«إن مفاوضي المجموعة أصروا على إدراج عبارة الإمارة الإسلامية» هكذا تفاخر هبة الله أخونزادة، أحد كبار قادة «طالبان»، بأن حركته نجحت في إجبار الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام اسم الإمارة؛ لتعزيز وجهة نظرهم بأن نظامهم القديم هو الحكومة الشرعية لأفغانستان، في المفاوضات الدائرة الآن بين الطرفين في الدوحة.
إذ تتواصل المفاوضات بين الجانبين منذ 10 أشهر، بهدف إنهاء حقبة التدخل الأمريكي في أفغانستان، التي بدأت في أواخر عام 2001، حين قادت الولايات الأمريكية تحالفًا للقضاء على حركة «طالبان» لإيوائها قادة من «تنظيم القاعدة»، اتهموا بالتخطيط لهجمات سبتمبر (أيلول) 2001.
اليوم وبعد مرور أكثر من 18 عامًا على الحرب بين الجانبين، يقول المشاركون في المفاوضات إنهم على وشك التوصل إلى اتفاق مع «طالبان»، من شأنه أن يمهد الطريق لسحب نحو 14 ألف جندي أمريكي من أفغانستان، مقابل ضمانات بعدم استخدام الدولة ملاذًا للإرهاب الدولي؛ لذا قد تشهد الأيام القريبة المقبلة حفل توقيع اتفاق مع «طالبان» في الدوحة، أمام جمهور من ممثلي القوى العالمية الرئيسية، كما قال مسئول أمريكي.
«الإرهابيون» يتفاوضون مع واشنطن!
على وقع العمليات التي تنال من الجيش الأمريكي في أفغانستان، على أيدي عناصر حركة «طالبان»؛ انكبت واشنطن منذ نحو 10 شهور على خوص مفاوضات مع الحركة تهدف للتوصل إلى اتفاق قبل الانتخابات الأفغانية المقررة في 28 سبتمبر الجاري.
مقاتلون من «طالبان»
تدور المفاوضات حول تحقيق انسحاب تدريجي لبعض القوات الأمريكية على مدار 15 إلى 18 شهرًا، أي بالتناسب مع موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2020. وكذلك وقف إطلاق النار، مع ضمانات من حركة «طالبان»، التي تسيطر الآن على نحو 50% من مساحة البلاد، وتمكنت مؤخرًا بتعيين خمسة أعضاء إضافيين في المكتب السياسي، كانوا من معتقلي «جوانتنامو»، من منع «تنظيم القاعدة»، أو «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» من أخذ موطئ قدم في الأراضي الخاضعة لسيطرتها؛ أي منع تحول أفغانستان لنقطة انطلاق لهجمات إرهابية عالمية في المستقبل.
بيد أن الاتفاق الذي تتحدث عدة أطراف عن قرب توقيعه، تُعنى به أطراف أخرى غير «طالبان» وواشنطن، وأول هذه الأطراف هي الحكومة الأفغانية التي قالت إنها لن تقبل أي اتفاق سلام من شأنه أن يقوض نظام الحكم الحالي. وهو اعتراض يثير مخاوف من عودة أفغانستان إلى الحرب الأهلية، في حال انسحبت الولايات المتحدة. إذ يرى المراقبون أن «طالبان» التي رفضت إجراء محادثات مع ممثلي الحكومة الأفغانية، تنظر إلى الحكومة المنتخبة في البلاد على أنها «دمى» تحركها القوى الخارجية، بينما تجتهد واشنطن في محاولات طمأنة الحكومة الأفغانية أنها لن تتخلى عن دعم الحكومة الأفغانية وقواتها الأمنية.
لذا قال كبير المفاوضين الأمريكيين، زلماي خليل زاد، إنه: «لا ينبغي ترهيب أحد أو خداعه بالدعاية، اسمحوا لي أن أكون واضحًا للغاية، سندافع عن القوات الأفغانية الآن، وبعد أي اتفاق مع طالبان».
