم نيكاراجوا ورسم عليها رسومات لبراكين نشطة، ويكفي أن تعلم أن هذه الخدعة نجحت وأقنعت أعضاء الكونجرس بأمر غير موجود على أرض الواقع!
وعلى الرغم من أن الحكومة الأمريكية وافقت في النهاية؛ فإن هناك عقبة كانت تعيق بدء الولايات المتحدة الفوري في المشروع؛ وهي أن بنما في ذلك الوقت لم تكن دولة مستقلة؛ بل كانت جزءًا من دولة كولومبيا، وبسبب العلاقات المتردية آنذاك بين الولايات المتحدة وكولومبيا؛ رفضت الأخيرة اقتراح فيلبي بمنح إدارة مشروع بنما للولايات المتحدة.
والحل يكمن في إشعال ثورة الاستقلال البنمية
بعد رفض الحكومة الكولومبية، أظهرت أمريكا بعض اليأس تجاه تحقيق فكرة بناء قناة بنما؛ إلا أن فيليبي فاريلا لم يكن قد أظهر كل ما في جعبته بعد. فاقترح على الحكومة الأمريكية فكرة فصل بنما عن كولومبيا؛ وفي الواقع لم تكن هناك حركة شعبية ضخمة تطالب بالاستقلال البنمي عن كولومبيا في ذلك الوقت؛ لكن فاريلا قرر أن يشعلها.
قام فيليبي فاريلا بجولة في بنما واجتمع مع العديد من الأطراف والكيانات السياسية النشطة في بنما لكي يقنعهم بتنظيم حركة للمطالبة بالاستقلال وإقامة دولة بنمية ذات سيادة، وأقنعهم فاريلا أنهم إذا نصبوه ممثلًا لهم؛ سوف يمكنهم من الحصول على الاعتراف الدولي والأمريكي لحركة الاستقلال.
قناة بنما
وقد كان، بعد أن وافقت الأحزاب السياسية على اقتراح فاريلا بتمثيلها، عاد الرجل إلى الحكومة الأمريكية؛ طالبًا منها تحريك أسطول بحري بالقرب من السواحل البنمية؛ لمنع أي محاولة للجيش الكولومبي للوصول إلى بنما كي يقضي على الحركة السياسية أو التظاهرات التي تطالب الاستقلال حال اشتعالها.
وبالفعل استجابت الحركات السياسية البنمية لطلب فاريلا بإشعال المظاهرات والإضرابات في بنما، في الوقت نفسه الذي تحركت البحرية الأمريكية على السواحل البنمية. في البداية رفضت حكومة كولومبيا الأمر، وحاولت بالفعل التدخل عسكريًّا، لكنها تراجعت خشية الاشتباك مع البحرية الأمريكية التي كانت تفوقها في القدرة العسكرية وقتها.
بعد إعلان الاستقلال، وقعت الحكومة الأمريكية اتفاقية متابعة العمل في قناة بنما مع الفرنسي فيليبي فاريلا عام 1903، ولم يوقع أي شخص بنمي على الوثيقة، ولم يحضر أي مواطن بنمي مرحلة التفاوض على المشروع. وأدار المشروع فاريلا حتى إنها في عام 1914، وكان المشروع تحت إدارة الولايات المتحدة الأمريكية ومستثمريها الذين احتلوا بنما لأكثر من 50 عامًا.
لكن عندما وصل الزعيم البنمي الشهير عمر توريخوس إلى الحكم؛ بدأت الأمور تتغير تدريجيًّا في علاقة الولايات المتحدة مع بنما بالقناة التي تجري على الأراضي البنمية وتُدِر الدخل لمصلحة الحكومة الأمريكية فقط. وبعد فترة طويلة من المناقشات والمفاوضات؛ نجح توريس في عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة في أغسطس (آب) عام 1977، تفيد بنقل إدارة القناة تدريجيًّا من الولايات المتحدة إلى الحكومة البنمية حتى تتحول بنسبة 100% تحت الإدارة البنمية عام 2000، لكن ذلك حدث بعد أن حصدت الحكومة الأمريكية قرابة نصف قرن، مليارات الدولارات من القناة البنمية، وعانت بنما لقرنٍ كاملٍ من التدخلات الأمريكية في أراضيها.