في الرابع من فبراير (شباط) الحالي، كانت إحدى نساء مخيم اليرموك (جنوب دمشق) تمرُّ على حاجز شارع الـ(15)، وعلى غير عادتها اختارت هذه المرة التمرُّد على التفتيش المستفزّ الذي تتمّ ممارسته بحقها من قبل «تنظيم الدولة» الذي يسيطر على المخيم، وردًا على ذلك اعتُقلت السيدة من قِبل ما تسمّى «الحِسبة النسائية» التابعة للتنظيم، فيما استمر باقي العناصر يستفزون ويضربون ويصادرون المواد الغذائية للمارين عبر هذا الحاجز.
«هم» هذه السيدة يحجب رؤيتها عن أنظارٍ عديدة تتَّجه نحو مخيمها المنكوب، فعلى أرضه يستعيد «تنظيم الدولة» عافيته المالية والعسكرية على أيدي «أمراء» جدد وصلوا برغبة النظام السوري، وسرعان ما بدأوا بشن هجومٍ مباغت ضد حليفهم السابق «هيئة تحرير الشام» بغية التخلُّص من الجهة الأقل قوة، ثمّ انتقالًا لقتال المعارضة التي يريد النظام التخلُّص منها لتأمين عاصمته بعد تفريغ الجنوب الدمشقي من تلك الجهات.
أمراء جدد لبناء «داعش» على أرض مخيم اليرموك
وصل ثلاثة أمراء من جنسيات مختلفة، إلى مخيم اليرموك في الثالث عشر من فبراير الحالي، قادمين من شمال وجنوب سوريا والعراق، مرورًا بحاجز بردى إلى الحجر الأسود جنوب دمشق، وتحدثت أنباء شبه مؤكدة عن عودة الأمير السابق للتنظيم ومؤسسه في الجنوب الدمشقي عبد الله طيّارة الملقب بـ«أبو صيّاح فرّامة»، حيث عادت عائلته مؤخرًا إلى مخيم اليرموك.

عناصر التنظيم في المخيم (المصدر: وكالة صفا).
يمكننا قراءة مهمة الأمراء الجدد في أنها تأتي لإعادة هيكلة التنظيم وتصحيح الأمور الناجمة عن تدهور الوضع الأمني بعد خروج العشرات من أمراء التنظيم وعناصره من المنطقة، فمباشرة، بدأ هؤلاء اجتماعات مكثّفة ثم انطلقوا لتسلُّم زمام الأمور في المخيم، تولي أحدهم منصب الأمير الشرعي للتنظيم، فيما تسلَّم آخر منصبًا عسكريًّا بارزًا، هؤلاء القادة الذين دخلوا بملايين الليرات السورية سارعوا لتوزيع مبالغ مالية على عناصر التنظيم الذين انقطعت رواتبهم منذ أكثر من ستّة أشهر، وكذلك سدَّدوا مبالغ مستحقة على عناصرهم، وقدموا الكفالات المخصَّصة لعوائل قتلى التنظيم والأيتام بعدما تسبب انعدام مصادر التمويل لدي التنظيم في قطع هذه الكفالات، ولم يكتفِ الأمراء الجدد بما سبق بل فتحوا باب التسجيل لتزويج الشباب الأعزب، وتزويج المتزوِّج من زوجةِ قتيلٍ سابق من عناصرهم، وذلك على نفقة المكتب المالي للتنظيم بشكلٍ كامل، وكذلك قاموا بتفعيل مشاريع إطعام الفقراء والمحتاجين وأعلنوا عن بدء التحضير لتجهيز مستشفى ميداني مع وصول أطباء أجانب إلى المنطقة.
وعلى صعيد القتال مع جبهة تحرير الشام (النصرة سابقًا) – سيأتي لاحقًا الحديث عنه -، قام الأمراء الجدد بزيارة نقاط التماس على الجبهات بغية تعزيز تلك النقاط بعد فتح مستودعات السلاح وحشد بعض القوات على جبهة مع الهيئة التي يحاصرها التنظيم غربي مخيم اليرموك، ويشكِّل مجموع التحرُّكات تلك بعد دحر التنظيم من مناطق عدة بسوريا دليلًا على رغبة التنظيم في بناء نفسه من جديد على أرض مخيم اليرموك، حيث يقرأ المحللون تحرُّكات (داعش) كمحاولة لاستعادة عافيته المالية والعسكرية، وهي استعادة تصب الآن في صالح النظام السوري، إذ تدعم استعادة التنظيم لقوته محاربته لفصائل المعارضة في البلدات الثلاث المجاورة (يلدا، ببيلا، بيت سحم) دون تدخل عسكري مباشر من جيش النظام وميليشياته.
