كثيرًا ما نسمع عن الفوائد التي قد تقدمها القراءة للمخ، وفي عام 2015 نشرت دراسة بعنوان “Reading skill and structural brain development” أو «القراءة والنمو البنيوي للمخ» وأشارت تلك الدراسة إلى أن القراءة لها دور كبير في نمو حجم المخ، مما ظهر من مهارات على المشاركين في الدراسة، ولكن بسبب نقص البيانات المتاحة للمسح الضوئي للمخ؛ لم يستطع العلماء في هذه الدراسة رصد المنطقة التي تساعد القراءة على نموها، ولكن منذ أيام قليلة استطاع العلماء جمع بيانات هي الأولى من نوعها عن المخ البشري، والذي سيكون من شأنها تقديم الإجابات التي عجز الطب عن تقدميها في الماضي.
في هذا التقرير نحدثكم عن دراسة أكدت أن مخ الإنسان يمكن أن يتحرك في اتجاهين أيًا كان عمر الإنسان، فيمكن لطفل أن يتقلص مخه، بينما يمكن لشاب أن يكبر مخه، وهذا على حسب ما يتعرض له وما يمارسه يوميًا في حياته.
دراسة جديدة تُذهل الوسط الطبي
تخيل أن جمجمة الإنسان هي غرفة التحكم التي تخص الجسم كله، وداخل تلك الجمجمة العضو الذي يدير غرفة التحكم، والذي بدوره يدير كل عملية أو حركة أو حتى رمشة عين تحدث في الجسم؛ هذا العضو هو المخ، وقد تظن أنه مع تطور العلم والتكنولوجيا الحديثة المسخرة للأطباء؛ استطاع البشر أن يكتشفوا جميع أسرار المخ، ولكن هذا ليس حقيقيًّا.
«إنه لأمر مخيف ومروع قلة المعلومات البيولوجية التي يمتلكها الأطباء عن هذا العضو المهم» تصريح حديث يخص الدراسة لعالم الأعصاب جاكوب سيدليتز أستاذ علم الأعصاب بجامعة بنسلفانيا، ولذلك لا يزال مخ الإنسان يحمل ألغازًا يحاول البشر فهمها وفكها.
نُشرت دراسة منذ أيام قليلة تحت عنوان “Your brain expands and shrinks over time — these charts show how” أو «يمكن للعقل أن يتوسع أو ينكمش بمرور الوقت» وقدمت تلك الدراسة بعض الأجوبة المهمة فيما يخص حجم المخ وعلاقة الحجم بقدرته على إتمام مهامه بشكل لائق.
استعانت تلك الدراسة بما يزيد عن 12 ألف مسح ضوئي للمخ لأكثر من 101457 شخصًا مختلفين في الأعمار والأجناس من أنحاء العالم، وهي أكبر مجموعة من نوعها تستخدم في دراسة علمية بغرض إنشاء أول مخططات شاملة لرصد عملية نمو المخ أو انكماشه.
وتضمنت عمليات المسح أشخاصًا مصابين بمجموعة متنوعة من الحالات الطبية التي تخص المخ مثل مرض الزهايمر، والاختلافات المعرفية العصبية، والتوحد. هذا الكم من البيانات أذهل علماء الأعصاب، وصرحت أنجيلا لايرد عالمة الأعصاب بجامعة فلوريدا الدولية قائلة إن «مجموعة البيانات التي جمعها الباحثون في هذه الدراسة تعتبر مثيرة للإعجاب للغاية وتضع معيارًا جديدًا كليًا لهذا المجال-دراسة مخ الإنسان».
ورغم الانبهار الذي صاحب ظهور هذه النتائج، فإن الباحثين الذين كتبوا الدراسة يؤكدون أن تلك المخططات التي ترصد عمليات نمو وانكماش المخ هي مجرد مسودة أولى يأملون إلى تطويرها بشكل أكبر، ولكن تلك الدراسة ألقت الضوء على أهمية وعي الإنسان بقدرته على «تكبير مخه» حرفيًا؛ فكيف يمكن للإنسان أن يفعل ذلك؟ وهل يكن للعقل أن «يكبر» بالتمرين مثل العضلات؟
«المشي وحجم المخ»
في العام 2014 نشرت دراسة تحت عنوان “You can grow your brain like muscle” أو «أنت في إمكانك أن تساعد عقلك على النمو في الحجم مثل العضلات» ووضحت هذه الدراسة أن الفكرة الشائعة عن أن الشخص يولد ذكيًّا أو غبيًّا ويظل على هذه الشاكلة طوال حياته؛ هي فكرة غير صحيحة، وأثبتت تلك الدراسة أن مخ الإنسان مثله مثل عضلات الجسم، ويمكن للإنسان أن يعمل على تنميتها وتكبيرها حرفيًا في الحجم ليكون المخ أقوى وأكثر ذكاءً.
