يواجه إدريسا جاي، لاعب كرة القدم بفريق باريس سان جيرمان، تهديدات بعد انسحابه الصامت من مباراة يوم 16 مايو (أيار) 2022، ارتدى فيها فريقه قميصًا مصممًا لدعم مبادرة لـ«مكافحة رهاب المثلية الجنسية»، وذلك بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية.
تابع إدريسا المباراة من مدرجات الجمهور لأسباب «شخصية»، بحسب مدربه، وسرعان ما أشارت تقارير وسائل الإعلام الفرنسية إلى أن إدريسا (المسلم المتدين) سبق وأن غاب عن مباراة كانت لدعم المبادرة نفسها في العام الماضي، وبرر ذلك بآلام في معدته.
محاولة إدريسا الانسحاب، لم تنطل على الإعلام الفرنسي، الذي شن هجمة على اللاعب، متهمًا إدريسا بـ«رهاب المثلية»، ووضع إقامته بفرنسا، وعقد عمله مع الفريق، واحتمالية مقاضاته؛ محل تساؤل، قبل بدء التحقيق، معتمدة على ما هو جلي: فهو سنغالي، أسود، مسلم، أجنبي، مهاجر، لا يصح أن يبقى دون عقاب، وفق مطالبات الفرنسيين!
على رأس قائمة هؤلاء المطالبين بالقصاص من إدريسا، فاليري بيكريس، المرشحة السابقة للانتخابات الرئاسية الفرنسية، لكنها لم تتخذ موقفًا مماثلًا ضد إريك زمور، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية الفرنسية، عندما رفض عمل الجماعات المناهضة للعنصرية ورهاب المثلية الجنسية في المدارس، وأنكر اعتقال النازيين للمثليين جنسيًّا وترحيلهم لفرنسا.
ولم تقف الدعاوى القضائية حائلًا أمام خوض إريك زمور المعركة الانتخابية، إلى جانب ماريان لوبان المدانة بالعنصرية ومعاداة السامية، وفاليري بيكريس -نفسها- التي أشارت إلى نظرية «الاستبدال العظيم» التي تهدف لإبادة كل من هو ليس أبيض وأوروبيًّا كاثوليكيًّا، بل وصل الأمر بأحدهم، باتباع دعوة تدعو لإقامة «غوانتانامو فرنسي» للمسلمين.
صديقي الأسود المسلم: أنا لا أراك!
تلقى إدريسا طلبًا من مجلس أخلاقيات الاتحاد الفرنسي لكرة القدم للرد على اتهامه برهاب المثلية، وضرورة الاعتذار علنًا، أو إحباط الشائعات التي تود النيل منه، لكن إدريسا لم يرد حتى تلك اللحظة.
استقبل نبأ انسحاب إدريسا من المبارة دعم بلاده، السنغال، البلد المسلم بنسبة 95%، والذي يحظر بالفعل أي «أفعال غير لائقة أو غير طبيعية بين أفراد من الجنس نفسه»، وينص قانون العقوبات فيها على معاقبة المخالفين بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات، وغرامة تتراوح بين 100 ألف إلى مليون ونصف فرنك أفريقي، وشهدت – السنغال- نشاطًا للمناهضين للمثلية، لفرض عقوبات أشد على المثليين الجنسيين، تصل إلى السجن 10 سنوات.
يعيش مجتمع المثليين والمتحولين جنسيًّا في أمان نسبي بفرنسا، وليس لديهم فكرة عن درجة انتشار رهاب المثلية الجنسية في السنغال، والبلدان الإسلامية والأفريقية؛ فقد لا يكون إدريسا شجاعًا ومتسامحًا في فرنسا، لكن في السنغال، كان لاحتمالية ارتدائه القميص الداعم للمثلية أن يهدد أمن عائلته، وفرصة اختياره للعب ضمن منتخب بلاده في مباريات كأس العالم المقبلة، التي ستقام في نهاية العام، بدولة قطر، لكن لماذا لم تلتفت فرنسا للمعضلة التي تثقل كتف إدريسا؟ أو تحترم دينه وعرقه؟ الإجابة: أن فرنسا ترفض الاعتراف بدينه وعرقه، في تأكيد أعمى على «عالمية الثقافة الفرنسية»، وهي أزمة يشاركه في المعاناة منها السود الفرنسيون، إذ لا يمكنهم التعبير عن أنفسهم دون إخفاء لكنتهم، وآرائهم، أو الاضطرار إلى تبرير هويتهم.
