«ليس هناك شخص في الهند لم يتعامل بالمال غير المشروع. لقد أنشأنا بيئة أجبرت الجميع أن يكون فاسدًا». – المحلل الاقتصادي «سورجيت بهالا».
صدمة اقتصادية كبيرة قررت الهند أن تعيشها في الفترة الأخيرة، في الوقت الذي يحقق فيه اقتصادها معدلات نمو قياسية هي الأسرع في العالم، فقد قررت الحكومة أن تعيش البلاد في زلزال اقتصادي رأت أنه لا غنى عنه، لاستكمال مسيرة التقدم.
هذه الخطوات المقصود منها أن تكون هزة وزلزالًا للمجتمع الهندي، إذا أردت أن تكون لاعبًا أساسيًا في الساحة الاقتصادية العالمية، فعليك أن تتخذ خطوات صادمة، وإلا فلن تصل أبدًا للتميز، هكذا عبر «سوابان داسجوبتا»، عضو مجلس الشيوخ في الهند المقرب من الحزب الحاكم، على فلسفة تلك القرارات الصادمة برمتها.
الخطوات الصادمة التي اتخذتها الهند، في نظر السياسيين المؤيدين للحزب الحاكم هناك، هي ضرورية لمواجهة نمط الحياة السائد عند الأثرياء والشركات، المتعلق بالفساد والتهرب الضريبي، وهي في نظرهم خطوة جريئة من حكومة يعد أنصارها الأساسيون شركات التجزئة والجملة.
القرارات الاقتصادية الجريئة، والتي كان آخرها إلغاء فئات نقدية واستبدالها، من المنتظر أن تخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي المنتظر، بمقدار 1%، ومن المنتظر أيضًا أن تلقي بظلال سلبية قصيرة المدى على الاقتصاد الهندي المنتعش.
ربما المثير في مغامرة الهند الاقتصادية، أن قرارًا مثل إلغاء فئات من العملة واستبدالها، لم تشهده بلاد منتعشة اقتصاديًا في السابق على الإطلاق، وإنما كان مألوفَا بالنسبة للاقتصادات المنهارة، مثل الاتحاد السوفيتي قبيل تفككه، وألمانيا بعد الحرب العالمية، ولم تكن التوقعات تسير في اتجاه أن تتخذ الهند خطواتها بهذه الراديكالية.
علمًا بأن «كينيث روجوف»، أستاذ السياسة العامة والاقتصاد، قد دعا في وقت سابق الاقتصادات المتقدمة، إلى التخلص من الفئات النقدية ذات القيمة العالية لمكافحة الجرائم الاقتصادية.
دوافع الهند لاتخاذ قرار العلاج بالصدمة
استهلت الهند تجربتها الجريئة بالرقابة الدقيقة على المدفوعات النقدية الكبيرة، وقد دفع بهذه التجربة برمتها رئيس الوزراء الهندي، «ناريندرا مودي»؛ مستهدفًا في تجربته القضاء على الأموال المكتسبة من خلال أنشطة غير مشروعة.
نسبة الضرائب في الهند بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي تبلغ 16.6%، وهي نسبة تقل عن الطبيعي بحوالي 5.4%، فمن بين أصحاب الدخول في الهند يوجد 5.5% فقط يدفعون ضرائب الدخل، في حين تظل 85% من المعاملات الاقتصادية خارجة عن شبكة الضرائب، ويستهدف رئيس الوزراء الهندي، من خلال صدمته، أن يحدث انقباض نقدي يجبر العديد من الشركات على الشروع في استخدام المصارف، بحيث يمكن رصد دخلها.
وبحسب رئيس الوزراء، مودي، فإنه في حال اكتُشفت تلك الأموال المخفية عمدًا، ستبدأ عملية فحص المتهربين، من الضرائب بأثر رجعي، وصولًا إلى زمن الاستقلال عام 1947، وأكد أنه لو لزم الأمر سيستأجر متخصصين لحملته التطهيرية.
