حين كانت الاشتراكية تحكم ثلث الكرة الأرضية لم يكن الفرد المستهلك يستطيع أن يمتلك أي شكل من أشكال الفاعلية بشكل مستقل عن الدولة؛ فالدولة هي المنتج والمستهلك – ولو بشكل وسيط – والمُصدِّر والمستورد الأوحد في الأنشطة الاقتصادية، وكان الاشتراكيون يقولون إن الفاعلية موجودة لديهم عن طريق تمثيل الدولة للمواطنين بمعنى مختلف عن الفاعلية بشكل مباشر في السوق بالمعسكر الاشتراكي.

و«الفاعلية» باختصار تعني قدرة الناس على اتخاذ قراراتهم، وتوافر الشرط فيهم لحيازة القوة على ذلك، وللتصرف بناء عليها في مختلف مناحي حياتهم، وقد تتفاوت هذه الفاعلية بين الناس، ليس فقط باعتبار اختلاف الدول التي يأتون منها، بل أيضًا باختلاف الطبقات التي ينتمون إليها في بلادهم، والأنظمة الاقتصادية المطبقة فيها. 

لكن بغض النظر عن طبيعة الفاعلية في المنظومة الاشتراكية التي تداعت منذ ثلاثة عقود، أو المنظومة الرأسمالية حاليًا، فعند امتلاك هذه الفاعلية المباشرة فإن تصرفات الناس وتفضيلاتهم؛ سواء كانوا مستثمرين أو مستهلكين يصبح لها أثر كبير ومهم جدًا في الاقتصاد، ومعها يصبح من الضروري فهم هذه التصرفات والتفضيلات، ومحاولة توقعها وفهم آثارها على غيرها، وتأثرها أيضًا بغيرها من العوامل، وأهم هذه الأمور هو توقعات الفاعلين في الاقتصاد. 

وقد حاول الاقتصاديون بالفعل القيام بمهمة رصد توقعات الفاعلين في الاقتصاد منذ زمن طويل، حتى أسس بعضهم لنظريات مستقلة لمحاولة فهم التوقعات الاقتصادية عند مختلف الفاعلين؛ من صناع القرار إلى المستثمرين والمستهلكين، وما يزال الموضوع قيد الدراسة والنقاش بينهم؛ وهو اليوم مهم جدًا في النقاش الاقتصادي المتعلق بالتضخم؛ والذي قد يكون اليوم أكثر الظواهر الاقتصادية أهميةً ومدعاةً للفهم والدراسة، فما أهم نظريات التوقعات الاقتصادية، وما أكثرها اتساقًا وجدوى في تفسير هذه الظاهرة؟ 

مختصر لابد عنه.. أبرز نظريات التوقعات الاقتصادية

انطلقت الإسهامات المهمة في التوقعات الاقتصادية مع الاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز، وتحديدًا في كتابه «النظرية العامة في التوظيف الفائدة والنقود»، والذي وصف فيه كينز أهمية أثر التوقعات على الاستثمار تحديدًا، ودور هذه التوقعات باعتبارها أداة نقل لأثر السياسة الاقتصادية في السوق؛ كما تشرح الباحثة في الاقتصاد ماجدالينا ميكواجيكفي ورقة عن أصول النظريات الاقتصادية فيما يتعلق بالتوقعات.

وفي النظرية الكينزية تلعب التوقعات الدور الأهم في تحديد حالة عدم اليقين في الاقتصاد على المدى القصير، والتقلبات في الدورة الاقتصادية، بينما لا تلعب نفس الدور على المدى البعيد، ولكن النظرية الكينزية رغم إعطائها هذه الأهمية للتوقعات في الاقتصاد بشكل مبكر؛ لم تستطع تطوير نظرية متكاملة للتوقعات، بل جعلتها جزءًا مهمًا للنظرية العامة في الاقتصاد. 

