شهدت السنوات الأخيرة موجة هجرة من بلدان الشرق الأوسط نحو أوروبا جراء الاضطرابات السياسية التي حلت بها وبسبب أوضاع الفقر والتخلف التي تعم المنطقة، ملايين المهاجرين من هناك وصلوا دول أوروبا، بينهم لاجئون يبحثون عن الأمن وطلاب دراسة وعمالة ومستثمرون وأيضًا مهاجرون سريون، وهناك المزيد من المهاجرين يومًا بعد يوم، ومن المرجح أن معظمهم لن يعود إلى الاستقرار في وطنه الأم. الأمر الذي يثير فضول التساؤل حول مستقبل المنطقة الأوروبية والشرق أوسطية سواء في ظل حركة الهجرة.
فكيف إذن يمكن أن تبدو تداعيات هذه الموجة من الهجرة مستقبلًا؟
دعونا نستدعي -كمحاولة للإجابة عن هذا السؤال- تاريخ حركة الهجرة في الستينات من القرن الماضي، حيث كانت حدود أوروبا مشرعة على مصراعيها وبدون قيود أمام شعوب المغرب العربي.
سياق الهجرة لشعوب إفريقيا نحو أوروبا
خرجت بلدان أوروبا من الحرب العالمية الثانية مدمرة بشكل شبه كامل، حيث خلفت تلك الحرب المجنونة 80 مليونًا من الضحايا القتلى والمعاقين، وقضت على 70% من البنية الصناعية للاقتصاد الأوروبي.
عادت أوروبا حينها لتعيد بناء اقتصاداتها ومجتمعاتها من جديد، ومع الوتيرة المتسارعة للنمو بعد سنوات معدودة فقط كانت في حاجة ماسة لليد العاملة لمواكبة توسع اقتصاداتها، ما جعلها تتوجه إلى بلدان أخرى لجلب العمالة، كانت تركيا ودول المغرب العربي الممثلة في المغرب والجزائر وتونس الوجهة الأولى لسياستها تلك.
في سنة 1963، عقد المغرب مع ألمانيا اتفاقية لتصدير العمال بموجبها، وفي نفس السنة أقر شراكة مع فرنسا، ثم مع بلجيكا عام 1964، وفي سنة 1969 مع هولندا، ونفس الشأن مع الجزائر حيث هاجرت أعداد هائلة من العمال نحو أوروبا.
شاهد هذا الفيديو النادر الذي يوثق الهجرة في تلك الفترة.
ولتنفيذ مقررات هذه الاتفاقيات تأسست مكاتب الهجرة بالمغرب، التي كانت تسهر على تسيير حركة الهجرة، وانتقاء العمال من أماكن الانطلاق.
معظم المهاجرين كانوا ينحدرون من منطقة الريف بالشمال الشرقي للمغرب، المنطقة التي كانت ترزح حينها تحت الفقر المدقع، علاوة على الاحتقان السياسي الذي كان يطبعها جراء الصراع السياسي الذي عرفه المغرب بعد الاستقلال، فارتأت الدولة حينها حل الهجرة كإستراتيجية لتنفيس التوتر بتلك المنطقة ولتحسين المستوى المعيشي لسكانها.
انتقل ملايين المهاجرين المغاربة والجزائريين والتونسيين طوال الستينات والسبعينات إلى فرنسا وهولندا وبلجيكا وألمانيا للعمل في المناجم والضيعات الفلاحية ومعامل السيارات وكذا البناء، كان معظمهم ينحدر من المناطق القروية.
تشير معطيات هجرة عمالة المغرب العربي نحو أوروبا عام 1974 إلى أن فرنسا استحوذت على الجزء الأكبر منها بنسبة 84%، ثم بلجيكا بنسبة 7%، وألمانيا 6%، و3% في هولندا.
تداعيات الهجرة على البلدان المصدرة والمستقبلة للمهاجرين
تعد ظاهرة الهجرة أحد العوامل التي تشكل المجتمعات والحضارات، تنشأ بسبب الحروب والكوارث والأزمات الاقتصادية، كما قد يتخذ البعض قرار الهجرة لدوافع ذاتية كالرغبة في الحصول على حياة الرفاه والحرية. وأيًّا كانت العوامل المسببة لها في كل حالة، فإن لها دائما تداعيات اقتصادية واجتماعية وثقافية على البلدان المستضيفة وبلدان الأصل سواء.
لم تكن السلطات الفرنسية تخطط لبقاء العمال الذين استجلبتهم من المناطق المغاربية، حيث كانت تعتقد أنه بعد نهاية عقد العمل سيغادرون إلى بلدانهم الأصلية، وهؤلاء أيضًا لم يكن همهم البقاء بقدر ما كان الهدف هو جمع النقود، إلا أنهم آثروا الاستقرار بعد أن وجدوا شروطًا أفضل للعيش، فحصل 200 ألف منهم على الجنسية الفرنسية سنة 1974.