يدرك مودي آثار الصدمة على المواطن الهندي، في ظل المرحلة الانتقالية للسلسلة الحديثة من أوراق «البنكنوت»، لكنه في نفس الوقت يعبر عن ثقته من أن المواطن الهندي سيدعمه فيما يعتبره حرب لتخليص الهند من فقرها المزمن.
على جانب آخر لا تبدو أن دوافع الهند لتلك القرارات كانت اقتصادية فقط، فهي في جزء منها، تبدو كحرب على تمويل الميليشيات التي تحارب القوات الهندية، بعد ظهور أوراق بحثية تحدثت عن اعتماد تلك الميليشيات على فئات مزيفة من عملة الـ500 روبية.
أضواء على التجربة
في البداية، ومع أول هذا العام، بدأت الهند مشوارها، بإجبار شركات التجزئة التي تتلقى أكثر من 200 ألف روبية، أي ما يعادل أكثر من ثلاثة آلاف دولار، من أي عميل، أن تقدم تقريرًا بتفاصيل البيع، ورقم الهوية الضريبية الخاص بالمشتري، إلى السلطات الضريبية الهندية.
وبحلول الأسبوع الماضي، حظرت الهند، بشكل غير متوقع، فئات 500 روبية وألف روبية؛ من أجل التطهير كمما سبق وذكرنا.
الفئات التي تم حظرها، تقدر بأكثر من 220 مليار دولار، وهي تمثل بذلك 86% من السيولة النقدية المتداولة في الهند، وباتخاذ قرار الحظر صارت تلك الفئات غير قانونية، ولا يمكن استخدامها في أي معاملات، إلا ما يتعلق بشراء الوقود من محطات الوقود المملوكة للدولة، والمستشفيات الحكومية، ويمكن أن تودع هذه الفئات في حسابات مصرفية أو يتم استبدالها بكميات صغيرة للحصول على العملة الجديدة، وذلك حتى 30 ديسمبر (كانون الأول) القادم فقط، مع إبلاغ مسؤولي ضريبة الدخل، عن أي إيداع بأكثر من ربع مليون روبية.
جاء قرار الهند غير المتوقع، مع بداية انطلاق موسم الزواج في البلاد؛ ما أثر بالسلب عليه، فالأسواق شبه مهجورة هناك، بينما يوجد طوفان من الهنود على أجهزة الصرف الآلي.
جدير بالذكر أن نسبة تداول النقد في الهند هي 14% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك مقابل أقل من 5% في النظم الاقتصادية الكبرى، و80% من المعاملات الاقتصادية في الهند تتم بالتعامل النقدي، وهو ما يعني تعثر الكثير من تلك المعاملات في الوقت الحالي.
الأغنياء الخائفون
«أعلم أن القوى ضدي. ربما لن يدعوني أعيش، ويمكن أن يدمروني؛ لأن غنائمهم التي جمعوها على مدى 70 عامًا الآن في ورطة»، قال رئيس الوزراء الهندي، «ناريندرا مودي».
كان تأثير المغامرة الاقتصادية الهندية فوريًا على «باشو سابو» مالك شركة «إيثوس» للساعات، الذي أخبر «الفاينانشيال تايمز»، بأن المبيعات في شركته انخفضت بنسبة 60%، حيث كانت 45% من مبيعات شركته قبل العلاج بالصدمة، تتمثل في الساعات السويسرية، التي يشتريها الأثرياء من أصحاب الحقائب المليئة بالنقود. يقول سابو: إن الأثرياء خائفون من شراء منتجات بأثمان باهظة؛ قد تعرضهم للمساءلة من قبل الدوائر الضريبية، للاستفسار عن مصدر النقود.
