بدأت المملكة العربية السعودية في اتخاذ خطوات لتقريب العراق، بعد سنوات طويلة من عزله، الخطوات التي اتخذتها الرياض لإشراك جارتها الشمالية، ظهرت بوضوح منذ تولى رئيس الوزراء العراقي، ورئيس جهاز المخابرات العراقية السابق، مصطفى الكاظمي، منصبه في مايو (أيار) عام 2020.

كانت الحفاوة الكبيرة التي استقبل بها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي في نهاية شهر مارس (آذار) عام 2021، بمثابة دلالة على جدية القادة السعوديين في التعامل والانخراط مرة أخرى مع العراق، ومحاولة جذبه لمحيطه العربي الخليجي، بعيدًا عن النفوذ الإيراني، خاصة أن هناك علاقة طيبة تربط بين الأمير محمد بن سلمان والكاظمي، منذ كان الأخير يرأس جهاز المخابرات العراقي الوطني عام 2016.

العلاقات السعودية العراقية من غزو الكويت إلى الغزو الأمريكي

قبل غزو الكويت في مطلع التسعينات كانت العلاقات السعودية العراقية تسير بشكل جيد، خاصة بعد أن دعمت المملكة العربية السعودية صدام حسين في حربه – التي دامت ثماني سنوات – ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الثمانينات. لكن بعد أن تجرأ الرئيس العراقي السابق صدام حسين على غزو دولة الكويت، أدركت المملكة العربية السعودية، وباقي دول الخليج، أن العراق برئاسة صدام حسين أصبح مصدر تهديد في المنطقة.

يقول الباحث السياسي العراقي علي أسدي لـ«ساسة بوست»: «كانت الرياض تعتمد على صدام حسين في محاولاتها ضرب الجمهورية الإيرانية الوليدة، والتي نظرت إليها بريبة وشك، وخشيت أن تؤثر على ممالك الخليج بشكل كبير، لكن عندما خرج صدام حسين عن طوع السعودية، وقام بغزو الكويت، نظرت المملكة إلى عراق صدام حسين على أنه مصدر تهديد مثله مثل الحكومة الدينية الشيعية في إيران».

بعد غزو صدام حسين للكويت عام 1990 قطعت المملكة العربية السعودية علاقاتها بالعراق، وأغلقت سفارتها ببغداد، ثم جاء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فقلب موازين الأمور، وزاد من المسافات بين المملكة العربية السعودية والعراق أكثر من ذي قبل.

بالرغم من مساعدة المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة في غزوها للعراق عام 2003، فإنها في حقيقة الأمر قد عارضت الغزو الأمريكي للعراق خوفًا من تبعات انهيار النظام السياسي العراقي، وتأثيره على منطقة الخليج. وفي حديثه لـ«ساسة بوست»، يقول أستاذ علوم سياسية في جامعة بين النهرين، بالعاصمة العراقية بغداد، مفضلًا عدم ذكر اسمه: «قبل الغزو الأمريكي للعراق ناشدت المملكة العربية السعودية إدارة جورج بوش، لعدم القيام بالغزو، كانوا قلقين من فكرة أن إيران سيكون لها اليد العليا في العراق، إذا أُطيح بصدام حسين، لكن الولايات المتحدة رفضت مناشدات السعوديين؛ مما دفعهم إلى نبذ العراق الجديد، والخوف من الحكومات العراقية التي يقودها الشيعة».

عراق ما بعد صدام حسين: الملك عبد الله يدفع المالكي نحو طهران

بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وإطاحة النظام البعثي صدام حسين، مكنت الولايات المتحدة الأغلبية الشيعية العراقية من حكم البلاد بعد سنوات طويلة من التهميش، وفي عام 2006 أصبح نوري المالكي، السياسي الشيعي البارز، رئيسًا للوزراء في ظل نظام سياسي جديد وضع الغزو الأمريكي قواعده منذ عام 2004، جدير بالذكر أنه كثيرًا ما يوصف المالكي بأنه موال لإيران، وأنه اتبع سياسات طائفية أدخلت العراق في أزمات عديدة وحروب أهلية، بالإضافة إلى إسهامه في وضع العراق في محور إقليمي إيراني.