كذلك من الأطراف المعنية بالمفاوضات بين «طالبان» وواشنطن؛ باكستان، التي تريد أن تضمن مصالحها في أفغانستان، فهي قادرة على الضغط على «طالبان» لكي يكون لها دور سياسي كبير في كابول، بمجرد مغادرة القوات الأجنبية، إذ إن باكستان ذات الأهمية الاستراتيجية في أفغانستان، ورغم محاولتها إظهار التقليل من دعمها لـ«حركة طالبان»، تحاول القول إن أي صفقة مع «طالبان» يجب أن تمر بها، وذلك عبر دعم المفاوضات التي تضمن مشاركتها في المفاوضات، هو الاستقرار عبر الحدود في أفغانستان، وحكومة أفغانية تضم «طالبان».
«إعادة الجنود الأمريكيين إلى الديار».. حلم ترامب
يرجع الأمريكيون سبب فشلهم الكارثي في أفغانستان إلى فشلهم في تحديد أهداف الحرب الواقعية، والذي نجم عنه خلال السنوات الماضية أن تخسر واشنطن ببطء الحرب في أفغانستان؛ إذ لم تجن القوات الأمريكية في أفغانستان إلا الخسائر في الأرواح والأموال، لتجد نفسها اليوم مضطرة للتفاوض مع «حركة طالبان» لإنهاء وجودها في أفغانستان دون قتال الحركة.
زوجة الدكتور توم ليتل الذي قُتل على يد «طالبان» في أفغانستان، يكرمها الرئيس السابق باراك أوباما الأمريكي
لكن لماذا يريد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الآن الانسحاب من أفغانستان، ومخالفة ما توعد به القادة الأمريكيون لـ«حركة طالبان» بالسحق، بعد أن صنفوا الحركة بأنها «حركة إرهابية»؟ يقول لنا الكاتب الصحافي المقيم في كوريا الجنوبية إبراهيم أحمايد إن: «الوصول بالحكومات للجلوس على طاولة التفاوض هو أحد أوجه الفوز، بغض النظر عن مآلات المفاوضات التي قد يخرج منها الجانبان خالين الوفاض، مثلما يحدث حاليًا بين الحكومة الكولومبية، والقوات المسلحة الثورية الكولومبية».
ويوضح: «التفاوض بحد ذاته يرفع الجماعة من مجرد فاعل غير شرعي، إلى مصاف المفاوض الشرعي المتمتع بالحجم السياسي نفسه للحكومة التي يفاوضها، وهو أمر كثيرًا ما دفع الحكومات، والحكومة الأمريكية على وجه الخصوص، إلى رفض التفاوض المباشر والعلني، على الأقل مع الإرهابيين».
ويرجع أحمايد ما حصل لشخصية ترامب التي لم تأت من خلفية سياسية، فهو يزن الفوز والخسارة، ليس بنظريات السياسة وميزانها، بل بميزان رجل الأعمال الذي يهرع إلى التفاوض، فور ظهور أي بصيص للفوز، ويضيف لـ«ساسة بوست»: «بعين رجل الأعمال دونالد ترامب، ليس هناك ما تخسره الولايات المتحدة من التفاوض، بعكس ما قد يراه جل السياسيين، هذه مقاربة جديدة لم يكن ليقوم بها محنك في السياسة، وتحتاج مغامرة رجل أعمال».
كما يعتقد الإعلامي الباحث في الدراسات الأمنية بآسيا، أحمد الباز، أن ترامب يسعى لأن يؤسس إرثًا لنفسه، بتحقيق ما لم يستطع من سبقوه تحقيقه، وهو إعادة «الجنود الأمريكيين إلى الديار»، فرغم أن أوباما كان قد سعى للجلوس مع «طالبان» على طاولة المفاوضات، فإن الأمر لم يثمر عن شيء.
ويوضح الباز أنه لا يمكن التأكيد على أن «طالبان» ستلتزم بعملية إحلال سلام في أفغانستان، ولا بمشاركة للسلطة، ولا بالتخلي عن رؤيتها المتشددة تجاه تطبيق الشريعة الإسلامية، فالحركة ما تزال تجري عملياتها المسلحة بالتوازي مع حركة التفاوض.
