على الرغم من مساحتها الصغيرة نسبيًا، التي لا تتجاوز 100 كم مربع، تُعد كوريا الجنوبية ثالث أكبر مستضيف للقوات الأمريكية في العالم، بـ34 ألف جندي و33 قاعدة عسكرية وفقًا لتقرير لدويتشه فيله. فالقوات الأمريكية لم تبرح أرض كوريا الجنوبية منذ الحرب العالمية الثانية، فيما شرعت الولايات المتحدة منذ عام 2003 بعمليات دمج واستبدال لقواعدها العسكرية في البلاد لتركيز الحاميات والجهود في أماكن قليلة من جهة، والابتعاد عن التهديد الصاروخي القادم من كوريا الشمالية من جهة أخرى.
أسفرت هذه الجهود عن بناء معسكر همفريز؛ أكبر قاعدة أمريكية من حيث الحجم وعدد القاطنين فيها على مستوى العالم. فعلى بعد 54 ميلًا من العاصمة سيئول في منطقة بيونج تيك يقع المعسكر على مساحة 14.7 مليون متر مربع، أي بحجم وسط واشنطن تقريبًا.
يطلق مسؤول الشؤون العامة في الجيش الأمريكي، بوب ماكلروي، على هذا المعسكر وصف «قطعة من أمريكا»، ويحلو للجيش وصفه بـ«أكبر منصة إسقاط للقوة في المحيط الهادي»، متوجًا بذلك 12 عامًا من الجهود الأمريكية الكورية لتوطيد البصمة العسكرية الأمريكية في البلاد.
من قاعدة يابانية إلى أكبر معسكر للجيش الأمريكي في العالم
عندما كانت كوريا الجنوبية تحت الاستعمار الياباني في الأعوام (1910 – 1945)، كانت همفريز قاعدة عسكرية يابانية، ثم سيطرت عليها الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأطلقت عليها اسم «K-6»، ومع اندلاع الحرب الكورية، أصلحت القوات الجوية الأمريكية مطار بيونج تيك لاستيعاب المجموعة الجوية البحرية وقوة التحكم التكتيكية 614، ثم أعادت في عام 1962 تسمية القاعدة تكريمًا للطيار بنيامين همفريز، الذي قضى نحبه في حادثة تحطم طائرة هليكوبتر عام 1961.
أصبح هذا المطار لاحقًا الأكبر في آسيا، وأكثر مطارات الجيش الأمريكي نشاطًا؛ فهو مجهز بمدرج بطول 2500 متر وعرض 45.5 متر، ويشهد أكثر من 75 ألف رحلة سنويًا، ويحتوي المطار على أكثر من 80 طائرة ثابتة الجناحين ودوارة بما فيها طائرات من نوع سي-130 هيركوليز وبوينغ سي إتش-47 شينوك ومروحية يو إتش-60 بلاك هوك وطائرات RC-12، وأصبح هذا المطار اليوم جزءًا من معسكر همفريز الذي شهد توسعة لم يسبق لها مثيل في القواعد الأمريكية المنتشرة في بلدان العالم.
توسعة معسكر همفريز.. كوريا تدفع وأمريكا توفر
دخلت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية عام 2004 في اتفاق لنقل جميع القوات الأمريكية بعيدًا عن العاصمة سيئول لحماية سكانها البالغ عددهم 25 مليون شخصًا من منصات إطلاق الصواريخ ومدافع الهاوتزر؛ منهية بذلك 70 عامًا من التواجد الأمريكي في العاصمة الكورية الجنوبية.
«هو استثمار طويل الأمد للقوات الأمريكية في كوريا الجنوبية ودليل حي على الالتزام الأمريكي بالتحالف»، هكذا صرّح بذلك الجنرال فينست بروكس، قائد قوات الولايات المتحدة وكوريا في افتتاح المعسكر. وأشاد الرئيس الكوري الجنوبي حينها مون جي أثناء الافتتاح بالتحالف العسكري مع الولايات المتحدة، موضحًا أن الخطوات الأخيرة بنزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية كانت ممكنة فقط بسبب الردع الذي مثله هذا التحالف، لحماية كوريا الجنوبية من التهديدات التي مثلتها ثلاثة أجيال من عائلة كيم.
وبلغت تكاليف أكبر برنامج إعادة توطين لوزارة الدفاع الأمريكية وقت السلم في معسكر همفريز 10.8 مليار دولار، تكفلت كوريا الجنوبية بـ93% منها بموجب اتفاقية الحماية الموقعة بينهما، وهو ما دعى بروكس ليصدر تصريحًا جعله يتصدر صفحات الصحف؛ إذ قال إن تكلفة إبقاء القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية أقل تكلفة منها في الولايات المتحدة.