«الهشاشة البيضاء» و«أمركة» فرنسا
يشير مفهوم العرق في فرنسا مباشرة إلى العنصرية البيولوجية، ويرفض المجتمع والحكومة الفرنسيين طرح العرق والدين للنقاش العام، ويعدونه أمرًا محظورًا، لصالح الارتقاء برؤية مثالية تعمى فيها العين عن الألوان والاختلافات، لأن حقوق الإنسان لا ترى ألوانًا؛ لذلك يظل جمع البيانات عن العرق والدين من أجل التعداد السكاني ولجميع الأغراض الرسمية الأخرى أمرًا غير قانوني تقريبًا، لكن المعاملة غير المتكافئة للنساء والسود والمسلمين والمهاجرين في فرنسا تناقض ذلك النموذج المثالي.
يقابل القادة الفرنسيون منذ عقد، محاولات السود الفرنسيين فتح نقاش حول العرق في الخطاب العام، اتهامًا بمحاولة «أمركة» فرنسا، وتفتيتها، وتهديد مبادئ تأسست عليها الجمهورية الفرنسية الحديثة. تضمنت تلك النقاشات اتهامات باستيراد المفاهيم الأنجلو أمريكية أو الأمريكية للعرق والعنصرية إلى السياق الفرنسي، كما اتضح في مقابلة أجريت مؤخرًا مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صحيفة «نيويورك تايمز»، وتحرك حكومته للتحقيق مع الجامعات الفرنسية لاستيرادها «أفكارًا أمريكية».
وفي تأكيد لوجود العنصرية في فرنسا وإنكارها في الوقت ذاته، أشار ماكرون إلى أن المدرس الفرنسي، صموئيل باتي الذي عرض على طلابه رسومًا مسيئة للنبي محمد، قُتل بسبب «تجسيده للجمهورية الفرنسية»، وهو الخطاب الذي تردد في أعقاب أحداث صحيفة «شارلي إبدو» 2015، بعد نشرها رسومًا مسيئة للنبي محمد، عندما تداول الفرنسيون شعار «نحن شارلي»، وشعر المسلمون الفرنسيون بأنهم مستبعدين عمن يصنفون بـ«الفرنسيين».
زيف سياسات الاستيعاب الفرنسية
تسعى سياسات الاستيعاب الفرنسية إلى إذابة الجميع في جسد واحد، وأن ينسوا تنوعهم الثقافي، ما تسبب في تأخر تأسيس دراسات السود في فرنسا، ونمو الوعي بالعنصرية، حتى الجيل الحالي، فمعظم المفكرين الفرنسيين الجدد المتخصصين في دراسة العرق، هم من أبناء المهاجرين من الإمبراطورية الاستعمارية السابقة، والذين نشأوا في أسر تتمتع بإحساس قوي بهوياتهم العرقية المنفصلة، وبدأوا تدريجيًّا في تطوير شعور مشترك بالوعي العرقي في أحيائهم ومدارسهم، أو غيرهم ممن لم يتعرفوا إلى عرقهم إلا بعد السفر للولايات المتحدة، وبدأ اعترافهم بأنهم سود، في تحد جذري لخطاب عمى الألوان الفرنسي.
حاول المؤرخ الفرنسي باب ندياي، في كتابه «الحالة السوداء» إيجاد حل وسط، بالإشارة إلى حقيقة أن إنكار وجود الأعراق لم يقض على العنصرية، وأن الرفض لم يمنع التمييز على أساسها، لكنه يمنع الفرنسيين من فهم التفاوتات الاجتماعية، ويزيد حدة رفضهم لفهم الهويات المتشابكة التي يطالب بها السود، والمكونة من تركيبة اجتماعية وثقافية ومهنية ودينية، لا تؤثر في كون الأسود فرنسيًّا منتميًا لمجتمعه.
نشر مركز «دراسة العرق والجنس في العلوم الاجتماعية-REGSS» أساطير الوحدة الوطنية الفرنسية، التي تغطي بنية عنصرية؛ فمن غير القانوني للحكومة الفرنسية جمع معلومات حول الأصل العرقي والإثني لسكانها متعددي الثقافات في التعداد الوطني، على الرغم من أن ما يقرب من 5% من الفرنسيين من السود، الذين هاجر أجدادهم وآباؤهم من مستعمرات سابقة وبلدان مثل: الجزائر، والسنغال، ومالي وجزر بحر الكاريبي بعد الحرب العالمية الثانية.
