على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي، من المفترض أنه يعلن ضمن أساساته تعزيز القيم الديمقراطية، كما أنه لا يقبل أن تنضم إليه دولة غير ديمقراطية؛ إلا أن دولة المجر داخل الاتحاد قد تحولت في غضون سنوات إلى رمزٍ للديكتاتورية؛ فمنذ أن تولى فيكتور أوربان رئاسة وزراء المجر عام 2010، وحتى فوزه بدورة ثالثة في انتخابات أبريل (نيسان) لعام 2018، وقد عمل على اتخاذ الكثير من القرارات المثيرة للجدل. من اضطهاد المثليين والجالية اليهودية إلى حرمان اللاجئين من الطعام. سعى أوربان لترسيخ نظام حكم قائم على القمع لكل ما هو مختلف. وقريبًا قد يذهب نحو مليون موظف مجري إلى عملهم الحكومي، وهم يرتدون زيًا موحدًا وكأنهم في دولة فاشية تنتمي للقرن العشرين. 

من السيطرة على البحث العلمي إلى اضطهاد «المثليين»

كانت الحكومة المجرية إبان السنوات الماضية، تسعى جاهدة للسيطرة على كل مناحي الحياة، بما في ذلك الأكاديميات العلمية، وهيئات البحث العلمي؛ إذ أقر البرلمان مشروع قانون، يتيح لأجهزة الدولة تشديد سيطرتها على مجالات البحث العلمي، ويجرد الأكاديمية المجرية للعلوم والتي يبلغ عمرها 200 عام، من هيئاتها البحثية؛ على أن يتسلم هذه الهيئات لجنة علمية يُعين رئيسها من قبل فيكتور أوربان نفسه. على أن يجري اختيار نصف أعضاء اللجنة من قبل الحكومة.

عن ذلك تقول ليديا جال، وهي باحثة في مجالات حقوق الإنسان داخل أوروبا الشرقية ودول البلقان: «هذا القرار مسمار أخير في نعش الحرية الفكرية الأكاديمية، والبحث العلمي المستقل».

أتى هذا القرار بعد إجبار جامعة «أوروبا الوسطى» -التي تأسست عام 1991 على يد رجل الأعمال اليهودي جورج سوروس- على الخروج من البلاد، كما حظرت الدراسات التي تتعلق بالجنسانية من الجامعات. وذلك نتيجة لما تنتهجه إدارة أوربان اليمينية المتطرفة من سياسات تسعى لتضييق الخناق على الفكر الحر، وترسخ لسياسة «عدم قبول الآخر».

(فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر)

على الرغم من أن المجر دولة تابعة للاتحاد الأوروبي، المعروف عنه تبني الأفكار التحررية؛ إلا أن سياسة أوربان المحافظة قد سعت لاضطهاد الأقليات ومثليي الجنس والمهاجرين والغجر. وقد ناشد رئيس الوزراء المجري منذ تواجده الأول على الساحة الدولية، بالعودة إلى أسس الأسرة التقليدية، بهدف زيادة معدلات المواليد. وفي الآونة الأخيرة تحولت وسائل الإعلام في المجر، إلى أبواق حكومية يسيطر عليها حزب «فيديس» الحاكم.

على سبيل المثال لا الحصر، أعلنت هيئة الإذاعة المجرية الانسحاب من مسابقة الأغنية الأوروبية لعام 2020، المعروفة باسم «يوروفيجن»، وقد جاء تعليق أحد المصادر داخل الإذاعة، لصحيفة «الإندبندنت»، بقول إن المنافسة تبدو «مثلية للغاية (so gay)» داخل المسابقة. في حين قال أندراس بنسيك، رئيس تحرير مجلة مؤيدة للحكومة: «أرحب بقرار الانسحاب، لأن المجر لن تكون جزءًا من أساطيل المثلية الجنسية، التي تحولت إليها هذه النوعية من مسابقات الأغاني». 

