في أول أغسطس (آب) 2021 لجأ سمير، وهو شاب تونسي، عمره 25 سنة، متحصل على شهادة تقني في اللوجستيك، إلى الهجرة غير الشرعية لإيطاليا عن طريق مركب غير مرخص، قبل إحباط المحاولة من طرف حرس الحدود البحرية التونسية.
أنفق سمير 1500 دولار في تلك الرحلة الخطرة التي خاضها مع خمسة شباب من مدينته، دفع كل منهم مبلغًا مماثلًا للوسيط الذي اتفق معهم على إخراجهم من تونس، واضطر سمير لبيع حاسوبه المحمول ودراجته النارية وتجميع بقية المبلغ من شقيقيه.
الرحلة شملت أكثر من 40 مشاركًا أغلبهم من المحافظات الداخلية في البلاد، بالإضافة إلى مشاركين من جنسيات أفريقية، واضطروا للمبيت يومين في مدينة «الشابة» الساحلية، في منزل قريب من الشاطئ بدون اتصال بالعالم الخارجي وفي ظروف صعبة، قبل أن يطلب منهم الوسيط التوجه إلى مكان القارب في شكل مجموعات لا تتجاوز الخمسة أفراد؛ إذ حاصرتهم قوات حرس الحدود البحري وسط البحر بعد أقل من 15 دقيقة من الخروج ليقضي شهر ونصف في السجن عقابًا له على ذلك.
يحكي سمير لـ«ساسة بوست» قائلًا: «حاولت الحرقة وأنا عارف أنه ممكن نموت أو يسجنوني، باش أحسِّن وضع العائلة، وأضمن لهم عيش كريم، وأنه لو توفرت لي الفرصة مرة أخرى نعاود التجربة، طالما أني عاجز عن توفير عمل يضمن لي الكرامة في تونس»
هربًا من الجحيم لا بحثًا عن الجنة.. رحلة الموت اليومية على سواحل تونس
في 20 يناير (كانون الثاني) 2022 أنقذت قوات الأمن التونسية 21 شخصًا تونسيًا، وانتشلت جثامين 32 مواطنًا على سواحل «قرقنة» (وهي جزيرة تونسية في البحر الأبيض المتوسط)، ولم يزل البحث جاريًا عن بقيّة المفقودين.
حرس السواحل يوقف محاولة للهجرة غير الشرعية في تونس
وفي هذا السياق أفادت بيانات وزارة الداخلية التونسية بتزايد مثل هذه العمليات في الفترات الأخيرة، فخلال الفترة الممتدة بين 26 ديسمبر (كانون الأول) 2021 و22 يناير 2022 أحبطت الوزارة 93 محاولة اجتياز للحدود البحرية خلسة تجاه السواحل الإيطالية، في مقابل إحباط 17 محاولة خلال شهر يناير من العام الماضي حسب تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية).
وكشفت تقارير صادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتفاعًا كبيرًا لعدد المهاجرين غير الشرعيين من تونس خلال عام 2021، موضحة تزايد أعداد المهاجرين بعد إجراءات 25 يوليو (تموز) المعلنة من طرف قيس سعيد رئيس الجمهورية التونسي، والمعروفة بـ«الانقلاب الدستوري».
وتجاوز عدد المهاجرين بطريقة غير شرعية من تونس نحو الأراضي الايطالية من يناير 2021 وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 نحو 15 ألف مهاجر، منهم (11 ألف) تجاوزوا الحدود بعد الانقلاب الدستودي في يوليو 2021.
وبمقارنة عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين تمكنوا من الوصول إلى إيطاليا سنة 2021 حسب الأشهر، نجد أن أكبر عدد جرى تسجيله كان في شهر يوليو 2021؛ إذ بلغ نحو 3907 مهاجرًا، يليه شهر أغسطس بـ3904 مهاجرين، ثم شهر سبتمبر (أيلول) بـ1655 مهاجرًا.
إحداثيات الكرب.. الأطفال والنساء يملأون زوارق الهجرة غير الشرعية
ورد في تقرير شهر أغسطس 2021 الصادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية «بنفس وتيرة شهر يوليو بلغ عدد الواصلين إلى السواحل الإيطالية نحو 3904 مهاجرين بزيادة تقدر بـ40% مقارنة بأغسطس 2020».
الهجرة غير الشرعية في تونس
وكشف التقرير أن عدد الواصلين إلى ایطالیا من شهر يناير إلى شهر نوفمبر من عام 2021 بلغ 10911 مهاجرًا أي بزيادة تقدر بـ%27 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2020، فيما بلغ عدد عمليات الاجتياز المحبطة خلال شھر أغسطس 2021 317 عملیة، أي بارتفاع يقدر بنسبة %38، كما بلغ عدد المھاجرین الذين جرى منع اجتیازھم 5582 مھاجرًا، أي بزيادة تتجاوز %70.
