ما إن بدأت أمواج بحر العلاقات الجزائرية السعودية في الهدوء، والاتسام بشيءٍ من الانفراج بعد العواصف التي تخبطت بها سفينة العلاقات نتيجة اختلاف الرؤى والمواقف السياسية بين البلدين، خصوصًا في ملفي التدخُّل السعودي في اليمن والأزمة السورية، حتى عادت للتوتُّر من جديد بعد رفض الجزائر الاصطفاف في فريق محور مقاطعة قطر، الرفض جاء ببيانٍ جزائري دعا دول الخليج لتغليب الحوار ومبدأ حسن الجوار، موقفٌ أثنى عليه الجانب القطري ومعه الكثير من الدول المراقبة للأزمة، فيما لم يرُق لبعض القوى المشاركة في الحصار. نستعرض في هذا التقرير تأثير الأزمة الخليجية في الجزائر على ضوء مبدئها بالوقوف على مسافةٍ واحدة من أطراف الأزمة، فيما يمكن توصيفه بـ «الحياد الإيجابي».
العلاقات الجزائرية- السعودية تجاذبٌ وتنافر
لطالما عرفت العلاقات الجزائرية- السعودية فتورًا وبرودة وصلت درجة التوتر والتناقض في فترات عديدة، نتيجة الاختلاف في ملفاتٍ عديدة كالملف السوري، والملفّ اليمني، ومسألة التحالف الإسلامي ضد الإرهاب، إضافة إلى ملف تهاوي أسعار النفط في السوق الدولية، وإن عرفت مؤخرًا نوعًا من الانفراج شكّلته الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، وزيادة في حجم الاستثمار السعودي بالجزائر ، لكن تبقى بعض الملفات التي وصل حلّها إلى طريقٍ مسدود، خصوصًا رفض الجزائر الانخراط في التحالف العسكري العربي الذي قادته السعودية فيما سمي بـ«عاصفة الحزم» ضدّ الحوثيين في اليمن، إضافة إلى وقوف الجزائر ضد موقف السعودية الداعي إلى إسقاط الأسد، واتهام الجزائر لمشايخ سعوديين بتأجيج نار الفتنة في الجزائر أثناء العشرية السوداء، هذه الملفات ساهمت في تأزيم الشقاق بين الرياض، والجزائر.
اقرأ أيضًا: زيارة الوزير الأول الجزائري إلى السعودية.. تعاون اقتصادي في ظل خلاف سياسي
تصريحات حاكم الشارقة وخطة الإمارات لإسقاط إسلاميي تونس تزعج الجزائر
ديغول يمنح الجزائر الاستقلال لكسب ود عبد الناصر
وفق هذه التصريحات، التي نشرها الموقع الرسمي للشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة، وتناقلتها وسائل إعلام، وقال القاسمي إن الرئيس الأسبق لفرنسا شارل ديغول قرّر منح الاستقلال للجزائر عام 1962 من أجل إرضاء الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، تصريحات صادمة أزعجت الجزائريين، ونتج منها موجة غضب كبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام بكامل أصنافها، فالجزائر قدّمت أكثر من مليون شهيد إلى جانب مئات الآلاف من المهجّرين والمفقودين لنيل استقلالها من فرنسا التي احتلّت أرضها لأكثر من 132 سنة ،قبل أن يسارع حاكم الشارقة في الاعتذار للجزائر بعد أن كادت خطيئته تعصف بالعلاقات بين البلدين.
وفي عزّ الأزمة الخليجية، نشر موقع الصدى التونسي وثيقة قال إنها مسربة من دوائر القرار بالإمارات، تظهر ما سماه «طبيعة دور الأخيرة في تونس، ومحاولتها إفشال تجربة الانتقال الديمقراطي الذي ما زال يتحسس طريقه فيها، وذلك بضرب التوافق بين حليفي الحكم؛ حركة النهضة الإسلامية وحزب نداء تونس العلماني». وتعطي الجزائر أهمية كبيرة للاستقرار على حدودها خصوصًا في تونس وليبيا، واعتبرت هذه الوثيقة بمثابة تهديد للأمن القومي الجزائري.