Embed from Getty Images

مواطنون يحاولون سحب مدخراتهم من البنوك اللبنانية

وكذلك كانت نظرية «التوقعات التكيفية Adaptive Expectations»، من أولى النظريات التي حاولت شرح تلك المسألة،  وطبقًا لهذه النظرية فإن توقعات الفاعلين الاقتصاديين عن التضخم تحديدًا تعتمد على التضخم الحالي، وتجاربهم مع التضخم السابق بشكل جزئي، وهذه التوقعات لا تتعدل حتى يتعدل التضخم في الحاضر. 

باختصار فإن توقعات الفاعلين الاقتصاديين عن التضخم في نظرية «التوقعات التكيفية» تفشل في توقع التضخم القادم قبل بدء حصوله، ولا تعدل توقعاتها المستقبلية حتى تبدأ في الإحساس بالتضخم في الوقت الحالي؛ ما يعني عدم تعديل التوقعات إلا بعد وقوع التضخم الذي يخشى منه الفاعلون أصلًا، وفي هذا النموذج يبقى الفاعلون الاقتصاديون على نفس تصرفاتهم حتى يتغير الواقع؛ بمعنى أن توقعاتهم لا تؤثر في الاقتصاد بشكل حاسم. 

وكانت هذه النماذج مرتبطة بالنظرية النقدية الداعية لتقليص تدخل الحكومة في الاقتصاد إلى أبعد حد، وذلك لأن التضخم الزائد عن الحد ينتج أصلًا بسبب سياسات البنك المركزي السيئة، والتي تُنتج التضخم؛ ليبدأ الفاعلون الاقتصاديون بالاستجابة للتغيّر بعد حصوله لا أكثر، حسب تلك النظرية. 

ولكن في الستينات طور الاقتصادي الأمريكي جون موث نظرية «التوقعات العقلانية Rational Expectations»، والتي أصبحت مشهورة لاحقًا، وتنص هذه النظرية على أن الفاعلين الاقتصاديين ليسوا مجرد متلقين للمعلومة، ولا أن توقعاتهم عن التضخم لاحقة لبدء حصوله، بل هم يتوقعون حصول التضخم بناء على معلوماتهم السابقة، بالإضافة إلى المعلومات الحالية، وبناء عليه يغيرون أنماط فعالياتهم الاقتصادية بشكل عقلاني. 

وبذلك تكون هذه التوقعات فاعلة في الاقتصاد ومؤثرة فيه، فتوقع حصول التضخم؛ أو تجاوز معدلاته لما هو متوقع يعني تغير أنماط الفاعلين الاقتصاديين في الحاضر، وهو ما يعني التأثير على معدلات التضخم المستقبلية بالفعل ، ومساهمة هذا التأثير في رفع معدلات التضخم المستقبلية عن المتوقع. 

وبناء على هذه النظرية فالفاعلون الاقتصاديون يتعلمون من أخطائهم السابقة؛ وبالتالي تفترض هذه النظرية أن توقعات الناس عقلانية؛ ومن ثمّ تكون صحيحة في معظم الأحيان، مع إمكانية الوقوع في الخطأ طبعًا؛ لكن بشكل غير متكرر، فالفاعلون الاقتصاديون سيعدلون من توقعاتهم، وطريقة بنائها، والأنماط المتبعة بناء عليها تبعًا لفهمهم لأخطائهم المرتكبة سابقًا، وكل هذا أيضًا مرتبط بنظرية أخرى هي «الخيار العقلاني».

فإذا كان الناس يستطيعون بناء توقعات عقلانية عن المستقبل؛ فإنهم أيضًا يتخذون «خيارًا عقلانيًا Rational Choice» بناءً على توقعاتهم، وهو ما يعني افتراض أن الفاعلين الاقتصاديين دائمًا ما يكونون أفرادًا أو جهات عاقلة، ولكننا نعلم أنه من المستحيل افتراض هذه العقلانية المطلقة، وأن عقلانية الفاعلين الاقتصاديين مقيدة بالمعلومات المتوافرة بين أيديهم وغيرها من العوامل.