وفي سبتمبر 2021 صدر تقرير عن المنتدى التونسي أكد منع 3199 مھاجرا من الوصول إلى إيطاليا بزيادة 57% مقارنة مع سبتمبر 2020 كما جرى إحباط 308 عملية اجتياز الحدود بزيادة 81% في حين بلغ عدد الواصلين إلى السواحل الإیطالیة 1655 مهاجرًا.
ولم تختلف أرقام تقرير أكتوبر (تشرين الأول) 2021 عن الأشهر الثلاثة السابقة؛ إذ شھد وصول 1470 مھاجرًا تونسيا بزيادة تقدر بـ%13 مقارنة بأكتوبر 2020، وذكر التقرير أن السلطات التونسية تمكنت من إحباط 263 عملیات اجتیاز الحدود خلال أكتوبر 2021، أي بزيادة تقدر بـ%5.67 مقارنة بأكتوبر 2020، كما منعت 2739 مھاجرًا من الوصول إلى السواحل الإیطالیة بما یرفع عدد المهاجرین الذین جرى منعهم من اجتیاز السواحل التونسية منذ بداية السنة إلى 22147.
وضمن ظاهرة الهجرة غير الشرعية برز ارتفاع عدد الأطفال والنساء الذين خاضوا التجربة؛ إذ بلغ عدد الأطفال الذين اجتازوا الحدود البحرية خلسة، خلال ذروة عمليات الهجرة غير الشرعية من يوليو إلى نوفمبر 2021 نحو 1645 أطفال، بينما بلغ عدد النساء نحو 341 مرأة.
أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مهدي مبروك يقول لـ«ساسة بوست» إنه «يجب دراسة الهجرة غير الشرعية استنادًا على ثلاثة عوامل أساسية: وهي الجانب التنموي والجانب الديمغرافي والمسألة الديمقراطية».
وأضاف مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في حديثه لـ«ساسة بوست» أن تونس لم تشهد إثر انقلاب 25 يوليو أي تحسن في هذه المستويات الثلاثة بما يعزز عوامل «الطرد» والهجرة.
ظاهرة قديمة زادت الأزمة الاجتماعية في حدتها
أكد مهدي مبروك أن ظاهرة الهجرة غير الشرعية برزت تحديدًا في بداية تسعينات القرن العشرين، إثر انضمام إيطاليا إلى «فضاء شنجين»، وفرضها التأشيرة على المواطنين التونسيين، لتصبح الهجرة الشرعية أكثر صعوبة، وقد شهدت بلادنا موجات سابقة ارتبطت بظروف سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وأمنية استثنائية.
وأضاف أستاذ علم الاجتماع: «تعاني البلاد منذ أكثر من ثلاثة عقود من اختلال حاد فيما توفره سوق الشغل من فرص العمل، فالبطالة التي تلتهم عمر الشباب والتهميش المتواصل لهذه الشرائح يدفعانهم للبحث عن الهجرة بأي ثمن، ولو كانت مغامرة مميتة».
وتابع: «لا ننسى أن تونس تضم ما يناهز 800 ألف عاطل عن العمل ثلثهم خريج الجامعات، وعلينا أن نستحضر أيضًا أن الجامعة تدفع سنويًا بـ80 ألف شاب حامل ديبلوم جامعي، بينما لا يستوعب سوق الشغل سوى عشرهم، فضلًا عن أن 100 ألف تلميذ يغادرون المدرسة سنويًا دون أي تحصيل معرفي أو مهني»، موضحًا أن «هذه العوامل تشكل ضغطًا نحو الهجرة، وتدفع بعشرات الآلاف من الشباب الى البحث عن الفرص في أوروبا، خصوصًا في ظل غياب أي أفق للحل على المدى القريب».
وفي وقت سابق حذر رئيس الجمهورية قيس سعيد «من كل محاولات التوظيف السياسي لملف الهجرة غير الشرعية في هذا الظرف الدقيق من تاريخ البلاد»، وذلك في إشارة الى أن ما يحصل من تزايد في نسب ارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية.
وفي المقابل علّق منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في نشرة نوفمبر 2021 على حديث قيس سعيد بأن «خطاب الرئيس ظھر في شكل من يدين ھذه الظاھرة الاجتماعیة واعتبارھا شكلًا من أشكال التآمر ضده، والحال أن الهجرة غير الشرعية باتت طریقًا للباحثین عن آفاق اقتصادیة واجتماعیة سُّدت كل منافذھا في تونس».
وفي خضم هذا تعيش تونس على وقع أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة ارتفعت بموجبها نسبة البطالة وفقا لبيانات المعهد الوطني للإحصاء لتصل إلى 18.4% في الثلث الثالث لسنة 2021 بعد أن كانت 16.2% خلال الفترة نفسها من سنة 2020.