الشيخ محمد بن زايد
الأزمة المالية توثِّق علاقات قطر بالجزائر
موقف الجزائر الأخير من الأزمة الخليجية، إضافة إلى كونه نابعًا من سياسة الحياد التي لطالما حاولت الدبلوماسية الجزائرية انتهاجها في معالجة الأزمات الدولية في الآونة الأخيرة، ومحاولتها البقاء على مسافة واحدة بين أطراف الأزمة، فإنه تتويج أيضًا للعلاقات المميزة بينها وبين الدوحة التي عرفت تطوُّرًا إيجابيًّا في السنوات الأخيرة، بعد ارتفاع حجم الاستثمارات القطرية في الجزائر، إذ شهدت خريطة الاستثمار الأجنبي المباشر في الجزائر تغيُّرًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، فبعد السيطرة الفرنسية على هذا المجال منذ الاستقلال، أتت الاستثمارات القطرية لتتربع على قمة الاستثمارات المباشرة هناك، إذ شملت الاستثمارات عدة قطاعات مهمة وحساسة، أهمها قطاع الحديد والصلب، وبلغ حجمها في الجزائر نحو 5 مليارات دولار في السنوات الأخيرة، وقد حملت الزيارة التي قام بها الأمير السابق لدولة قطر حمد بن خليفة آل ثاني إلى الجزائر مطلع عام 2013 توقيع 7 اتفاقيات استثمارية بين البلدين، وصلت قيمتها إلى 5 مليارات دولار في عدة مجالات.
وكانت الحكومة الجزائرية قد أقرَّت بوجود أزمة اقتصادية ومالية خانقة، بسبب انحدار أسعار النفط وتراجع عوائدها المالية التي تعتمد بشكلٍ تام على صادرات النفط والغاز، عكستها إجراءات التقشف، وإلغاء عدد من المشاريع، وزيادة أسعار بعض المواد الاستهلاكية، وتعتبر الاستثمارات القطرية في الجزائر تنفيسًا لحالة الاختناق المالي الذي يهدد بانفجار الجبهة الاجتماعية الجزائرية، خصوصًا بعد أن أعلنت حكومة تبون الجديدة فتح المشاريع مباشرة بعد الأزمة الخليجية.
اقرأ أيضًا : 5 مهمات شاقة في انتظار حكومة «تبون» الجزائرية.. تعرف إليها
قطر: موقف الجزائر من أزمة الخليج مشرف
ما إن أعلنت دول الحصار عن قطع علاقاتها بقطر، فتسارعت بعض الدول العربية التابعة إلى هذا المعسكر أو ذاك للتعبير عن تضامنها مع أطراف الأزمة، لم تتخذ الجزائر موقفًا لصالح أيّ طرف في الأزمة الخليجية الجديدة، وأصدرت خارجيتها بيانًا بعد إعلان السعودية ومصر والإمارات والبحرين قطع العلاقات مع قطر، دعت من خلاله إلى«ضرورة التزام مبدأ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادتها الوطنية في جميع الظروف»، مؤكدة أنها «واثقة بأن الصعوبات الحالية ظرفية، وأن الحكمة والتحفظ سيسودان في النهاية»، بيان جعل وزير الدولة للشؤون الخارجية بدولة قطر، سلطان بن سعد سلطان المريخي، يعتبر أنّ موقف الجزائر من الأزمة الخليجية «مشرف»، ويمكنها أن تؤدي دور وسيط في الملف.