ويبحث علم «الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics» في أنماط سلوك الأفراد في الاقتصاد، ويحاول تفسيرها وفهمها باستخدام علم النفس والعلوم السلوكية، وأحد مجالات بحث هذا العلم هو فهم لماذا يتخذ الفاعلون الاقتصاديون خيارات غير عقلانية أحيانًا، وكيف يمكن لهذه الخيارات أن تؤثر في مسار الاقتصاد، وسنحاول بعد هذا الاختصار، تطبيق هذه النظريات على الواقع؛ ومحاولة فهم أحداث حقيقية بناء على هذه النظريات، وتحديدًا في ظاهرة التضخم. 

هكذا تساهم التوقعات في زيادة التضخم

ضمن الظروف الطبيعية؛ أي عندما تكون معدلات التضخم مستقرة، بمعنى أن أسعار المنتجات ترتفع بالفعل، ولكن بمعدلات منطقية، بل جيدة للاقتصاد؛ يبقى الفاعلون الاقتصاديون على اتخاذهم لقرارات منطقية متناسبة مع الحالة التضخمية، وتحديدًا إذا ما انتفت إشارات ارتفاع معدلات التضخم في المستقبل القريب.

Embed from Getty Images

 لوحات صرف العملات في إسطنبول، تركيا 

ومن المهم جدًا للاقتصاد الحفاظ على معدل تضخم إيجابي، ويعتبر معدل 2% معدلًا صحيًا للاقتصاد؛ بدلًا عن معدلات تضخم مقتربة من الصفر، أو حتى سالبة، فأسعار المنتجات – وبالتالي التضخم – ترتفع بسبب ارتفاع الطلب، وهو ما يحصل بسبب ارتفاع القدرة الشرائية لدى المستهلكين، وينتج عنه ارتفاع مبيعات الشركات؛ والتي توظف بالتالي عمالًا أكثر، وترفع أجور عمالها؛ ما يعني دفعًا لعجلة الاقتصاد، وتحقيقًا لمعدلات نمو إيجابية. 

وهو ما يعني أن جميع الفاعلين سيستفيدون من ذلك؛ فالأجور والتوظيف يرتفعان بشكل لا يمثل عبئًا على الشركات؛ لأن الطلب أيضًا يرتفع بشكل متناسب، ويزيد من مبيعات هذه الشركات، وبالتالي أرباحها، ولكن ماذا لو تغير هذا الواقع لسبب ما، واتجهت معدلات التضخم للارتفاع بشكل كبير، أو أصبحت توقعات الفاعلين الاقتصاديين تصب في أن التضخم سيرتفع بشكل كبير؟  

وللتضخم عدة أنواع، أولها التضخم المسحوب بالطلب، كما سبق ذكره، والذي ينتُج عن ارتفاع القدرة الشرائية للمستهلكين؛ ما يعني ارتفاع استهلاكهم، وبالتالي ارتفاع أسعار المنتجات، وتوظيف عدد أكبر من العمال لملاقاة الطلب المرتفع، وهكذا دواليك، وهو جيد ما لم يرتفع الطلب عن حدود قدرة الشركات على رفع إنتاجها، فزيادة عدد الموظفين غير كاف في المدى القصير لرفع الإنتاج، إلا إلى حد صغير نسبيًا، وبعدها تحتاج الشركات إلى التوسع في بقية عناصر الإنتاج لمجاراة الطلب.

وهناك نوع آخر من التضخم متعلق بجانب العرض؛ فمثلًا عند ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج سترتفع أسعار السلع دون ارتفاع الطلب، وبالتالي يحصل التضخم دون أن يكون ذلك جيدًا للاقتصاد، ويمكن أخذ الحالة التركية مثالًا؛ ففيها يرتبط التضخم بانخفاض قيمة العملة؛ والذي يعني ارتفاع أسعار المستوردات، ولكون تركيا دولة تستورد أكثر مما تصدر، وتستورد كثيرًا من مدخلات إنتاج صادراتها – المواد الأولية بما في ذلك الطاقة والسلع الوسيطة المستخدمة لإنتاج الصادرات – فذلك يعني بالنسبة لتركيا ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير جدًا، حتى وصل إلى 80%، وهو أعلى معدل له في 24 عامًا، لكن ما دور التوقعات في كل ذلك؟ 

وبغض النظر عن السبب الأصلي لحصول التضخم؛ فإنه وحين انفلاته عن سيطرة الحكومة والبنوك المركزية؛ فإن ذلك قد يعني انفلات توقعات الفاعلين الاقتصاديين أيضًا، والتسبب بالتضخم من خلال نوع ثالث له علاقة بالتوقعات. 