وفي الواقع حذر العديد من الاقتصاديين من الحرب الشاملة على تصريف الأعمال، مؤكدين أن هذا يستبطن مخاطرة سياسية كبرى؛ لأن المتضرر الأكبر مما يحدث هم التجار، وهم القاعدة الأساسية في السياسة الهندية، ولا يرون على الأرجح أن تلك الحرب على الفساد مشروعة؛ لأنهم يتعاملون على هذا النحو منذ أجيال.
على جانب آخر، يمتلك «راجورام راجان»، محافظ البنك الاحتياطي الهندي الراحل، وجهة نظر فريدة بخصوص الأمر: فهو يرفض فكرة إبطال الفئات المالية لتطهير المال، ويجدها فكرة غير فعالة، وقبل عامين سخر الرجل من طرح الفكرة، وأكد أن الأثرياء الفاسدين لا يضعون ثرواتهم في أكياس نقود، كما تصورهم «بوليود»، وإنما في العقارات والذهب، وكان قد صرح سابقًا، قائلًا: إنّ «إحساسي هو أن الأذكياء سوف يعثرون على طرق للالتفاف على ذلك. إنهم يجدون طرقًا لتقسيم كنزهم إلى عدد كبير من الأجزاء الصغيرة. في الواقع ليس من السهل القضاء على الأموال غير المشروعة».
الفقراء الغاضبون
تدفق المواطنون الهنود، وكثير منهم من الفقراء، أمام البنوك في الأيام الماضية؛ لتغيير الأوراق النقدية من فئة 500 روبية وألف روبية، والتي تشكل حوالي 86% كما ذكرنا من العملات المتداولة في الهند، وهو ما تسبب في حالة عامة من شلل السيولة النقدية، وقد عبرت الجموع المتكدسة عن غضبها إزاء ما تجده البنوك من صعوبة في توفير الأموال اللازمة، بعد إلغاء الفئات الكبيرة من النقد، وناشد البنك المركزي في الهند الشعب بعدم التدافع نحو البنوك.
وأعرب التجار في سوق الخضراوات بالعاصمة نيو دلهي عن نيتهم في إغلاق السوق؛ بسبب نفاد النقود، وبسبب أن البنوك لا تصرف سوى مبالغ قليلة.
واعتبرت أطراف المعارضة أن الحكومة نشرت الفوضى في البلاد، ونشرت حالة جعلت المواطن غير قادر على شراء حاجاته اليومية، في ظل مغامرتها الجديدة، وطالبت بعضها بتوحيد أحزاب المعارضة ضد قرار الحكومة الاخير.
لكن، على الجانب الآخر، يعتقد العديد من المراقبين الهنود، أنه بالرغم من كل ما يُشاع عن غضب المواطن العادي، فإن الحقيقة أن أغلب الهنود من الطبقات الأقل ثراءً يرون في قرار مودي العلاج الأنسب، الذي سيجلب لهم المنافع على المدى الطويل.
يقول «ماليش ريواريا»، وهو مالك لكشك صغير يبيع فيه ملحقات أجهزة الهاتف، إن مبيعاته تراجعت بنسبة 60% بعد القرارات، لكنه يؤيد خطة مودي، ويقول إن الوحيدين الخائفين من هذا القرار هم المتهربون من الضرائب الفاسدين.
وجدير بالذكر، أن البعض قد علق على الفقراء الغاضبين الذين يحتشدون أمام المصارف، بالرغم من أن العملات المحظورة، هي الفئات الكبيرة، ويبدلون مبالغ تصل إلى 4500 روبية؛ معتبرين أن تلك «مفارقة مدهشة»، ربما تدل، من وجهة نظرهم، على أن هؤلاء الفقراء الذين يبدو عليهم الغضب، يتلقون أجرًا من الأغنياء؛ ليقوموا بتنظيف أموالهم، في الوقت الذي يطلب فيه أصحاب المبالغ غير المشروعة من البعض، مساعدتهم لإدخال أموالهم للنظام المصرفي، نظير مقابل.