في نفس السياق يقول الإعلامي هشام الحاجي لـ«ساسة بوست»: «تنامي الهجرة غير الشرعية (والشرعية أيضًا) إلى تعمّق فشل النموذج التنموي المتبع في تونس منذ عقود والذي لم يشهد أدنى إصلاح ممكن خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما ساهم في تفاقم البطالة، والتشغيل الهش، والإحساس بفقدان المكانة».
وتابع: «حين نضيف إلى ذلك السياسات الأوروبية التي تفرض قيودًا من جانب واحد على تنقل الأفراد، واعتمادها على «الهجرة المنتقاة» يمكن أن نفهم أن الهجرة غير الشرعية أصبحت من نصيب من يفتقدون الكفاءة والتحصيل العلمي، وأن الهجرة المنظمة تستهدف الأدمغة، وهو ما يمثل نزيفًا بشريًا وماليًا كبيرًا لتونس».
أن تنفذ انقلابًا بلا رؤية.. هكذا عمّق قيس سعيد من أزمة الهجرة غير الشرعية
ورد في التقرير السنوي الخاص بسنة 2020 الصادر عن منتدى الحقوق الاقتصادية الاجتماعية حول الهجرة غير الشرعية في تونس «ترتبط ظاهرة الهجرة غير الشرعية بأسباب اقتصادية واجتماعية، ولكن ما يمكن ملاحظته أيضًا أنه كلما ازدادت الأزمات السياسية والاحتجاجات كلما ازدادت موجات الهجرة غير الشرعية.
عمق انقلاب قيس سعيد في 25 يوليو 2021 الأزمة السياسية في تونس وزاد من ضبابية المستقبل وانعدام اليقين السياسية بالنسبة لغالبية التونسيين، بعد أن شهدت البلاد انتكاسة في الديمقراطية.
الاضطراب السياسي في تونس عقب انقلاب قيس سعيد
يقول الكاتب صالح مطيراوي لـ«ساسة بوست» «بعد انقلاب قيس سعيد في 25 يوليو ازداد منسوب الانسداد، والقلق، والحيرة، بسبب غياب الرؤية والوضوح» معتبرًا أن «مرْكزة كل السلطات بيد فرد واحد خلق فراغًا في الدولة وجعل من المواطن غير قادر على تبليغ مشاكله للمسؤولين بعد تجميد صلاحيات أعضاء البرلمان وإعفاء عدد من الولاة» مضيفًا: «الخطابات المتشنجة والتشاؤمية من أعلى هرم في السلطة زادت في حجم اليأس والإحباط لدى المواطن التونسي».
ومن جانبه قال عبد الستار رجب أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية لـ«ساسة بوست»: إن «الأزمة السياسية الحاصلة في البلاد ساهمت بالضرورة في تنامي ظاهرة الهجرة بصفة عامة، ونعاين بفعل ذلك تزايد في عدد المهاجرين، بالنسبة إلى كلا صنفي الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية»، مضيفًا أن «تنامي الهجرة غير الشرعية مرده غياب إجراءات اقتصادية، واجتماعية، ومقاربة أمنية، معقولة للحد منها».
وبعد أن انتظر الكثير من التونسيين، من قيس سعيد أن ينجح في رفع منسوب الأمل لديهم ويعالج القضايا الاجتماعية والسياسية العالقة التي تتسبب في الهجرة غير الشرعية أو ما يسميها التونسيون «الحرقة» التي صارت ملاذًا لليائسين من الحياة في بلادهم، رغم ما تحصده من أرواح سنويا وما تسبب فيه من مخاطر، إلا أنه ووفق تصريح لأستاذ علم الاجتماع سامي نصر قد فوت قيس سعيد على هؤلاء وغيرهم فرصة استثمار الهبة والفرحة الشعبية التي رافقت إجراءات 25 يوليو كقوة دفع وبناء للدولة التونسية.
وبدوره يقول وزير الثقافة الأسبق مهدي مبروك لـ«ساسة بوست»: إن «البعض من الإعلاميين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي كانوا يقولون إن 25 يوليو سيفتح آفاقًا للشباب، وتضع حدًا لقوارب الموت، متهمين الحكومات السابقة بالتسبب فيها؛ لأنهم لا يعلمون أن للهجرة أحكامها، وهي ليست أحكام الدعاية السياسية».
وتابع أستاذ علم الاجتماع: «ما لم تحل قضايا البطالة والتنمية وتلاؤم سوق الشغل مع التكوين العلمي فضلًا عن المناخ السياسي العام، فلن يتغير شيء، ولن تختفي الهجرة غير الشرعية».
وعلى الرغم من تفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية المتفاقمة منذ الانقلاب الدستوري، والتي فاقمت بدورها من أزمة الهجرة غير الشرعية، فإن السلطات القائمة لم تتخذ أي إجراءات تحد منها، وحتى تشديد المراقبة الأمنية على الحدود البحرية في إطار الاتفاقيات المبرمة مع الجهات الإيطالية لم تستطع إيقاف المراكب المحملة باليائسين من الحياة بلا أفق.