Embed from Getty Images

العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز 

لكن في حقيقة الأمر كانت الأمور مختلفة تمامًا في فترة ولايته الأولى من عام 2006 إلى عام 2010، ويمكن القول إن ما دفعه إلى أحضان الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كان رفض القادة السعوديين له ولحكومته الشيعية التي تقود العراق الجديد.

يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة بين النهرين أن المالكي كان في البداية قوميًا عراقيًا بشكل كبير للغاية، فيقول لـ«ساسة بوست»: «المالكي يعرف الإيرانيين عن قرب، عاش هناك لسنوات، وخاض تجربة قاسية أثناء فترة وجوده بإيران، لذلك في السنوات الأولى لحكمه للعراق كان مصرًّا على إبعاد العراق عن النفوذ الإيراني، الذي زاد بعد الغزو الأمريكي للعراق».

وجهة النظر هذه يؤكدها ما قاله زلماي خليل زاد، سفير الولايات المتحدة في بغداد، بعد الغزو الأمريكي للعراق، وواحد من المسؤولين الأمريكيين الذين اختاروا نوري المالكي لرئاسة الوزراء وحكم العراق، يعزى خليل زاد، اختيار المالكي قائلًا: «جرى اختيار المالكي من بين الكثير من المرشحين؛ لأنه كان الأكثر قبولًا بينهم لجيران العراق العرب في الخليج».

عانى نوري المالكي أحد أبرز أعضاء حزب الدعوة الإسلامي الشيعي في العراق، أثناء حكم صدام حسين، من القمع، وخطر الاعتقال، والسجن، ومثله مثل باقي أعضاء حزب الدعوة، سافر إلى الجمهورية الإسلامية في الثمانينات باعتبارها منفىً اختياريًا هربًا من بطش صدام حسين.

يقول سياسي شيعي مقرب من نوري المالكي، وكان ضمن السياسين الشيعة العراقيين الذين اختارو إيران منفى لهم، لـ«ساسة بوست»، مفضلًا عدم الكشف عن هويته، نظرًا لحساسية الموضوع: «طوال سنوات إقامتنا في إيران، كان المالكي يحاول بقدر الإمكان الابتعاد عن التحكم الإيراني بالمعارضين الشيعة العراقيين، ورفض أن يكون أداة إيرانية ضد صدام حسين، وعندما شعر بأن المعارضين العراقيين في إيران يتعرضون للإهانة، ترك طهران وغادر إلى سوريا، وظل هناك حتى الغزو الأمريكي للعراق» مؤكدًا أن «المالكي كان يحاول الابتعاد عن إيران بقدر الإمكان في تلك الفترة».

يقول زلماي خليل زاد أنه اشترط على نوري المالكي من أجل دعمه لتولي رئاسة الحكومة العراقية في عام 2006 أن يتعامل مع المحيط العربي للعراق، بشكل مكثف، في محاولة لموازنة السياسية الخارجية العراقية، والابتعاد قدر الإمكان عن النفوذ الإيراني المتزايد في العراق، في ذلك الوقت.

لكن السياسي الشيعي العراقي المقرب من المالكي، يقول لـ«ساسة بوست»: «المالكي كان يعتزم القيام بهذا الأمر، دون توجيه من الأمريكيين، فالرجل كان يمتلك رغبة صادقة في تحسين العلاقة بين العراق والخليج بشكل عام، والسعودية بشكل خاص».

اختار نوري المالكي، أن تكون أول زيارة خارجية له بعد توليه منصب رئاسة الحكومة، في يوليو (تموز) 2006، المملكة العربية السعودية وجهة أولى له، وعلى ما يبدو أن نوري المالكي كان يفهم جيدًا في ذلك الوقت أن أول زيارة لمسؤول عراقي شيعي تكون للملكة العربية السعودية ستحمل رمزية كبيرة، وتساهم في إرسال رسالة للجميع مفادها أن العراق دولة عربية، وليست تابعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

جرت الأمور خلال زيارة المالكي للرياض بهدوء في البداية، والتقى العاهل السعودي آنذاك، الملك عبد الله، لكن كانت تلك هي الزيارة والمقابلة الأولى والأخيرة بين المالكي والملك عبد الله، فما حدث بعد هذه الزيارة هو ما دفع العلاقات بين بغداد والرياض من سيئ إلى أسوأ!