دراسة أخرى نشرت بالعام 2011 تحت عنوان “Exercise training increases size of hippocampus and improves memory” أو«التمرينات تزيد من حجم الحصين في المخ وتحسن الذاكرة»، وقد أثبتت هذه الدراسة أن البالغين الذين يمشون لمدة 40 دقيقة ثلاث مرات في الأسبوع لمدة عام؛ أظهرت المسوح الضوئية الخاصة بأمخاخهم زيادة في حجم نمو منطقة «الحصين/ hippocampus» والحصين أو قرن آمون – كما يُطلق عليه الأطباء بالعربية- هو جزء معقد من المخ، ويعتبر من أكثر الأجزاء في الدماغ التي تمت دراستها ومعروف لدى العلماء منذ أكثر من أربعة قرون.
ويوجد الحصين داخل أحد أقسام الدماغ ويسمى بالفص الصدغي “Temporal Lobe”، وهذا الجزء المعقد من المخ المسمى بالحصين يلعب دورًا أساسيًّا في التعلم والذاكرة، وعلى الرغم من ذلك يتميز بكونه هشًا ويمكن أن يتعرض للضرر بسبب مجموعة مختلفة من المؤثرات، كما أن تعرضه للضرر ينشأ عنه مجموعة مختلفة من الاضطرابات العصبية والنفسية، وقد يتسبب ضعف هذا الجزء بإصابة الإنسان بأمراض مثل الزهايمر، والاكتئاب، والانفصام، وداء الصرع، وارتفاع ضغط الدم.
مع تقدم عمر الإنسان يتقلص الحصين خاصةً في أواخر مرحلة البلوغ، مما يؤدي إلى ضعف الذاكرة وزيادة خطر الإصابة بالخرف، ولذلك بعد إثبات الدراسة التي تحدثنا عنها في بداية التقرير، والتي أكدت أن نمو مخ الإنسان لا يسير في تجاه واحد وهو التقلص، بل يمكن تنميته، ففيما يخص منطقة الحصين، قد أشارت تلك الدراسة بوضوح أن المجهود البدني ثلاث مرات في الأسبوع لمدة 40 دقيقة قادر على تكبير حجم هذا الجزء حرفيًا.
الأحاجي.. صالة رياضية للمخ
إذا كان مخك عبارة عن عضلة مثل الموجودة في ذراعك، والتي يرفع البعض الأثقال لتقويتها وتكبيرها في الحجم، فيمكنك تتخيل أن الأحاجي هي تلك الأثقال والأوزان التي يمكن للمخ من خلالها أن ينمو ويكبر.
في دراسة نشرت بالعام 2014 تحت عنوان “Your Brain is Like a Muscle: Use it and Make it Strong” أو «مخك مثل العضلة: استعمله واعمل على تقويته» في هذه الدراسة قام الباحثون بمراقبة المخ في أوقات سكون الفرد أو أوقات تفكيره العادية في تفاصيل اليوم، ومراقبته أثناء حل الشخص المشارك في التجربة للأحاجي والألغاز، وما أظهرته تلك الدراسة أن مخ الإنسان لديه قدرة «مذهلة» على التغيير والتكيف والتقوية وهذا ليس في السن الصغير فقط كما يظن ولكن في العمر المتقدم أيضًا.
أثبتت تلك الدراسة أن ممارسة الأحاجي يوميًا لمدة ثلاثة أشهر؛ كان له دور كبير في نمو وتطور المادة البيضاء في المخ وقد شبه العلماء القائمون على الدراسة التغير الذي حدث للمادة البيضاء، بأن المادة البيضاء في الوضع الطبيعي للإنسان تكون مثل الطريق الذي به الكثير من «المطبات» والعقبات، ولكن بعد إجراء تجربة الأحاجي لمدة ثلاثة شهور، أصبحت المادة البيضاء مثل الطريق السريع الذي يسمح للسيارات بأن تسير بشكل أسرع، والسيارات في هذا المثال ترمز إلى المعلومات التي تنتقل من مناطق المخ المختلفة، والتي تمنح الإنسان القدرة على ربطها بعضها ببعض والوصول إلى نتيجة تحل المشكلة أو الموقف الذي يواجه الإنسان، كما يكون المخ فعالًا أكثر في هذه الحالة لتعلم اللغات الجديدة والتكفير المنطقي.
المشي والقراءة وحل الأحاجي، هي من الأشياء التي استطاع العلم قبل تلك الدراسة الحديثة أن يثبت قدرتها على التأثير البنيوي في المخ، ولكن بعد نشر هذه الدراسة، سيكون أمامنا أبواب عديدة لتفتح لنعرف ما نتعرض له يوميًا وما تأثيره في عقلنا، وهل وظيفتنا تؤثر في حجم المخ سلبًا أو إيجابًا، فمع كمية المعلومات التي جمعها العلماء في تلك الدراسة، يتوقع الوسط العلمي أن تفريغ هذه البيانات ومقارنتها ودراستها قد يمنح البشر فهمًا غير مسبوق لما يؤثر في تصغير حجم مخ الإنسان وتكبيره.