أكد المركز أنه لم يتم استيعاب المهاجرين اقتصاديًّا وسياسيًّا حتى اليوم، وعلى الرغم من أيديولوجية الوحدة الوطنية، لا يزال أطفالهم يتعرضون للتهميش أيضًا، فيعانون من البطالة بأعلى معدلاتها، وتستهدفهم الشرطة لأنهم سود أو عرب، ومن الشائع أن يلقوا القبض عليهم ويعتقلوهم، وهكذا أصبحت القومية الفرنسية وسيلة لنزع الشرعية عن النقاش حول الإنصاف المؤسسي للسود.
فرنسا التي تنكر العنصرية.. تمارسها
تهدأ «الفتن» في فرنسا سريعًا بسبب الإنكار الرسمي والتشكيك الإعلامي لروايات الضحايا السود، والعديد من الحقائق العنصرية ضد الشرطة؛ أشهرها مقتل الجزائري حبيب جريمزي على متن قطار، عام 1983، ثم مقتل زيد بينا وبونا تراوري، وهما مراهقان صعقتهما الشرطة بالكهرباء في أكتوبر (تشرين الأول) 2005، وإلقاء الشرطة الفرنسية عبوات غاز مسيل للدموع أمام مخرج مسجد ببلدتهما لمنع المصلين من الاحتجاج على مقتلهما، ثم مقتل أداما تراوري أثناء اعتقاله في صيف 2016، واغتصاب ثيو إل بهراوة أثناء اعتقاله، عام 2017، ثم ضرب ميشيل زيكلير، منتج الموسيقى الأسود، على يد أربعة ضباط شرطة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 في باريس.
تسبب عمى الألوان الفرنسي كذلك في تعطل مجرى العدالة؛ فأجج مقتل الأمريكي جورج فلويد عام 2020، السود في فرنسا، للمطالبة بتحقيق العدالة لأداما تراوري، الفرنسي من أصل مالي، الذي كان يبلغ من العمر 24 عامًا، والذي توفي في عام 2016، بعد أن اعتقلته الشرطة الفرنسية، واحتشد 20 ألفًا أمام محكمة في باريس، ثم خرج السود بعد ذلك بأسبوعين في احتجاجات، قدرت أعدادها بنحو 15 ألفًا، في باريس، وكتبوا على اللافتات «حياة السود مهمة»، و«لا عدالة، ولا سلام»، واستمرت الحشود في التظاهر طوال أسابيع، حتى هاجمهم ناشطو اليمين المتطرف، مسلحين بالأزميل والسكاكين، ورفعوا لافتة كتبوا عليها «حياة البيض مهمة».
يرى البيض في إثارة قضايا السود بفرنسا تهديدًا لهم، وفي الوقت نفسه، تغمض الحكومة الفرنسية عينها عن العنصرية بوصفها دافعًا محتملًا لارتكاب جريمة؛ فبعد مرور ستة أعوام على مقتل أداما تراوري، لا يزال القضاة يبذلون كل ما بوسعهم لتبرئة الشرطة الفرنسية، كما أعرب أربعة خبراء، بتكليف من مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، عن قلقهم إزاء «بطء التحقيق» في قضية أداما تراوري، ووقوف المتهمين في مصاف الشهود على الواقعة، و«عدم وجود لائحة اتهام»، وأشاروا أيضًا إلى «عدم مراعاة الحكومة الفرنسية وجود دافع عنصري محتمل في وفاة السيد تراوري».
لذا، ليس من المستغرب، ما يفعله الإعلام الفرنسي مع اللاعب السنغالي الأسود، بداية من شن الحملة ضده، ومرورًا بالمطالبة بفسخ عقده، وانتهاءً بالتهديدات التي يتلقاها واحتمالية خضوعه للتحقيق، إذ إن هذا كله يتماشى مع العنصرية الفرنسية المسكوت عنها، بدعوى «الوحدة الوطنية»، ذلك الشعار الذي لا يُرفع في وجه مؤيدي اليمين المتطرف، ولنا في المرشح الرئاسي السابق، «كاره المثليين»، إريك زمور، أقرب مثال.