ويشير الباز إلى أن: «تنظيم «طالبان» مصر على أنه لن يبدأ بالتفاوض مع الحكومة الأفغانية في كابول، إلا بعد الوصول إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، وأظن أن هذا تكتيك يضمن لـ«طالبان» مصدر قوة؛ فالقوات الأمريكية ستكون قد بدأت في عملية الرحيل، وفي الوقت نفسه ستكون «طالبان» قد حصلت على شرعية دولية قوية بموجب المفاوضات، ما سيجعلها في منزلة «السيد» بالداخل الأفغاني»، موضحًا أن هذا سيوفر لها القدرة على فرض سطوتها وقرارتها على طاولة المفاوضات مع الحكومة الأفغانية».
ويرى الباز أن هذا يعني أننا سنكون أمام «حكومة طالبانية» متكئة على شرعية دولية، أو أمريكية في أقل الأحوال، وبمعنى آخر، فإننا سنكون أمام «شرعنة لحكومة إسلاموية طالبانية مسلحة» تتولى مستقبل أفغانستان، دون تقاسم معقول للسلطة، بحسبه.
الغموض يغلف مستقبل أفغانستان
فيما يخص المستقبل السياسي في أفغانستان، يتوقع الباحث في الدراسات الأمنية، أحمد الباز، أن تكون أفغانستان أمام مستقبل لا يتضمن وجود دستور حقيقي، ولا انتخابات حقيقية، ولا نظام سياسي منفتح على النظام الدولي.
قادة طالبان في مفاوضات الدوحة
ويوضح الباز خلال حديثه لـ«ساسة بوست»: «المشكلة الأكثر تعقيدًا بالنسبة لما بعد المفاوضات، أن «حركة طالبان» منقسمة على نفسها بشأن التفاوض، أي إنه مع افتراض توقيع مجموعة الدوحة اتفاق مُرضٍ مع الولايات المتحدة، فإننا لا نضمن أي فاعلية لتحويل هذا الاتفاق إلى تطبيق عملي؛ بسبب رفض مجموعات أخرى بالتنظيم لأي تفاوض».
أما بالنسبة لواشنطن، فإن هندسة الاتفاق بهذا الشكل لمجرد رغبة البيت الأبيض في الانسحاب من أفغانستان، وتحقيق إرث شخصي للرئيس ترامب، فإنه من الوارد أن يكون مردوده سلبًا على مستقبل النفوذ أو التدخل الأمريكي بأفغانستان، حسب الباز الذي يبين أن الحاصل هو أن الولايات المتحدة تسلم سدة الحكم لـ«طالبان» مع شرعنة دولية للتنظيم، أي إن واشنطن تعمل على تسمين الدُب الذي سيقف لها بالمرصاد، إن أرادت العودة والتدخل لكبح خطر يهدد الأمن القومي الأمريكي.
ويضيف القول: «كما أننا أمام مستقبل أقوى للعلاقات بين إيران وحركة «طالبان»، التي باتت تتحرك بسهولة في أفغانستان تحت مظلة أمريكية، وبالتالي فإن إيران ستعمل على تكثيف مساعيها لتوسيع التي نفوذها بأفغانستان».
فيما يصف لنا الكاتب الصحافي المهتم بالشأن الآسيوي، إبراهيم أحمايد، مستقبل أفغانستان بالغامض، ويقول إن هذا البلد الذي تحكمه الانقسامات وولاءات زعامات مختلفة، داخليًّا وخارجيًّا، أكبر من أن تحلها أي مفاوضات دولية، موضحًا: «طالبان ستتفاوض دون أن ترضى خسارة وطأة قدم في أفغانستان، وواشنطن وحلفاؤها لن يرضوا بأي سيطرة من «طالبان» على أي من مناطق البلاد»، ويضيف: «كما أن أعينًا كبيرة على ما يجتره السوق الأفغاني من السلاح، والأموال التي تضخها تجارة المخدرات الأفغانية؛ فشبكات عالمية ستعمل على أن يبقى الحال على ما هو عليه على الأغلب».