كيف يبدو المعسكر من الداخل؟
لوهلة ربما يشعر السائر أنه في إحدى ضواحي أمريكا الاعتيادية، فهناك المدارس والمكتبات والعيادات الطبية وساحات اللعب المخصصة للأطفال وملاعب جولف وصالات رياضية أخرى، إضافة إلى فندق يستوعب 200 شخص، ومركز تسوق حديث يقع على مساحة 300 ألف قدم مربع يحوي عشرات المتاجر والمطاعم. لا يغير شكل الصورة إلا الأسلاك الشائكة ودبابات «إم 1 أبرامز» التي تملأ المكان.
عودة للطبيعة العسكرية للمكان؛ فهو يحوي مركز محاكاة للمعركة ونطاق أسلحة صغيرة، ومركز اتصالات، ومركز خدمات لمركبات برادلي القتالية، ودبابات المعارك، وهي جميعها جاهزة لخوض أية معركة في الحال، إضافة إلى مركز القيادة الأمريكية الكورية، ولواء الطيران القتالي الثاني، وأكثر من 30 وحدة عسكرية هامة، ويوجد أيضًا أبراج حراسة ومناطق تدريب الدبابات ونطاقات رماية.
وبالإجمال، فقد بُني أكثر من 650 مبنى جديدًا فوق ما كان يعرف سابقًا بحقول الأرز والقرى الزراعية، فبعد أن كانت هذه المعسكرات لسنوات عديدة مقرًا للأفراد العسكريين فقط، أصبح الجيش الأمريكي يشجع عائلات الجنود على الانضمام إليهم ليكونوا قوة للاستقرار، ولتجنب جرائم القتل والعنف الجنسي في القواعد الأمريكية.
ومن أجل هذه الغاية، بُني 12 برجًا سكنيًا لاستيعاب العائلات الوافدة، في الوقت الذي سعت فيه الحكومة الكورية الجنوبية لدفع تسويات نقدية للمزارعين من أجل الانتقال إلى مساكن جديدة لتوفير المكان للمعسكر المتسع في العقد الأول من الألفية الجديدة.
«طائرات الأباتشي تبث الرعب».. ماذا عن القدرات العسكرية لمعسكر همفريز؟
بدأت عمليات توسعة معسكر همفريز في نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 لإتمام نقل مقر قيادة القوات الأمريكية وكوريا وعدد كبير من الجنود والمعدات إلى المعسكر، وكان المعسكر يضم آنذاك 6670 شخصًا فقط، ثم زاد هذا العدد بحلول عام 2018 إلى 28 ألف شخص، ومن المتوقع أن يصل إلى 42 ألف بعد اكتمال عمليات الانتقال عام 2020.
في إحدى ليالي صيف يوليو (تموز) عام 2016، نُقلت أكثر من 100 مركبة عسكرية في قوافل بعيدًا عن الأزمات المرورية ونقل عدد مماثل من المركبات عبر عربات السكة الحديد مثل: دبابات إم 1 أبرامز ودبابات المشاة القتالية من نوع برادلي M2A3، ومركبات الإصلاح M88، بالإضافة إلى مركبات مجنزرة وطواقمها، و40 حاوية، و180 قطعة معدات.
وفي مواجهة التهديدات المتزايدة من طرف كوريا الشمالية، نشرت الولايات المتحدة 24 طائرة أباتشي حربية في 2017 في كوريا الجنوبية، وذكرت وزارة الدفاع الوطني في بيان مشترك أنه في إطار هذه العملية، ستستبدل طائرات الأباتشي من طراز إيه إتش 64 بمروحيات، أو إتش 58 كيوا.
وأعرب المتحدث باسم الجيش الأمريكي أن هذا الأمر يأتي في سياق إثبات إرادة الولايات المتحدة القوية في تنفيذ التزاماتها الأمنية وسيعزز كلًا من قدرات الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. ومن جهته قال رئيس الأركان في كوريا الجنوبية، الجنرال جانج جون جيو، إن ظهور طائرات الأباتشي فقط كفيل ببث الرعب في قلوب الأعداء وفقًا لوكالة يونهاب للأنباء.
ولم توقف جائحة كورونا جهود مهندسي الجيش الأمريكي لإتمام المرحلة الأولى من مرفق زيت الوقود في معسكر همفريز، وهو مشروع بقيمة 29 مليون دولار واستغرق استكماله ست سنوات، وسيؤمن الوقود لعربات الجيش المقاتلة.
وقالت مديرة المشروع في المنطقة، إيمان ساندكويست، إن هذه هي المرحلة الأولى من إجمالي المشروع المكون من ثلاثة مراحل بقيمة 56 مليون دولار ستمنح القوات الأمريكية والكورية القدرة على تخزين 5 ملايين جالون من الوقود إلى جانب تحسين قدرات تفريغ وتحميل الوقود، وأضافت أنه مع توسعة المعسكر وإعادة توطين المقاتلين ووضعهم في أماكن مختلفة من القاعدة العسكرية، كانت هناك حاجة لدعمهم في وقت الطوارئ والهدنة.
