لم يكدُ العالم يفيق من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي خلّفتها جائحة كورونا، حتى ابُتلي بأزمة لا تقل حدة وهي الحرب الأوكرانية التي أنتجت آثارًا اقتصادية مدمرة طالت كافة دول العالم، من نقصٍ في موارد الطاقة، والغذاء، وحرب عملات، وتصاعد رهيب لمعدلات التضخم، واستثمارات غير مستقرة، إلى تذبذب البورصات في كل مكان.

وعلى الرغم من أن هذه التأثيرات طالت العالم أجمع، فإن دول الجنوب كانت صاحبة النصيب الأكبر من هذه الابتلاءات، بالنظر أنها لم تتعافَ كليًا من آثار جائحة كورونا، ومنها من لم يبدأ مسار التعافي أصلًا، وينطبق ذلك على دول الشرق الأوسط، بالإضافة إلى دول أمريكا اللاتينية، التي يبدو أنها تسير نحو أوضاع اقتصادية واجتماعية لا تُبشِّر بالخير.

فرص مهدرة.. النفط بحاجة للاستثمارات والقمح بحاجة لأسمدة

مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، لم يكن الأوكرانيون وحدهم من عانوا؛ إذ ارتفعت أسعار القمح والنفط والسلع الأخرى التي ينتجها كل من روسيا وأوكرانيا بكميات كبيرة؛ مما ألحق أضرارًا بالغة بالدول التي تعاني من ضائقة مالية، وتعتمد على الواردات.

النفط

لكن بعض قادة العالم رأوا في تلك الأزمة فرصًا وجوانب مشرقة؛ إذ صرّح الرئيس البرازيلي، جايير بولسونارو، في مارس (آذار) 2022 بأن «هذه الأزمة فرصة جيدة لنا»، وبالمثل قال رئيس الأرجنتين، ألبرتو فرنانديز، في مايو (أيار) 2022: إن بلاده «خزّان لما يحتاجه العالم الآن: الغذاء والطاقة».

فقد أدرك قادة أمريكا اللاتينية أن الحرب تمثل فرص حقيقية لاقتصاداتهم، حين ارتفعت أسعار القمح والنفط بأكثر من 20% منذ بدء الحرب، وهذه أخبار جيدة للأرجنتين، ثالث أكبر مُصدِّر للقمح في الأمريكتين بعد الولايات المتحدة وكندا، كما أن ارتفاع أسعار النفط والغاز يوفر دفعة قوية لمُصدِّري الهيدروكربونات، مثل البرازيل وكولومبيا.

وفي هذا الإطار قال، إيلان جولدفين، مدير صندوق النقد الدولي المسئول عن نصف الكرة الغربي، في مقابلة مع «الفاينانشيال تايمز» في أبريل (نيسان) 2022، إن حرب أوكرانيا تتيح لأمريكا اللاتينية فرصة لتعزيز الصادرات، وأن تلك المنطقة يمكن أن تساعد في تخفيف بعض النقص في الغذاء، والمعادن، والطاقة، الناتج عن الحرب الروسية في أوكرانيا، لكن المنطقة لن تستفيد بالكامل إلا إذا تبنت الإصلاحات وعززت الاندماج الاجتماعي.

وأكّد جولدفين أنه إذا كان لأمريكا اللاتينية أن تستفيد استفادة كاملة من فرصة توفير حصة أكبر من السلع الأساسية للعالم، فإن حكوماتها بحاجة إلى تبني إصلاحات طال انتظارها لتعزيز الإنتاجية وزيادة المنافسة وتحسين التعليم وإنشاء نظام ضريبي أكثر عدلًا، والتعامل بشكل عميق مع أزمة عدم المساواة المتفشية داخل القارة.

ولتوضيح مغزي تصريحات جولدفين، يمكننا النظر إلى دول مثل فنزويلا، صاحبة الاحتياطات الضخمة من النفط، والذي غالبًا ما يكون ارتفاع أسعاره فرصة ضخمة لاقتصادها، لكن بالنظر حاليًا إلى مستوى تدهور بنيتها التحتية للطاقة، يبدو أن أمامها سنوات حتى تعود إلى مستويات التصدير التي يمكن من خلالها تعويض النقص الذي تعاني منه الأسواق العالمية حاليًا، وهي نفس المستويات التي كانت عليها في أوائل العقد الأول من القرن الحالي.