فمن ناحية أولى هناك حالة أخرى يرتفع فيها الطلب رغم عدم كفاية القدرة الشرائية الحالية على تبرير الارتفاع، والسبب في ذلك توقع الفاعلين الاقتصاديين لارتفاع أسعار المنتجات مستقبلًا، وبالتالي فإن الخيار المنطقي هو شراء المنتجات قبل ارتفاع ثمنها؛ وتحديدًا «السلع المعمرة Durables»، وزيادة الطلب على السلع الممكن تخزينها دون الخوف من خرابها أو تحمل كلفة التخزين؛ أو تحمل كلفة تخزين أقل من التضخم المتوقع. 

أما الناحية الثانية، وهي الأسوأ أثرًا في الاقتصاد، فهي المطالبة برفع الأجور والرواتب، لتصبح كافية لسداد أثمان المنتجات التي ارتفعت أسعارها، والتي يتوقع الفاعلون الاقتصاديون استمرار ارتفاع سعرها أيضًا، ورفع الأجور يعني رفع كلف الإنتاج بالنسبة للشركات، وهو يعني ارتفاع احتمالية اضطرار الشركات لرفع أسعار منتجاتها لتغطية ارتفاع تكاليف الإنتاج؛ لا بسبب ارتفاع الأجور فحسب، بل أيضًا بسبب التضخم الذي سيرفع أسعار سلع أخرى وسيطة، أو أولية تستخدمها الشركات للإنتاج، ويصبح الأثر تصاعديًا أيضًا، حتى ينتهي الاقتصاد في أزمة تضخم منفلت محققة. 

وقد يكون لهذا دور في تفسير التضخم في تركيا، والذي حقق معدلات قياسية منذ 24 عامًا، فالحكومة التركية قررت رفع الحد الأدنى للأجور في يناير (كانون الثاني) 2022 بنسبة 50%، وهي نسبة ضخمة جدًا، وتعني التسبب برفع تكاليف الإنتاج على الشركات؛ في نفس الوقت الذي تعاني فيه هذه الشركات من ارتفاع أسعار المستوردات. 

والحكومة التركية حاليًا ترسل إشارات تظهر نيتها رفع الأجور مرة أخرى بنسبة 40%، وصحيح أن ذلك يعني تحسين معيشة المواطنين الأتراك، وتخفيض أثر التضخم على سحق قدرتهم الشرائية؛ لكنه أيضًا يعني رفع تكاليف الإنتاج؛ ما يعني الضغط على معدلات التضخم من جهة العرض، وبالتالي فقد يكون لهذه الزيادات أثر في رفع التضخم فوق أثر انخفاض العملة وارتفاع أسعار المستوردات. 

كما أن حالة عدم اليقين، وربما فقدان الثقة بالإجراءات الحكومية المانعة لحصول التضخم تعني تعميقا للأزمة الاقتصادية، خصوصًا من ناحية التوقعات؛ فإذا لم تكن الحكومة والبنك المركزي قادرين على ضبط هذه التوقعات بحيث لا تتجه نحو توقع ارتفاع التضخم وانخفاض العملة؛ فهذا يعني أن المواطنين قد يتجهون أكثر لبيع الليرة التركية؛ متسببين في زيادة عرضها وبالتالي انخفاض قيمتها ما ينتج عنه ارتفاع التضخم أكثر من ناحية، ومن ناحية أخرى المطالبة برفع الأجور أكثر، وهو ما يعمق الأزمة من ناحية العرض.