النظام يريد اليرموك لـ«تأمين العاصمة»
في مايو (أيار) عام 2017، تحدثت مصادر سورية عن وجود اتفاق يشمل أحياء دمشق الجنوبية؛ مخيم اليرموك والتضامن والقدم والعسالي والحجر الأسود، وبلدات يلدا وبيبيلا وبيت سحم، ويقضى بتطبيق الاتفاقيات القديمة التي نصت على خروج تنظيم الدولة من مناطق سيطرته جنوبي دمشق، وكذلك إخلاء هيئة تحرير الشام لمواقعهم شمال غربي مخيم اليرموك، والتوجه نحو محافظة إدلب، وذلك ضمن اتفاق «المدن الأربع».

ميليشيات عراقية تصل إلى دمشق لمساندة نظام الأسد (المصدر: موقع سورية نت).
ويعنى النظام السوري الآن أكثر بإخلاء تنظيم الدولة وجبهة تحرير الشام من الأحياء الجنوبية لدمشق، إذ بعد انتهاء ذريعة «محاربة الإرهاب»، تُوضع المنطقة أمام امتحان تفريغها بشكلٍ كامل من أي تواجد مسلح أو معارض للنظام وحلفائه، ولذلك أعلنت مؤخرًا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة الموالية للنظام والتي تشارك في حصار اليرموك أنّ: «هناك مساعيَ تجري بهدوء وصمت لإنهاء وجود تنظيم داعش الإرهابي في جنوب دمشق»، حيث يؤكد المتابعون أن إخلاء أحياء دمشق الجنوبية؛ يضمن للنظام تأمين العاصمة ومحيطها بشكل كامل، وسيطرة النظام على المخيم تضمن للنظام عاملًا مهمًا في معركته مع المعارضة، حيث يمكنه ذلك من شن هجوم واسع على مناطق سيطرة المعارضة في محافظة درعا، وبالتالي بإمكانه فك الحصار عن قوات النظام والميليشيات الداعمة لها، فتأمين دمشق يتيح شن هجوم دون خوف من تقدم مقاتلي المعارضة إلى مساحات جديدة في العاصمة.
وفي المحصلة، يفضل النظام وجود «تنظيم الدولة» على توسُّع فصائل المعارضة مزيدًا من الكيلومترات في عمق دمشق وقد يكون ذلك مبررًا وراء تعثُّر الوصول لاتفاق مع «تنظيم الدولة» حتى الآن، إذ يرى النظام أن أولوية صراعه الفعلي هو مع المعارضة، فمنذ سيطر تنظيم الدولة في أواخر عام 2014 على أجزاء واسعة من الجنوب الدمشقي، وبسط سيطرته على أحياء الحجر الأسود والتضامن والعسالي، وكذلك سيطر على أجزاء كبيرة من مخيم اليرموك، وتلك الجبهة توصف بأنها «باردة» بين التنظيم والنظام السوري.
الجدير ذكره أن المخيم يخضع لسيطرة كل من قوات النظام والفصائل الفلسطينية الموالية له، حيث تسيطر على مساحة 30% تقريبًا من المخيم مقابل 50% تحت سيطرة تنظيم الدولة والفصائل المبايعة له و20% لهيئة تحرير الشام.
استئصال الهيئة ثم قتال المعارضة.. هكذا يخطط النظام مع «داعش»
تمكّن «تنظيم الدولة» في شهر أبريل (نيسان) 2015، من السيطرة على مخيم اليرموك، ساعده على ذلك «هيئة تحرير الشام» التي كانت تُعرف حينها بـ«جبهة النصرة»، والتي كانت حليفه قبل أن يفترقا، ويصل العداء حدَّ وقوع اشتباكاتٍ عدة بينهما.
آخر هذه الاشتباكات كان منتصف فبراير الحالي، حين شنّ «تنظيم الدولة» هجومًا عنيفًا على مواقع الهيئة في مخيم اليرموك في دمشق، ووصف تقرير «مجموعة العمل لأجل فلسطينيي سوريا» هذه الاشتباكات بالعنيفة، إذ باغت «تنظيم الدولة» عناصر «هيئة تحرير الشام» بالهجوم المفاجئ على مواقعها في محور شارع حيفا مستخدمًا جرَّافة مصفَّحة ومتفجرات شديدة الانفجار، مما أجبر عناصر تحرير الشام على الانسحاب من مواقعهم.