في المجر.. تقديم الطعام للاجئين جريمة

خلال كلمته الأسبوعية في الإذاعة الحكومية، مايو (آيار) الماضي؛ انتقد رئيس الوزراء المجري فكتور أوربان اتفاقية «شنغن»، والتي بمقتضاها تقاسمت الدول الأوروبية أعباء مئات الآلاف من المهاجرين. دعا أوربان لإعادة المهاجرين واللاجئين إلى بلدانهم الأصلية عوضًا عن توزيعهم بنظام الحصص على دول القارة العجوز، وإجبارها على استقبال اللاجئين. وهو تأكيد على سياسات رئيس الوزراء اليميني المناهضة لاستقبال المهاجرين.

لم يكن هذا هو الموقف الوحيد لأوربان الذي اتخذه في معاداة اللاجئين؛ إذ كانت الحكومة المجرية تعمل إبان 2018 على صياغة مجموعة من التشريعات القانونية تجرم مساعدة المهاجرين غير الشرعيين في سعيهم لطلبِ اللجوء. أحكامًا بالسجنِ تتراوح بين عدة أيام وسنة تنتظر كل من يقدم مساعدة أو يعمل على تهريب طالبي اللجوء.

كانت مقترحات هذه القوانين تعتبر تقديم الطعام للاجئين جريمة يعاقب عليها القانون. هذا إضافةً إلى تقديم المشورة أو أي نوع من المساعدات الأخرى. وقد دخلت تلك التشريعات حيز التنفيذ من يوليو (تموز)؛ إذ حرمت السلطات المجرية في أغسطس (آب) 2018 أكثر من عشرين مهاجرًا ينتظرون الترحيل من الطعام، بعضهم بقي دون مأكل مدة خمسة أيام.

(تقرير عن معاملة المجر للاجئين)

كانت المجر عام 2015 محطة انتقالية لحوالي مليون لاجئ، هاربين من النزاعات في سوريا والعراق وأفغانستان، وناشدين الوصول إلى أوروبا الغربية. وهو ما ردت عليه السلطات المجرية بتطويق حدود البلاد الجنوبية بسياج محكم، وتشديد الإجراءات الأمنية هناك؛ من أجل غلقها تمامًا أمام موجات الهجرة. ويرى أوربان أن تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين المسلمين يهدد الثقافة الأوروبية، وقد يعمل فيما بعد على نشوء أزمة ديمقراطية كبرى في القارة العجوز.

على الرغم من أن المجر تعاني بشكلٍ خاص من قلة عدد السكان بنسبة تصل إلى 32 ألف نسمة خلال العام الواحد، إلا أن رئيس الوزراء المجري يعادي هجرة المسلمين على وجه الخصوص، والاعتماد على الوافدين لتعويض هذه الأرقام؛ ولذلك أعلنت الحكومة في فبراير (شباط) الماضي، عن صرف قرض يصل إلى 30 ألف يورو لأي أسرة تنجب ثلاثة أطفال، هذا إلى جانب إعفاء الأمهات اللواتي ينجبن أربعة أطفال من ضريبة الدخل، مدى الحياة.

«لا نحتاج أرقامًا؛ بل نحتاج أطفالًا مجريين»، هكذا أشار أوربان، مُضيفًا أن الشعب المجري يود لدولته أن تظل أمةً مجرية، ولهذا أمام كل رقم ناقص، وأمام كل فقيد لعائلة، يجب أن يكون هناك مولود جديد، حتى لا تضطر البلاد إلى الاعتمادِ على الوافدين من الخارج، بحسبه.

المجر أخطر من ترامب.. 6 حكايات عن الدولة الأكثر عنصرية ضد اللاجئين في العالم

اضطهاد منظمات المجتمع المدني.. تمامًا كأنك في العالم الثالث

«محافظو أوروبا يعلقون عضوية حزب رئيس الوزراء المجري»، هكذا كتبت وكالات الأنباء في مارس (آذار) الفائت؛ عندما صوت زعماء حزب الشعب الأوروبي لصالح تعليق عضوية حزب «فيديس» المجري اليميني بواقع 190 صوتًا مقابل ثلاثة أصوات. الجدير بالذكر أن التعليق هو حل وسط ما بين الطرد واستمرار عضوية حزب فيكتور أوربان. وقد جاء هذا القرار ردًا على تعليق ملصقات حملة دعائية للتشهير برئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، بإظهاره في صورة المشجع للهجرة غير الشرعية، وذلك من خلال الملصقات التي تصوره جنبًا إلى جانب جورج سوروس، الملياردير المجري، الشهير بدعمه للمنظمات الحقوقية.