أما في حالة التضخم التي يمر بها العالم كله اليوم، ولم تسلم منه الدول المتقدمة؛ والتي سجلت معدلات تضخم غير مسبوقة منذ أربعة عقود، فقد تجاوزت 8% في الولايات المتحدة وأوروبا، ووصلت إلى 9% في المملكة المتحدة، فالأثر في هذه البلدان مشابه لما في تركيا بالمجمل، ولكن مع اختلاف السياق بشكل أو بآخر، بما يتعلق بدور البنوك المركزية في السيطرة على التضخم عن طريق السيطرة على التوقعات.

من توقع التضخم لاستهدافه.. هل لازلنا نثق في البنوك المركزية؟

للبنوك المركزية وظائف كثيرة تعمل على تحقيقها في الاقتصاد؛ وقد تختلف هذه الوظائف باختلاف تفضيلات البلد؛ فالبلدان التي تثبت سعر عملتها لعملة أخرى تفقد القدرة على استخدام أدوات السياسة النقدية؛ وتصبح فعليًا مستوردة لهذه السياسة، ومضطرة للإبقاء على أسعار فائدة ثابتة مقابل الدولة التي تثبت لها عملتها، أو محافظة على فرق ثابت مع هذه الدول، بحسب «النظرية الاقتصادية».

Embed from Getty Images

الفيدرالي الأمريكي

وتلعب أسعار الفائدة دورًا مهمًا في التحكم بالتضخم؛ فرفع سعر الفائدة يعني تقليل عرض النقود في الاقتصاد، وجعل الاستثمار والاستهلاك أصعب على الفاعلين الاقتصاديين، وبالتالي تخفيض الطلب ما يعني التحكم بمعدلات التضخم وتخفيضها، ويحدث العكس في حالة الركود التي يرغب فيها البنك المركزي برفع عرض النقود بهدف إحداث أثر عكسي. 

لكن في الدول المتقدمة ليس هناك تثبيت لسعر صرف العملة؛ وبالتالي بإمكان البنوك المركزية التحكم بأسعار الفائدة وتغييرها كما تريد، ولكن سعر الفائدة وحده قد لا يكون كافيًا لتأدية هذا الدور، لذلك جرى تبني نظام حديث في أغلب البنوك المركزية في الدول المتقدمة، يتعلق بسياسة «استهداف التضخم Inflation Targeting»، والذي لا ينتظر فيه البنك المركزي حصول التضخم للقيام برد فعل عليه.

بل يضع البنك المركزي منذ بداية العام معدل تضخم مُستهدف، ويعلن عن سياساته النقدية كافة، والتي تهدف إلى تحقيق هذا المعدل خلال العام، وهي سياسة تحاول كل من مصر وتركيا تطبيقها، لكنها لم تطبق بشكل كامل حتى الآن.

وبالتالي تتحكم البنوك المركزية، من خلال سياسة استهداف التضخم، في التوقعات، فالبنك يخبر الفاعلين الاقتصاديين بأنه سيضع ثقله كاملًا لتحقيق معدل ما، ولن يترك معدلات التضخم للتحرك بشكل منفلت، ويصبح هذا الوعد من البنك المركزي بمثابة النبوءة المُحققِة لذاتها؛ فمجرد تعهُّد البنك المركزي بنسبة تضخم ما ستعني أن الفاعلين الاقتصاديين سيضبطون تصرفاتهم بناءً عليها، وهذا يعني أن سلوكهم الاقتصادي سيساهم في تحقيق معدل التضخم المستهدف من جانب البنك المركزي. 

وتحتاج البنوك المركزية لتوافر شروط محددة من أجل التحكم في التضخم؛ كلها تصب في بناء ثقة عامة بالبنك المركزي في البلاد من طرف الفاعلين الاقتصاديين، بحيث يكون للهدف المراد تحقيقه ولتعهد البنك المركزي به مصداقية لدى الناس، ومعها معرفتهم بأن البنك المركزي سيُحاسب حال عدم تحقيق هذا المعدل ضمن ظروف غير استثنائية، وكل ذلك يساعد في التحكم بالتوقعات والسلوك الاقتصادي المبني عليها، ودون الحاجة للجوء للنموذج الاشتراكي – مثلًا – الذي يجعل الدولة المتحكم الوحيد أو الأكبر بالسلوك الاقتصادي.