وقد حدث هذا الهجوم بعد وصول قيادات أجنبية بتسهيلٍ من النِّظام السوري إلى مخيم اليرموك كما أسلفنا، وتدلِّل تحركات الأمراء الجدد على أنّ التنظيم يحضّر لعمل عسكري ضد الهيئة والمعارضة السورية المسلحة في بلدات جنوب دمشق، وهو ما يضع الجنوب الدمشقي أمام عدة سيناريوهات، تبدأ بهجوم «تنظيم الدولة» على «هيئة تحرير الشام» لاستئصالها من المنطقة، فهي الأقل قوة، ثم يأتي الدور بعد ذلك على فصائل المعارضة المسلحة في البلدات الثلاث المجاورة؛ يلدا، ببيلا، بيت سحم، ليتيح ذلك لاحقًا التوسيع في مناطق سيطرة التنظيم الذي يعمل بدعمٍ كامل مع النظام، حيث يفضل النظام إنهاء الأوضاع في تلك المنطقة لصالحه ودون تدخل عسكري مُباشر منه.
إعدامات في «ساحة الشجرة» وحرمان من الطعام والدواء!
يوصف الآن أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في سوريا، بـ«المنطقة المنكوبة»، إذ تشارك في حصاره الميليشيات الفلسطينية التابعة لـ«الجبهة الشعبية – القيادة العامة» من الجهتين الشمالية والشرقية، وهي ميليشيا موالية للنظام السوري، فيما يحاصره من الجنوب تنظيم الدولة، ويفاقم غياب أي دور للمؤسسات الفلسطينية الرسمية والفصائلية، معاناة 3 آلاف فلسطيني متواجدين الآن في المخيم، وأكثر من 10 آلاف لاجئ فلسطيني من سكان مخيم اليرموك انتقلوا للسكن في مناطق ببيلا ويلدا وبيت سحم في الجنوب الدمشقي.

سكان اليرموك خلال تلقي المساعدات الغذائية (المصدر: أ ف).
وفيما يستمر الحصار المشدَّد، لا يُكف عن تداول أخبار يومية تُظهر مدى توحُّش التنظيم في التعامل مع السكان، كونه يعتبرهم مرتدّين، وزنادقة وفاسقين، الأمر الذي يؤدِّي إلى وقوع العديد من عمليات الإعدام رميًا بالرصاص في المنطقة في ساحة بلدة الشجرة، تحت ذريعة تأييد «الجيش السوري الحر»، أو «جبهة النصرة»، وهي تُهم قد تأتي على خلفية تفتيش أجهزة الهواتف ووجود صور ومحادثات تظهر التعاطف مع الجيش الحر، لكن إعدام التنظيم قبل أسبوعين لأربعة شباب من سكان المخيم، يظهر أن تهمة أحدهم هي القيام بتهريب بعض الأثاث البسيط من منزله من المخيم إلى بلدة يلدا، حيث كان يريد الانتقال للعيش خارج المخيم، الأمر الذي يمنعه التنظيم، فيما يحلِّل نهب المحال التجارية أو المنازل لمن خرج من المخيم إلى مناطق سيطرة المعارضة تحت حجة «الرحيل إلى بلاد الكفر والردة، ومغادرة ديار المسلمين».
ويزيد تضيق التنظيم على المخيم وأكثر من 15 بلدة في المنطقة، حيث يمنع خروج النساء والأطفال من المخيم لاستخدامهم دروعًا بشرية في حال حصلت عملية عسكرية، فيما يُسمح للشباب بالذهاب إلى المناطق الأخرى لجلب المواد الغذائية والأدوية، ولكن بعد تقديم ضمانات للعودة.
ويعدُّ الوضع الصحي في المخيم كارثيًا لأقصى حد، إذ تسبَّب الحصار بخروج جميع المستشفيات عن الخدمة بشكلٍ شبه كامل؛ فخرجت مستشفى فلسطين والباسل الرئيسيتان عن الخدمة، واستولى التنظيم على كافة النقاط الطبية وحوَّلها إلى نقاطٍ عسكرية له، وأجبر المريض في اليرموك على البحث عن موافقة أمنية تمنحها «منظمة التحرير الفلسطينية» بعد موافقة الأجهزة الأمنية السورية للخروج للعلاج، ويستغرق الحصول عليها أكثر من 15 يومًا، الأمر الذي تسبَّب بوفاة العديد من الأطفال والرُّضع وكبار السن، وقد توقَّف منح تلك الموافقات بنهاية عام 2017، وهو الأمر الذي أخرج استغاثات من سكان المخيم مع بدء هذا العام، مطالبين بفتح ممرٍّ إنسانيٍّ عاجل لإخراج الحالات الإسعافية والمرضية من جنوب دمشق، أسوةً ببقية المناطق المجاورة، وفيما يعاني اللاجئون الفلسطينيون من صعوباتٍ جمَّة، يتمتَّع عناصر «تنظيم الدولة» بكافة وسائل العلاج من دواء وتطبيب، وقد أكدت عدة مصادر على تلقيهم العلاج في مشافي النظام السوري بحي الميدان حيث يصلون إليه عبر حاجز القدم (العسالي).