في التقرير السنوي لمنظمة «حقوق الإنسان» عام 2019، اتهمت المجر إبان عام 2018 باستخدام وسائل الإعلام الموالية للحكومة في الضغط على منظمات المجتمع المدني؛ إذ كان رئيس الوزراء المجري على وشك الفوز بولايته الثالثة في انتخابات أبريل، ولهذا شنت الحكومة حملات تشهير على التلفزيون والراديو ولوحات الإعلانات، تستهدف منظمات المجتمع المدني العاملة في مجالات اللجوء والهجرة.

وصف المسؤولون الحكوميون، بمن فيهم فيكتور أوربان، منظمات المجتمع المدني والمعارضة السياسية، والصحافيين الناقدين بـ «عملاء سوروس»، نسبةً إلى رجل الأعمال المجري جورج سوروس والذي تعرض نفسه لحملات تشهير نظرًا لكونه أحد ممولي المنظمات الرئيسيين.

عام كامل حاولت فيه الحكومة المجرية تضييق الخناق على المنظمات المستقلة من أجل إخراس ألسنتهم، حتى أصبح من الصعب على المنظمات الحقوقية مزاولة عملها لمساعدة الآخرين وحماية حقوقهم. إبان ذلك لجأت السلطات إلى اقتراح بعض التشريعات التي من شأنها تجريم أعمال منظمات المجتمع المدني التي تعمل على مساعدة اللاجئين والأقليات، وهو ما أشارت إليه «منظمة العفو الدولي» في تقريرها؛ إذ وافق البرلمان على تمرير تلك التعديلات الدستورية.

تتطلب الحزمة التشريعية الجديدة في المجر والتي تسمى «إيقاف سوروس» الحصول على تصاريح من الأمن القومي للمنظمات غير الحكومية، خاصةً تلك التي تعتبرها الحكومة داعمة للهجرة؛ هذا إلى جانب دفع ضريبة قد تصل إلى 25% من أي تمويل أجنبي يهدف إلى دعم الهجرة أو تعزيز وضع اللاجئين. أما عدم الامتثال إلى هذه القوانين فقد يعرض المنظمة إلى الحل وغرامات مالية باهظة.

عملت تلك التشريعات على خلق مناخ من الخوف والريبة داخل المجر؛ إذ بموجبها تتمكن الحكومة من مراقبة سلوك المنظمات الحقوقية المستقلة داخل البلاد، وبدلًا من بذل الوقت والطاقة في مساعدة المحتاجين، ستضطر تلك المنظمات إلى صرف أموالهم في مواجهة البيروقراطية الحكومية. وذلك مجرد جزء صغير من الحملة الممنهجة التي قادتها حكومة الحزب الحاكم «فيديس» لمكافحة الهجرة.

(تقرير بي بي سي عن ديمقراطية فيكتور أوربان)

في سبتمبر (أيلول) 2018، وافق البرلمان الأوروبي على اتخاذ بعض الإجراءات العقابية ضد المجر؛ لمخالفتها قيم الاتحاد الأوروبي الأساسية، بموجب المادة السابعة من معاهدة الاتحاد الأوروبي. جاء ذلك ردًا على حزمة التشريعات الجديدة التي من شأنها إسكات المعارضة وترهيب الأفراد والمنظمات داخل الدولة المجرية. إذ اعتبر الاتحاد الأوروبي سنَّ تلك القوانين جزءًا من حملة واسعة النطاق هدفها تقييد الحريات الأساسية، وسيطرة الحكومة على وسائل الإعلام والقضاء.