جاء ذلك في تصريحات للمريخ، عقب محادثات أجراها مع وزير الخارجية الجزائري عبد القادر مساهل، بالعاصمة الجزائرية خلال زيارة مفاجئة للبلاد، وكانت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية قد نقلت عن المسؤول القطري تأكيده أن الهدف من زيارته يتمثل في «بحث العلاقات الثنائية بين البلدين، والمستجدات حول ما يجري في الخليج بيننا وبين السعودية والإمارات والبحرين». وأضاف الوزير القطري: «موقف الجزائر مشرف، لأنها أول بلد يصدر بيانًا يدعو فيه إلى الحوار، وهو ما نسعى إليه مع العديد من الدول الشريفة في المنطقة»، متابعًا: الجزائر باعتبارها بلدًا كبيرًا في العالم العربي يمكنها أن تلعب دورًا في العلاقات العربية- العربية، وهذا بالنظر إلى تأثيرها في المنطقة، في إشارةٍ منه إلى إمكانية أن يكون لها دور الوسيط في هذه الأزمة.
اقرأ أيضًا : الجزائر والدوحة.. تقارب ظرفي أم تعاون دائم؟
المغرب يسير مع الجزائر.. والسعودية تعاقبه
على عكس ما كان منتظرًا، اختار المغرب ما اختارته الجزائر في التعامل مع الأزمة الخليجية، وذلك بإعلانه الحياد على الرغم من علاقاته المتينة مع دول الحصار، كما دعا المغرب أطراف الأزمة إلى ضبط النفس، والتحلي بالحكمة من أجل التخفيف من التوتر، وتجاوز هذه الأزمة، وتسوية الأسباب التي أدت إليها بشكل نهائي، مبديًا استعداد المملكة للوساطة من أجل حل الأزمة، وتوج موقفه بإرسال طائرة مساعدات للدولة المحاصرة، موقف لم تستصغه السعودية إذ اعتبرته موقفًا سلبيًّا من الرباط، فسارع الإعلام السعودي إلى الهجوم على المغرب، ووصف ضمها للصحراء الغربية بالاحتلال، على غرار التقرير الذي أعدته قناة العربية السعودية والتي وصفت فيه الصحراء، بالصحراء الغربية، تحولٌ خطير في الموقف السعوديّ من الصحراء الغربية، وإن عوّدتنا الدبلوماسية السعودية بالتقلبات، فإثارة ملفّ الصحراء من جديد سيجعل موقف الجزائر أقوى، ويجعل المغرب تحت ضغطٍ كبير.
وفي المقابل أسفرت زيارة الوزير الأول الجزائري عبد المالك سلال إلى الرياض العام الماضي عن زيادة في التعاون الاقتصادي وحجم الاستثمار السعودي في الجزائر ليبلغ أكثر من ملياري دولار، بعد أن كان لا يتجاوز 100 مليون دولار، وبعد الأزمة هذه توقّع السفير السعودي بالجزائر مضاعفة حجم الاستثمارات الاقتصادية السعودية في الجزائر، في إشارة إلى إمكانية أن تكون الجزائر بديلًا للسعودية بنفوذها داخل غرب إفريقيا.
هل تكون الجزائر الوسيط القادم في حال فشل وساطة أمير الكويت؟
ما إن أعلنت الدول الأربعة قطيعتها لقطر، حتى هبطت طائرات كلّ من وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري سلطان بن سعد سلطان المريخي، والمسؤول في شؤون الرئاسة الإماراتية فارس المزروعي بالجزائر في زيارة عمل، جدول أعمالها مناقشة الأزمة الخليجية، إذ اتفق المسؤولان الخليجيان على أن للجزائر دورًا كبيرًا في حلحلة الأزمة لما لها من تاريخ في حلّ الصراعات الدولية.
من الجيران ليبيا وتونس ومالي إلى إريتريا وإثيوبيا، إلى إيران وأمريكا، إلى العراق وإيران، وغيرها من الأزمات التي تفننت الدبلوماسية الجزائرية في حلها، تبقى الأزمة الخليجية تنتظر المبادرة الجزائرية، خصوصًا أنّ فشل الوساطة الكويتية يعني أن الأزمة ستطول ما لم تتدخل الجزائر التي تمتلك الأفضلية عن الوسطاء المفترضين بأنها تقف على مسافة واحدة من الجميع.