بعد الزيارة الأولى للمالكي إلى المملكة العربية السعودية، رفض الملك عبد الله استقبال المالكي مرة أخرى، حتى مع الضغط الأمريكي، الذي كان يسعى آنذاك من أجل تقريب العراق من المملكة العربية السعودية. ويقول السياسي الشيعي العراقي والمقرب من نوري المالكي، لـ«ساسة بوست»: «بعد زيارة المالكي للسعودية، حاول مرة أخرى توطيد العلاقات، لكنه فوجئ بالرفض المهين من قبل السعوديين، الأمر الذي كان صدمة، ليس فقط للمالكي، ولكن للأمريكان أيضًا، الذين أخبروا المالكي أن الملك عبد الله لا يثق به».

لكن لماذا لم يثق الملك عبد الله بن عبد العزيز في رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي؟

في بداية عام 2007، أي بعد مرور أقل من عام على زيارة المالكي للمملكة العربية السعودية، وخلال اجتماع رفيع المستوى في الرياض، واجه المسؤولون السعوديون مبعوثًا أمريكيًا كبيرًا هو السفير الأمريكي لدى بغداد، زلماي خليل زاد، بوثائق قالوا إنهم حصلوا عليها من مسؤولين عراقيين، تشير إلى أنه لا يمكن الوثوق برئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي.

يعلق السياسي الشيعي العراقي والمقرب من نوري المالكي، والذي كان في ذلك الوقت، أحد أعضاء حكومته، على هذه المسألة، قائلًا: «خليل زاد، أخبر المالكي بأمر الوثائق التي حصل عليها السعوديون، والتي جعلت الملك عبد الله غير واثق بالمالكي، إذ اعتقد السعوديون حينها أن المالكي أداة إيرانية لتنفيذ أحلامها التوسعية في المنطقة، بالرغم من أن إدارة بوش حينها أبلغت الرياض بأن هذه الوثائق مزورة، وهذا ما أكده المالكي في مقابلته لخليل زاد بعد عودته من الرياض، لكن الملك عبد الله ظل متمسكًا بموقفه السلبي من المالكي».

الجدير بالذكر هنا أن في هذا التوقيت، كان المالكي غير مقرب بشكل قوي من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل العكس ما حدث، فقد استهدف الفصائل المسلحة الموالية لها، خاصة جيش المهدي التابع لرجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر، والذي كان في ذلك الوقت مقربًا للغاية من إيران، التي دعمته في تأسيسه فصيله المسلح الذي قاتل القوات الأمريكية في العراق.

مختصر تاريخ العلاقات السعودية العراقية: ما بين الإخفاقات ومحاولات رأب الصدع

مقتدى الصدر

خاض نوري المالكي حربًا واسعة النطاق ضد جيش المهدي بزعامة مقتدى الصدر، وبمساعدة القوات الأمريكية، وأنهى سيطرة الصدر على مدينة البصرة الغنية بالنفط، والتي تعتبر الشريان الاقتصادي الأهم للعراق، ونجح المالكي في هذه المعركة.

يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة بين النهرين لـ«ساسة بوست»: «ما بين عامي 2006 و2008، استطاع المالكي التخلص من وكلاء إيران في العراق، وعلى رأسهم جيش المهدي، كما أنه حاول دائمًا فتح أبواب العراق أمام السعوديين، صحيح أنه لم يعارض إيران بشكل علني وواضح وصريح، ولم يتحدث عنها بشكل سلبي؛ لأنه يعلم مدى قدرة إيران على زعزعة الأمن في العراق، لكنه في الوقت نفسه رفض كل محاولات استمالة طهران له، لكن الملك عبد الله غض بصره عن كل محاولات المالكي في ذلك الوقت، وقرر أنه غير جدير بالثقة، ودفعه باتجاه إيران أكثر وأكثر».

الملك عبد الله وعداوة معلنة لحكومة المالكي

لم تفلح محاولات المالكي، أو الولايات المتحدة، في جذب المملكة العربية السعودية باتجاه العراق، فظل الملك عبد الله طوال فترة حكمه، رافضًا لأي تعامل مع النظام السياسي الجديد في العراق، ملقيًا باللوم على إدارة جورج دبليو بوش، بأنها من جلبت أتباع إيران من شيعة العراق إلى الحكم.