أوربان.. صديق لإسرائيل ومعادٍ للسامية

في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، أعلن أوربان تبرعه بمبلغ 3.4 مليون دولار، من أجل محاربة «معاداة السامية» داخل القارة الأوروبية، في اليوم التالي، كانت المجلة التي يسيطر عليها محامي رئيس الوزراء المجري قد نشرت عددًا على واجهته صورة أندراس هيسلر، زعيم أكبر جالية يهودية داخل المجر، وقد صورته متحممًا بالأوراق النقدية. وفي الوقت الذي نددت فيه الجماعات اليهودية على مستوى العالم بهذا العدد المعادي للسامية؛ إلا أن الرئيس رفض انتقاد المجلة. كان هذا مجرد جزء بسيط من لُعبة السيد أوربان «المُزدوجة». فهو صديق لإسرائيل لكنه في الجوهر ربما معاد لأي مخالف لعقيدته وثقافته.

عن ذلك يقول السيد هيسلر زعيم الجالية اليهودية، أن العلاقة ما بين الجالية اليهودية في المجر، والتي يبلغ تعدادها حوالي 100 ألف مواطن، وإدارة أوربان السياسية، في الظاهر إيجابية لدرجة لا تصدق، ويضيف: «لكن المسؤولين المجريين يتصرفون عكس القيم التي يزعمون تبنيها». مُشيرًا إلى أن القرارات السياسية الإيجابية ليست سوى غطاء للتصرفات الفعلية المعادية للجالية اليهودية.

في الآونة الأخيرة، برزت أخبار اليمين المجري المتطرف مجددًا، وذلك عقب قيام جماعة «فيلق المجر» القومية المتطرفة بمهاجمة مركزٍ للجالية اليهودية في العاصمة بودابست أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. لم يستهدف هذا الهجوم اليهود فقط، بل استهدف مركز «أورورا» والدعم المادي الذي يتلقاه من «مؤسسة المجتمع المفتوح» التابعة لجورج سوروس، وذلك لما تقدمه المؤسسة من دعم للمثليين جنسيًا ومغايري الهوية الجنسية واللاجئين والمهاجرين والأقليات. 

(تقرير البي بي سي عن جورج سوروس)

في المجر، يؤمن اليمين واليسار على حدٍ سواء، أن اليهود قد لعبوا دورًا هامًا في التخلص من النظام الشيوعي بدول أوروبا الشرقية في ثمانينيات القرن الماضي. يرى البعض أن جورج سوروس -الملياردير اليهودي المجري- على وجه الخصوص، كان له دور حاسم في ذلك الأمر؛ فبحسب نيل كلارك؛ الصحافي في مجلة «نيو ستيتسمان» اليسارية، عمل سوروس على إنفاق 3 مليون دولار لدعمِ المنشقين عن النظام بما في ذلك حركة التضامن البولندية منذ عام 1979، وحتى انهيار النظام الشيوعي. يشير كلارك إلى أن الملياردير المجري قد سعى جاهدًا لفتح منظمات المجتمع المفتوح، والتي في باطنها أسست لضعف الهياكل السياسية في دول أوروبا الشرقية، لتسيطر عليها سياسة رأس المال.

في الوقت ذاته، يؤمن اليمينيون المتطرفون بـ«نظريات المؤامرة اليهودية»؛ إذ يعتقدون أن سوروس، ومؤسسات المجتمع المفتوح التي يمولها، يقفون وراء مؤامرة يهودية تسعى إلى جلب المهاجرين إلى أوروبا، باعتبار ذلك جزءًا من مخطط لتدمير القارة العجوز والسيطرة عليها. وعلى الرغم من تضارب الأقوال حول سوروس، تدافع «الجارديان» عن الملياردير العجوز، مُشيرة إلى أن المجتمعات الاشتراكية في الثمانينيات كانت النماذج المثالية للمجتمعات المنغلقة على ذاتها؛ وهو الأمر الذي يكرس للديكتاتورية وعدم تقبل الآخر، ولهذا كانت مؤسسات المجتمع المفتوح، تهدف إلى تقبل الجميع بلا تمييز، فقط من أجل عالم أفضل يمكن للجميع أن يتعايش فيه بسلام.

المستثمرون والاتحاد الأوروبي والمسلمون.. هؤلاء أبرز المستفيدين من فوز ماكرون

المصادر

تحميل المزيد