وكان الوقود يخزن في الطرف الجنوبي من مطار همفريز في مخزن الوقود السائب القديم، وهو يقع في أرض لا تخضع لاتفاقية نشر القوات (SOFA) وبالتالي، جاء هذا المشروع ليؤمن احتياجات المعسكر ويرفع من جاهزيته.
«هدف مُغرٍ».. المعسكر في عيون كوريا الشمالية
في الوقت الذي تشهد فيه شبه الجزيرة الكورية المراحل النهائية لانتقال الجنود الأمريكيين للمعسكر الجديد، يتساءل الخبراء العسكريون إن كانت هذه الخطوة موفقة إستراتيجيًا أم أنها بالفعل جعلت من القوات الأمريكية لقمة سائغة وهدفًا مغريًا لقوات كوريا الشمالية، التي عملت منذ بداية عمليات النقل على تطوير صواريخ باليستية قادرة على الوصول إلى القاعدة الجديدة.
ويلفت العقيد المتقاعد ديفيد ماكسويل إلى «الدعاية الكورية الشمالية التي تقول إنها تطور أسلحة جديدة لضرب هدف مُغرٍ في كوريا الجنوبية»، وهو يعتقد أن معسكر همفريز هو الهدف المغر، ويضيف: «فقد قمنا بتوطين غالبية القوات القتالية في المعسكر، وهذا بالتأكيد هدف مغرٍ».
ويوافق الباحث البارز في مؤسسة راند بروس بينيت على أن هذا الاندماج يؤمن لكوريا الشمالية هدفًا سهلًا إلى حد ما، صحيح أنه من المؤكد أن لدى القوات الأمريكية أجهزة إنذار مبكر ومضادات صواريخ، ولكن لا يمكن تجاهل التهديد الكوري الشمالي، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك القدرات النووية للبلاد. وقد قال منشق عن النظام الكوري الشمالي في شهادته أمام الكونجرس عام 1997 أنه إذا اندلعت حرب في شبه الجزيرة الكورية، فسيكون هدف كوريا الشمالية هو القوات الأمريكية المتمركزة في اليابان وكوريا الجنوبية.
وكان كيم الأكبر يعتقد أنه إذا قتل 20 ألف جندي أمريكي فسيعترف السياسيون الأمريكيون بالهزيمة، وهذا ما لم يُعرف بعد ما إذا كان كيم جونج أون يؤمن به أيضًا أم لديه تصورات أخرى حول حسم المعركة مع الأمريكيين في حال اندلاع الحرب.
وبعيدًا عن التهديد الكوري الشمالي، يتحدث الخبراء العسكريون عن مشكلات أخرى في نقل الجنود بعيدًا عن العاصمة سيئول، فوفقًا لريك لامب، الضابط المتقاعد، في ظل عدم وجود أماكن للتدريب في داخل المعسكر؛ يتعين على الجنود السفر شمالًا حيث ساحات التدريب على المناورات بالذخيرة الحية، الأمر الذي يخلق مشكلات لوجستية وتحديات تكيّف وتعديل.
وهناك مساحات للتدرب على الأسلحة الصغيرة داخل المعسكر، ولكن الساحات المفتوحة للتدريب لا تزال في المنطقة منزوعة السلاح، وهناك أيضًا مشكلات التواصل بين القيادة الأمريكية والكورية في حالات الطوارئ بسبب بعد المسافات، فالحديث على الهاتف بوجود أشخاص يتحدثون لغتين مختلفتين يصبح عائقًا في أوقات كهذه، وفقًا للخبراء.
طموحات ترامب.. هل تفسد التعاون العسكري بين البلدين؟
يعي كلا البلدين كوريا الجنوبية وأمريكا أهمية التواجد الأمريكي في البلاد خاصًة في مواجهة التهديد الكوري الشمالي، ولكن التكاليف الباهظة التي تدفعها كوريا الجنوبية، وأطماع ترامب في زيادة ما يدفعه الآخرون مقابل الحماية الأمريكية لتصل إلى «حصتهم العادلة» على حد تعبيره، ربما تزيد من المعارضة الداخلية في كوريا على مستوى الشعب والسياسيين على حد سواء.

DALLAS, TX – SEPTEMBER 14: Republican presidential candidate Donald Trump speaks during a campaign rally at the American Airlines Center on September 14, 2015 in Dallas, Texas. More than 20,000 tickets have been distributed for the event. (Photo by Tom Pennington/Getty Images)
فبالإضافة إلى المليار دولار التي دفعتها كوريا الجنوبية مقابل تمركز القوات الأمريكية في بلادها في 2019، بزيادة بمقدار 70 مليون عن العام السابق بموجب اتفاقية التدابير الخاصة، استمر الرئيس الأمريكي في الضغط على سيئول لدفع المزيد لإتمام صفقة 2020 الأمر الذي ينبئ بالمزيد من التوترات بشأن الترتيبات المستقبلية بين البلدين.