اعتبر حينها العراقيون أن عداء الملك عبد الله الشديد تجاه نوري المالكي، ورفضه كل المحاولات لتوسيع العلاقات بين العراق والمملكة العربية السعودية؛ هو رفض للطائفة الشيعية العراقية بأكلمها، يقول الباحث السياسي العراقي، علي أسدي، لـ«ساسة بوست»: «بعد رفض السعوديين للمالكي، الذى يقود النظام السياسي الجديد في العراق والذي يهيمن عليه الأغلبية الشيعية، بدا الشيعة العراقيون في النظر إلى السعودية نظرة متشككة، وهيمنت عليهم فكرة أن السعوديين يريدون كسر هيمنة الشيعة على الحكم في العراق، وإعادة نظام البعث السني مرة أخرى، خاصة أن السعودية كانت ترفض إطاحة صدام حسين».

تحول الرفض السعودي الواسع النطاق، للحكومة الشيعية بقيادة نوري المالكي، إلى عداوة معلنة، فقررت المملكة العربية السعودية، دعم خصوم المالكي السياسيين، وقدمت الدعم الكامل للسياسي العراقي إياد علاوي، وهو شيعي علماني وعضو سابق في حزب البعث، كما تولى منصب رئاسة الحكومة العراقية بعد الغزو الأمريكي مباشرة من عام 2004 إلى عام 2005.

يقول السيد أسدي لـ«ساسة بوست»: «إياد علاوي من اشد خصوم المالكي، وكان المالكي لا يثق به، ويعتبره من أتباع صدام حسين، ودعم السعودية لعلاوي جعل العراقيين يعتقدون أن المملكة تريد أن تعيد فلول حزب البعث مرة أخرى إلى حكم العراق».

دعم الملك عبد الله، لإياد علاوي في الانتخابات العامة العراقية في عام 2010، ضد نوري المالكي، كان نقطة التحول الكبيرة بالنسبة للأخير، فبعد أن كان يحاول بشتى الطرق النأي بنفسه عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ذهب وطلب الدعم من طهران في مقابل علاوي، لضمان استمراره في منصبه رئيسًا للحكومة، وقد حققت إيران رغبته.

نوري المالكي

يرى أستاذ العلوم السياسية، بجامعة بين النهرين أن دعم المملكة العربية السعودية لخصوم المالكي، كان بداية للعداوة المعلنة بين العراق والسعودية، فيقول لـ«ساسة بوست»: «بعد دعم الرياض لعلاوي، أدرك المالكي أن لا أمل في علاقة أفضل مع السعودية، خاصة أن بعد الانتخابات كانت الحرب الأهلية السورية قد بدأت في الاشتعال، وبالطبع أخذت السعودية موقفًا مناهضًا لبشار الأسد؛ مما دفع المالكي للاعتقاد أن الرياض تريد إطاحة به هو أيضًا بالإضافة إلى الإطاحة ببشار الاسد».

تجدر الإشارة هنا إلى أن حكومة نوري المالكي الثانية سهلت على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مساعدة الرئيس السوري، بشار الأسد في مواجهة التمرد المسلح في سوريا، كما ساهم المالكي في تسهيل مختلف الأمور للفصائل المسلحة الشيعية العراقية الموالية لإيران، بالذهاب إلى سوريا للقتال بجانب قوات بشار الأسد.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اتهم نوري المالكي علانية المملكة العربية السعودية، بتسهيل دخول المقاتلين السنة المتطرفين إلى العراق، وفي مارس (آذار) عام 2014، اى في بدايات سيطرة «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» على أجزاء كبيرة من العراق، اتهم نوري المالكي السعودية بتمويل المتمردين السنة في محافظة الأنبار الغربية، ذات الغالبية السنية.

يقول السياسي الشيعي المقرب من المالكي، لـ«ساسة بوست»: «المالكي مؤمن، بأن السعودية دفعت المتطرفين من القاعدة وتنظيم «داعش»، إلى الاراضي العراقية لمحاربة قوات المالكي، كما أنها أمدتهم بالأموال والاسلحة لإطاحة المالكي والشيعة من الحكم بشكل عام». جدير بالذكر أن اتهامات المالكي للمملكة العربية السعودية، بتمويل المقاتلين السنة المتطرفين، من تنظيم الدولة الإسلامية، سبقتها اتهامات خفية من الولايات المتحدة للمملكة العربية السعودية، فيما يخص نفس المسألة.