وعلى مستوى الزراعة تستطيع بعض دول القارة أن تُعوِّض جزئيًا النقص العالمي في القمح، ولكن هناك عدة تحديات تحول دون ذلك، فالبرازيل إحدى هذ القوى الزراعية، والتي تُخطط لزيادة إنتاجها القمح بنسبة تصل إلى 11% في عام 2022، لا تزال تقوم بعمليات استيراد للقمح لتلبية الطلب المحلي، كذلك لا ننسى أن الحرب تسبّبت في ارتفاع أسعار الأسمدة إلى معدلات باهظة، ربما يؤثر على حصيلة أمريكا اللاتينية الزراعية، بالنظر إلى أن معظم دول القارة تستورد كميات كبيرة من الأسمدة، وتحديدًا من روسيا.

أمريكا اللاتينية.. اقتصادات تسير إلى المجهول

أشارت العديد من التقارير الاقتصادية خلال أواخر العام الماضي 2021 إلى أن اقتصادات دول أمريكا اللاتينية تتجه إلى نفق مظلم، وأن كافة المؤشرات لا توحي بأي تقدم قد يحدث في عام 2022، ثم جاء عام 2022 حاملًا معه حربا جديدة، لتزيد من الطين بلة، إذ باتت اقتصادات المنطقة تواجه سيناريوهات صعبة في سياق خارجي من عدم اليقين، بجانب التضخم في أسعار الغذاء والطاقة، وتباطؤ النشاط الاقتصادي والتجارة.

Embed from Getty Images
النفط

فوفقًا لتقرير اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، التابعة للأمم المتحدة، والصادر في يونيو (تموز) 2022، بعنوان «تداعيات الحرب الأوكرانية على أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي: كيف يجب أن تواجه المنطقة هذه الأزمة الجديدة؟» فإن القارة تواجه تباطؤًا اقتصاديًا حادًا وتضخمًا متزايدًا؛ مما سيزيد من مستويات الفقر، والفقر المدقع، ونتيجة لذلك من المتوقع أن ينضم 7.8 مليون شخص إلى 86.4 مليون شخص آخر يتعرض أمنهم الغذائي للخطر بالفعل.

وتشير التقرير إلى أن ما تتعرّض له اقتصادات أمريكا اللاتينية حاليًا ليس نتاج الحرب الأوكرانية فقط، ولكنه مخلوق وُلد من رحم أزمات متراكمة على مدار أكثر من عقد وصنف؛ بدايةً من الأزمة المالية العالمية، مرورًا بتصاعد التوترات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، ثم ظهور جائحة كورونا، وأخيرًا الحرب في أوكرانيا، فبعد التوسع الاقتصادي الذي شهدته القارة في عام 2021 (إذ وصلت معدلات النمو إلى 6.3% في الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي)، أصبح من المتوقع أن تهبط تلك النسبة إلى 1.8% في عام 2022.

بينما بدأت اقتصادات أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي تشهد زيادة في معدلات التضخم منذ أواخر عام 2021 بلغ 6.6%؛ ليرتفع إلى 8.1% بحلول أبريل (نيسان) 2022، وتتوقع العديد من البنوك المركزية أن التضخم سيظل مرتفعًا لبقية العام 2022.

ومع الأخذ في الاعتبار آثار النمو البطيء والتضخم المتسارع، فمن المتوقع أن ترتفع معدلات الفقر والفقر المدقع فوق المستويات المقدرة لعام 2021. ومن المتوقع أن يصل معدل انتشار الفقر إلى 33.7% من سكان القارة.

بينما يُلاحظ ارتفاع معدل الفقر المدقع إلى 14.9%. وهو نتيجة منطقية للارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية، ويؤكد التقرير أن هذه المستويات أعلى بشكل ملحوظ من تلك التي شُوهدت قبل الوباء، وتنطوي على انتكاسة أخرى في مكافحة الفقر في القارة.