جدول يبين أعداد المهاجرين من المغرب العربي في بلدان أوروبية معينة، في عام 1979
بدءًا من منتصف السبعينات من القرن العشرين اكتفت أوروبا من العمالة المهاجرة، وبدأت تفرض قيودًا على المهاجرين، وتضع إجراءات مشددة لمحابة الهجرة السرية، غير أن هذا الأمر لم يمنع استمرار حركة الهجرة من بلدان المغرب العربي إلى أراضيها طوال الثمانينات والتسعينات.
كان الجيل الأول من المهاجرين تغلب عليه الأمية والثقافة القروية، حيث كانت توكل إليهم مهام تعتمد على القوة وليست المهارة، ما جعلهم يعيشون في شبه تجمعات عمالية في معزل عن المجتمع الفرنسي وثقافته الحداثية، غير أنهم لم يكونوا يشكلون أي مشاكل لأوروبا رغم عدم اندماجهم.
لكن مع بداية القرن الجاري، أصبحت بعض البلدان الأوروبية تشتكي من موجة المهاجرين من الجيل الثاني، الذين كانوا أكثر تعلمًا ومهارة من الجيل الذي سبقهم بعدما حظوا بالدراسة في الجامعات الأوروبية، لكن بعضهم كانوا يحملون معهم أفكارًا “متشددة” تعادي الثقافة الليبرالية هناك، الأمر الذي أدى إلى وقوع أحداث “إرهابية” في بعض بلدان أوروبا، ساهم ذلك في تأجيج التوترات الاجتماعية بين المهاجرين المسلمين والمجتمعات الغربية، فأصبحت الهجرة مشكلة حقيقية بالنسبة لأوروبا تشدد في إجراءاتها عامًا بعد عام، بعدما كانت مرغوبة في بداية بناء اقتصاداتها.
أما بالنسبة لتأثيرات الهجرة على البلدان الأصلية، فقد مثلت التحويلات المالية للمهاجرين نحو أسرهم بدول المغرب العربي، موردًا أساسيًّا للعملة الصعبة لتلك البلدان، كما ساهمت في تخفيف الفقر بمناطق انطلاق المهاجرين.
مقارنة بين حركة الهجرة سابقًا وموجة الهجرة الحالية
عادة ما كانت شعوب بلدان الشرق الأوسط تتجه في هجرتها نحو بلدان الخليج من أجل العمل، بعكس الشعوب المغاربية التي ارتبطت هجرتها منذ بدايتها بأوروبا، بيد أنه في العقد الأخير صار المهاجرون المشارقة يغيرون الوجهة نحو البلدان الأوروبية، ومن المرتقب في السنوات القليلة القادمة أن تتضخم أعداد المهاجرين الكبيرة أصلًا في أوروبا، ولا سيما مع أزمة اللاجئين الحالية التي يبدو أنها لن تحل قريبًا.
وتختلف ظروف حركة الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية عن موجة الهجرة الجديدة، فالأولى كانت مطلوبة ومرغوبة لتعيد أوروبا بناء اقتصادها، على عكس ما هو الحال عليه الآن، حيث شروط الهجرة مشددة بالنسبة لغير اللاجئين.
كما أن الاضطرابات السياسية المتأججة التي تشهدها الدول العربية بالإضافة إلى انتشار الفقر، يشكل ذلك عامل طرد لمواطني المنطقة نحو عوالم أخرى تتوفر بها فرص أفضل للعيش.
تعبر في الواقع ظاهرة الهجرة المتزايدة عن مشكلة حقيقية تعانيها حكومات المنطقة، التي لم تستطع توفير مناخ ملائم للعيش لمواطنيها، كما تعبر عن الهوة الحضارية التي تزيد اتساعًا بين الشعوب العربية، ونظيرتها الغربية.
ستخلف بالتأكيد موجة الهجرة هذه مزيدًا من التوترات الاجتماعية والسياسية بأوروبا مستقبلًا، بسبب تباين الهوية الحضارية والثقافية والدينية بين المهاجرين المسلمين والمجتمعات الأوروبية الليبرالية، سيكون التحدي أمام تلك البلدان هو تطبيق سياسات ناجعة لإدماج المهاجرين مع السكان الأصليين وفق ثقافة تحترم حرية الآخر وتراعي الدستور، من أجل تجاوز، أو على الأقل تحجيم، أي توترات ثقافية أو اجتماعية قد تطرأ.