فعلى سبيل المثال إذا كانت البنوك المركزية في الدول المتقدمة تتعهد بتحقيق معدل تضخم ما بداية العام، وهو عادة حوالي 2% كما تقدم، فإنها تستطيع التحكم بتوقعات الفاعلين طالما أثبتت البنوك المركزية قدرتها على الحفاظ على المعدلات المستهدفة، وبالتالي مصداقية عملها.

ولكن في الأزمة الحالية؛ فقد إصر الفيدرالي الأمريكي لشهور على كون التضخم «انتقاليًا Transitory» لا غير، واستمر في اتباع سياسة توسعية هدفت إلى تنشيط الاقتصاد للتخلص من آثار جائحة كورونا، ولكنها في النهاية أثبتت فشلها في معالجة التضخم، وظهر أن التضخم ليس انتقاليًا، وأن الاقتصاد لن يستطيع التخلص منه في وقت قريب.

ووجهت انتقادات كثيرة لهذا الوصف من جانب اقتصاديين وخبراء ماليين، ولكن الفيدرالي الأمريكي أصر على سياسته، ولم يبدأ بمحاربة التضخم إلا متأخرا بعد اكتشافه أنه التضخم الحاصل مشكلة حقيقية وليس وضعًا انتقاليًا فحسب، وسرعان ما بادر الفيدرالي بالبدء برفع أسعار فائدته لمجابهة خطر التضخم، فبدأ برفعها 0.25% أول مرة بداية العام، وهي النسبة التي يستخدمها الفيدرالي عادة، ويحاول عدم تجاوزها لتجنب المخاطرة بحصول تباطؤ أو انكماش اقتصادي.

العالم والاقتصاد

منذ سنتين
من الكساد الكبير إلى كورونا.. ما الدروس الاقتصادية التي علمها لنا التاريخ؟

لكن لاحقًا ومع تعمق أزمة التضخم بدأ الفيدرالي برفع أسعار الفائدة بنسب أكبر، مخاطرا بذلك بحصول الركود أو الانكماش، فاستخدم نسبة 0.5%، وقد كانت المرة الأولى لاستخدام هذه النسبة المرتفعة منذ عام 2000، ثم عاد ورفع سعر الفائدة بنسبة 0.75%، وهي الأعلى منذ عام 1994

ويمكن القول إنه في السابق كانت البنوك المركزية قادرة على التأثير في التوقعات الاقتصادية، وجعل السلوك الاقتصادي للفاعلين فيه ضمن المنطقي والمقبول، بل بما يدعم المستهدف فيها، ولكن من الواضح اليوم أن الثقة بقدرة البنوك المركزية على تحقيق ذلك اهتزت بشكل كبير، مع عدم قدرتها خلال الشهور الماضية على حل أزمة التضخم، بل استمراره في الصعود.

وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه فقد نشهد انفلاتًا في السلوك الاقتصادي بشكل كبير، حتى في الدول المتقدمة، وفشلًا ذريعًا في سياسة استهداف التضخم، والتي لم تحصل بطبيعة الحال ضمن وضع طبيعي، بل كانت ظروف جائحة كورونا والحرب الأوكرانية ظروفًا استثنائية لعبت دورًا مهمًا للوصول للوضع الحالي، ولكن مع ذلك هل يستطيع الفاعلون الاقتصاديون تحمل نسب لم يشهدها الاقتصاد منذ أربعة عقود، والإبقاء على الثقة في البنوك المركزية لمحاربة التضخم؟ أم أن توقعاتهم وسلوكهم الاقتصادي سينفلت مسببًا بذلك تعميقًا لمشكلة التضخم؟

وفي حال حصول ذلك – وهو أمر ممكن في ظل الوضع الحالي؛ فذلك سيكون مصداقًا لأثر التوقعات في الاقتصاد، بل قد يكون أحد مشاهد سلوك الفاعلين الاقتصاديين بعكس مصلحتهم النهائية، بحيث يتصرفون اقتصاديًا بما يسهم في رفع معدل التضخم، وبالتالي خفض قدرتهم الشرائية.

المصادر

تحميل المزيد