نهاية الحياد السياسي.. السقوط في حجر معسكر واحد

في تقريره المنشور على موقع مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، يقول، أوليفر ستينكيل، أستاذ العلاقات الدولية في ساو باولو، إن معظم دول أمريكا اللاتينية حاولت ممارسة الحياد السياسي وعدم الانحياز خلال العقد الماضي، خلال التوترات التي شهدتها علاقات واشنطن بمعسكر بكين وموسكو.

هذه الإستراتيجية اللاتينية كان محورها الأساس هو الاقتصاد، فدول المنطقة كانت حريصة على حماية علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة والغرب، وفي نفس الوقت مع الصين وروسيا، ولكن مع اشتداد التوتر بين المعسكر الغربي وروسيا، باتت دول أمريكا اللاتينية في معضلة حقيقية.

ففي الماضي كان يمكن الزعم أن هناك اعتبارات أيديولوجية تحكم علاقة الحكومات اللاتينية بالمعسكر الشرقي أو الغربي، ولكن بعد نهاية الحرب الباردة، تراجعت هذه الاعتبارات لصالح الاقتصاد والمصالح الجيوسياسية، إذ إن قادة القارة اتجهوا إلى صياغة علاقات إستراتيجية مع «الصين الصاعدة» وروسيا «الأكثر نشاطًا من الناحية الجيوسياسية»، كوسيلة لزيادة الاستقلال الذاتي وتعزيز قوتهم التفاوضية مع الولايات المتحدة.

هذا المنطق هو ما قاد سلوكيات قادة أمريكا اللاتينية تجاه الحرب في أوكرانيا، فعلى الرغم أن معظم حكومات أمريكا اللاتينية صوّتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو القرار الأقل أهمية مقارنةً بنظيره في مجلس الأمن، فقد امتنعت كل من المكسيك والبرازيل عن التصويت لصالح قرار آخر بتعليق عضوية موسكو في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

ويشير ستينكيل في تقريره على كارنيجي إلى أن الرأي العام اللاتيني يعتقد أن حلف الناتو هو المسئول عن الحرب في أوكرانيا، وليس روسيا وحدها، وهو اعتقاد تغذيه وسائل الإعلام الفنزويلية الحكومية الموالية لروسيا، ناهيك عن بعض الآراء التي ترى أن عقوبات الغرب على روسيا، وليس الغزو نفسه، هو المسئول عن أزمات الاقتصاد العالمي حاليًا.

دولي

منذ سنة واحدة
دام قرنين من الزمان! هل تتزحزح السويد عن «حيادها التاريخي» بسبب حرب أوكرانيا؟

ومن المثير أن الحرب الأوكرانية جعلت رئيسي البرازيل والمكسيك يتفقان على سياسة واحدة تجاه هذا الملف، وهما رجلان عكس بعضهما تمامًا؛ فالرئيس البرازيلي، جايير بولسونارو، رجل يميني مثير للجدل ينتقد «الاشتراكية»، وكان حليفًا وثيقًا للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أما الرئيس المكسيكي، أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، فهو يميل إلى اليسار دوليًا، وصديق للرئيس الكوبي ميجيل دياز كانيل، والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.

وقد اتفق الرجلان على تجنب إدانة غزو بوتين لأوكرانيا، أو اتخاذ أي إجراءات عقابية تجاه موسكو، انطلاقًا من الاعتبارات السابق ذكرها، وتشير التحليلات إلى أن رئيس البرازيل يتعاون مع بوتين على أمل تأمين صفقات الأسمدة التي من شأنها تعزيز دعمه الانتخابي في قطاع الأعمال الزراعية، وكذلك رفع رئيس المكسيك من لهجات التصعيد والانتقاد تجاه الولايات المتحدة، خاصةً بعد رفض واشنطن دعوة كل من كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا لحضور قمة الأمريكتين التي عُقدت في يونيو (حزيران) 2022.

كل ذلك يأتي في إطار تخبط أمريكي على مستوى سياستها الخارجية، وعدم قدرتها على تفعيل أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية في أمريكا اللاتينية حاليًا؛ مما ينذر أن العلاقات الغربية-اللاتينية قد تكون في طريقها إلى مرحلة جديدة.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد