في فصل كل الشتاء، لا غرابة أن ترى عائلة سورية تلتحف الصوف من رأسها حتى قدمها، تجلس في زاوية محل تراثي كائن بسوق الحميدية في دمشق، وتلتهم البوظة العربية المزيّنة بالفستق الحلبي الطازج دون التفات لبرودة الطقس الدمشقي.

الأمطار قد تتساقط والثلوج أيضًا من حولها، ولكن يواصل الكبار أكل البوظة بينما يختارون لصغارهم أكل المهلبية، كذلك هو حال السياح والحلبيين والحمصيين، وكل من ساقه القدر إلى سوق الحميدية لقضاء مصلحة أو حتى قصده فقط لأكل البوظة العربية في الشتاء أو الصيف، وقد سبقهم في ذلك أمراء وأثرياء العهد العثماني، ومن بعدهم الزعماء والقادة السياسيون الذين تباهوا بتقديم بوظة بكداش كضيافة من النوع النفيس في مناسباتهم.

بكداش.. حكاية أول صناعة للبوظة العربية

يحافظ محل تراثي على ديكوراته منذ أكثر من 123 عامًا باعتباره أحد أبرز معالم سوق الحميدية الواقع بدمشق القديمة، وتحديداً في الجزء الثاني منه المتجه نحو الجامع الأموي، إنه محل «بوظة بكداش» الذي علقت على جدرانه صور لأهم الشخصيات الفنية والسياسية والإعلامية التي زارته منذ عشرات السنين، فمنهم سلاطين عثمانيون ومنهم الملك المغربي محمد السادس والرئيس اللبناني رفيق الحريري.

هذا المحل الذي يديره الجيل الثالث من عائلة بكداش المؤسِّسة، شكّل حيّزًا كبيرًا في ثقافة السوريين الشعبيّة وأُغرم به كل سائح يزوره، فحتى وقت قريب كان الزبون يأتي ليأكل البوظة الشامية على إيقاع الدقات الخشبية برغم التطورات التي شهدتها صناعة البوظة، فقد أحب زبائن بكداش صنع طلباتهم أمام أعينهم، يتمتعون بسواعد الشباب الدمشقي يدق بقوة عبر مدقة خشبية مكونات البوظة قبل أن يصبح ذلك وسيلة يتبعها صانعو المنتجات في العالم.

وبالعودة إلى البدايات، يجزم ورثة بكداش بأن والدهم هو أول من صنع البوظة في العالم، وذلك حين رغب محمد حمدي بكداش صانع العصائر الطبيعية، وخاصة عصير الليمون الذي عشقه الشوام؛ التحوّل نحو صناعة جديدة تحقق طموحه التجاري: صناعة البوظة، وقد اتخذ هذه الخطوة التي أسعدت عاشقي المثلجات في العام 1895.

نظر الرجل إلى جبال الزبداني وجبل الشيخ المحيطين بدمشق حيث تتكوّن الثلوج على سفوحها في فصل الشتاء، ثم فكر كيف يحتفظ بهذه الثلوج حتى فصل الصيف، فابتكر طريقة لتخزينها تقوم على تصنيعها على قوالب ثم حفظها في مغاور هذه الجبال، فقام بذلك وكان يغلق المغارة التي وضع فيها الثلج بإحكام ولا تفتح إلا بداية الصيف، وحين يأتي الصيف يستقطع بكداش جزءً من هذه الثلوج، فينقلها ليلًا عبر ظهور الخيل إلى محله عبر براميل خشبية مخصصة.

يقول ابنه عن هذه الفترة: «في الصباح تبدأ عملية تجميد البوظة، والتي كانت تتم بتقنيات يدوية، في أواني صنعت خصيصاً لهذه الغاية، وهي عبارة عن برميل خشبي كبير يتوسطه برميل من النحاس أصغر حجمًا، يملأ الفراغ بين البرميلين بالثلج، وعندما يرش الملح على الثلج تنخفض درجة حرارته إلى العشرين تحت الصفر، وبالتالي تصبح درجة حرارة البرميل النحاسي 20 تحت الصفر أيضًا، عندها تبدأ عملية تجميد البوظة التي تكون قد أعدت مكوناتها وطبخت سلفًا».

استخدم بكداش نباتًا بريًا ينمو في جبال شمال سوريا، وهو نبات «السحلبة»، ثم أضافه للحليب لتتشكل منه مادة البوظة العربية التي تشتمل أيضًا على عدد من المنكهات الطبيعية، مثل ماء الزهر وماء الورد والمسكة النباتية والسكر، تطبخ هذه المكونات، ثم تضاف إليها القشدة، وترش بالفستق الحلبي.

لم يتوان بكداش عن توسيع محله الأول دون خوف من مصير هذا المنتج الجديد، فاستعان بأكثر من 50 عاملًا، أخذوا يتولون مهمة تقطيع وتوزيع البوظة، وعاملين آخرين مهمتهم كبس الثلج وتخزينه في الشتاء، ثم نقله في الصيف، وكانت سوريا حين ذلك تحت الحكم العثماني، ويشاع بين الناس أن افتتاح محلّ بكداش الأول تم بحضور السلطان عبد الحميد.

هل تستخدم إيران يد النظام لنزع ملكية محلّ بكداش؟

في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، سار مرسم «لطميات» للطائفة الشيعية في أربعينية الحسين، وانتقل المرسم من سوق الحميدية الأثري بدمشق حتى المسجد الأموي الكبير الواقع في نهاية السوق.

وفيما أذهل مشهد العراقيين والإيرانيين الذين أخذوا بلطم أجسادهم نصف العارية، وقف زبائن محل بوظة بكداش الكائن وسط السوق مذهولين من هول المشهد ومن هتافات رواده، لكنهم في صمت أدركوا أنهم في مربع «مقدّس» لدى شيعة أجانب استوطنوا دمشق تحت ذريعة التحالف مع النظام السوري، وقد كان سوق الحميدية من المناطق التي أحكم النظام قبضته عليه، حين سارع رجاله إلى الانتشار في السوق لإخماد المظاهرة الأولى التي انطلقت من السوق في بدايات الثورة وحتى اليوم السوق بمثابة مربع لانتشار أمني كبير.

وتتسلط أنظار طهران على هذا السوق حتى تؤكد العديد من المصادر أن إيران جاهزة بأموالها لشراء المزيد من المحال التجارية في الحميدية، ويقع السوق في قلب المعالم الأثرية بدمشق؛ مما يعني أن الاستيطان الإيراني فيه هو فرصة كبيرة لطهران لنشر التشيّع عبر التأثير بشكل كبير في السكان المحليين.

وفي سبيل سيطرة إيران المحال التجارية في سوق الحميديّة الذي يقع فيه محلّ بوظة بكداش؛ لم يكفّ النظام عن ملاحقة المحل واتخاذ إجراءات ضده، إذ تشير مصادر إلى أن أطرافًا عرضت على أصحاب المحلّ شراءه، كما سعى النظام السوري لتشويه سمعة المحلّ، وكانت الخطوة الأبرز هي قرار إغلاقه بالشمع الأحمر في يوليو (تموز) 2017، فقد تحجج النظام بأن المحل يستخدم في صناعة البوظة حليب البودرة، وخلط الفستق الحلبي بالسوداني، وذلك بالرغم من اضطرار المحل وجميع مصانع البوظة لاستخدام حليب البودرة بعد عجزهم عن تأمين الحليب الطازج نتيجة الحرب، أما في أغسطس (آب) 2018 فقد أغلق المحل بسبب «وجود الحشرات في مستودع المواد الغذائية، وقذارة خلف آلات التصنيع»، وجاء في القرار الذي وقع عليه مُحافظ دمشق بشر الصبان أنه «يغلق لثلاثة أيام محل بوظة بكداش لصاحبه محمد حمدي بكداش الكائن في سوق الحميدية لمخالفته التعليمات الصحية».

وتعتبر المنطقة المحيطة بسوق الحميدية وأسواق أخرى هي وقفًا لوزارة الأوقاف السورية، استأجرها القطاع الخاص منذ مئات السنيين، وأخذ النظام مؤخرًا يدفع وسائل إعلامه نحو خطاب يحث على استرجاع هذه الأملاك تحت بند الاستثمار الجديد الذي يدر دخلًا أهم لخزينة الدولة، وتستعرض هذه الوسائل في إطار الدعاية ما حدث مع مول قاسيون الذي استولى عليه مستثمر مغمور هو وسيم قطان، وأصبح يحقق أرباحًا تقدّر بمليار و20 مليون ليرة في السنة، بدلًا عن 20 مليون ليرة كان يحققها المحل في السابق.

كما يخنق النظام عبر فرض الضرائب الباهظة هذا المحل الذي رفض مالكه بيعه؛ إذ تستمر دوريات الاستعلام الضريبي والإنفاق الاستهلاكي بمداهمة بكداش وباقي المحال الذي يرفض التجار بيعها، كما أن موظفي الضرائب يجبرون التجار على دفع رشاوى لهم بمبالغ مالية كبيرة، وإلا يتم ابتزازهم وتهديدهم بإمكانية فرض المزيد من الضرائب عليهم، وذلك رغم السجل النظيف لبكداش وغيره من المحال.

الانتفاضة السوريّة تسافر بـ«بوظة بكداش» إلى كل جهات سوريا والعالم

«سُررت كثيرًا عندما شاهدت لوحة محل بكداش في إدلب، وشعرت بالحنين لدمشق عندما تذوقت طعمها»، بهذه الكلمات أعرب السوري محمد عن فرحته لرؤية محل بوظة بكداش في إدلب التي هاجر إليها من مدينة داريا.

ويضيف محمد ذو الـ23 عامًا: «حُرمنا في الحصار لسنوات من كل شيء بما فيها البوظة، وعند قدومي لإدلب لم أستطع تناول البوظة التي اعتدت عليها في صغري، طريقة صنعها في إدلب مختلفة، كما أنهم يستخدمون الحليب الملدوع (الشايط) على النار»، وقد افتتح هذا المحل في معقل الثورة السورية التي يتواجد فيه ما يقارب من 4 ملايين سوري بجهد أكرم جباس الذي اختار محله وسط إدلب؛ وبالقرب من منطقة دوار الساعة تحديدًا، فقد كان الرجل يعمل لعدة سنوات في محلات بوظة بكداش في دمشق قبل تهجيره لإدلب، ولاقى المحل إقبالًا من قبل السكّان المحلّيين لإدلب والذين حرموا من الذهاب لدمشق ومن القاطنين فيها بعد عملية التهجير القسري التي طالت مدنهم.

وإلى دول الجوار أيضًا نقلت بوظة بكداش، حين افتتح المهاجرون السوريون في الأردن وحدها ثلاث فروع، وذلك بجهود اللاجئين الذين حاولوا خلق جو سوري تقليدي بتقديم نفس مذاق البوظة التي يقدمها المحل الأصلي. يقول السوري خلدون عبابنة، الذي يدير فرع عمان العاصمة: «إنه تراث ومَعلم بارز، بكداش للسوريين مثل البتراء للأردنيين»، ويضيف لموقع «العالمية»: «حصلنا على حق الامتياز هنا بسبب تزايد عدد المغتربين السوريين، إنهم سعداء الآن لأن بكداش هنا، يقولون: نحن نشعر أننا في سوريا».

سافرت بوظة بكداش مع السوريين حول العالم أينما ارتحلوا؛ إذ تفرض البوظة الدمشقية «بكداش» نفسها في حيّ «نويكولن» في العاصمة الألمانية برلين، فيقدم محل «أبو جواد» مذاقًا مميّزًا لها يعود بذائقها إلى الطعم الدمشقي، ويؤكد صاحب المحل المهاجر من الغوطة الشرقية القريبة من دمشق أنه: «لا يستخدم أي مواد صناعية في تحضير البوظة، حتّى الحليب يجلبه يوميًا طازجًا من المزرعة، فلا يدخل الحليب المبستر في تحضير البوظة»؛ فهو قد ورث الطريقة التقليدية لصنع البوظة عن والده، وجده الذي كان يملك محلًا للبوظة الشامية في «شارع بغداد» في دمشق قبل 40 عامًا.

شابانا عربيان يتناولان البوظة في برلين – المصدر: dw.com

ووصلت بوظة بكداش إلى الولايات المتحدة، حين قرر السوري ماهر نحال، الذي يدير مخبز معجنات «لو ميراج»، إنشاء محل لبيع البوظة في آناهايم بكاليفورنيا؛ حيث يعيش هناك منذ سنوات بعد أن قدم من دمشق ومذاق بوظة بكداش في فمه، فمع تدفّق اللاجئين إلى آناهايم فكر نحال في نقل صناعة البوظة من دمشق إلى مُستقرّه الجديد، باستيراد مكوناتها من الشركة المصنعة السورية. يقول نحال: «أردت أن أزور طفولتي في الولايات المتحدة»، ويريد أيضًا نحال تحقيق ربح عبر بيع البوظة في الاحتفالات السورية، وخاصة حفلات الزفاف التي يقيمها السوريون في أمريكا، حيث اعتادوا تقديم البوظة في المناسبات المتنوّعة.

المصادر

تحميل المزيد