ما بين عامي 2007 و2009 تحدث مسؤولون أمنيون وعسكريون أمريكيون عن الدور السلبي للمملكة العربية السعودية في العراق، وقالوا إن السعوديين قدموا دعم مالي هائل للجماعات السنية العراقية المتطرفة مثل القاعدة، لمحاربة المالكي، كما تحدثوا أيضًا عن أن نصف المقاتلين الأجانب الذين دخلوا العراق في ذلك الوقت، كانوا يأتون من المملكة العربية السعودية، وأنهم طلبوا من القادة السعوديين العمل على إيقاف مثل هذه الأمور، لكنهم لم يلتفتوا لمطالب ومخاوف الامريكيين. لكن هذه الاتهامات الأمريكية للمملكة العربية السعودية، ظلت دائمًا غير معلنة بشكل رسمي، ونادرًا ما تحدث المسؤولون العسكريون الأمريكيون علنًا، عن دور المقاتلين السعوديين المتمردين في العراق.

وفاة الملك عبد الله ومحاولات لتحسين العلاقات

بعد وفاة الملك عبد الله، العاهل السعودي في عام 2015، بدأت المملكة العربية السعودية في تغيير لهجتها تجاه العراق، وشهد الخطاب السعودي تجاه بغداد تحسنًا كبيرًا خاصة مع تولى حيدر العبادي الحكومة، وهو سياسي شيعي معتدل، ولا تربطه علاقات قوية بالجمهورية الإسلامية.

ترجمت الرياض خطابها الجديد الهادئ تجاه العراق إلى خطوات ملموسة، وأعلنت حينها أنها ستعيد فتح سفارتها في بغداد، يقول السيد أسدي لـ«ساسة بوست»: «وفاة الملك عبد الله كانت بداية ذوبان الجليد في العلاقات العراقية السعودية، خاصة مع تولي العبادي الحكومة العراقية، تبادل الجانبان الاتصالات الدبلوماسية رفيعة المستوى، لإعادة العلاقات، كما اجتمع العبادي بوزير الخارجية السعودي تركي الفيصل على هامش القمة المناهضة لتنظيم «داعش» في بروكسل».

وصلت مراحل التحسن في العلاقات بين العراق والمملكة العربية السعودية إلى ذروتها، عندما قام وزير الداخلية العراقي، قاسم الأعرجي بزيارة المملكة العربية السعودية في يونيو (حزيران) 2017، جدير بالإشارة هنا أن الأعرجي عضو في منظمة بدر، وهو فصيل مسلح شيعي مقرب للغاية من طهران. لذلك كانت زيارته إلى الرياض ذات مغزى كبير على بدء تحسن العلاقات بين البلدين، خاصة أن الأعرجي في زيارته للمملكة التقى بولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان.

يقول مسئول عراقي سابق في حكومة العبادي لـ«ساسة بوست»، مفضلًا عدم الكشف عن هويته: «أدرك الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد أن سياسة الراحل الملك عبد الله في عزل العراق عن محيطه العربي، كانت سياسية تتسم بـ«الغباء» أحيانًا، و«التعنت الشديد»، خاصة أن ولي العهد السعودي يملك رؤية منفتحة للمملكة»، على حد تعبيره.

ويضيف المصدر قائلًا: «بعد حرب اليمن، وما لاقته المملكة من خسائر مستمرة إلى الآن أدركت الرياض أنها بحاجة إلى تغيير سياستها في المنطقة، كما أنها أدركت قوة العراق الإقليمية إذا أتيحت له الفرصة للعب دور في موازنة الأمور والسيطرة على التوترات في المنطقة».

أعقبت زيارة الأعرجي إلى المملكة العربية السعودية، زيارة مهمة ونادرة من نوعها؛ ففي أغسطس (آب) 2017 قام رجل الدين الشيعي والسياسي البارز مقتدى الصدر، بزيارة الرياض، ولقاء ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ورأى العديد من الخبراء والمعلقين العراقيين أن زيارة رجل دين شيعي عراقي، إلى المملكة، هي بداية لاتجاه سياسي جديد بين البلدين، وإمكانية لعودة العراق إلى محيطه العربي، ومحاولة من القادة العراقيين والسعوديين، إلى جذب العراق بعيدًا عن النفوذ الإيراني.

الكاظمي وفتح صفحة جديدة بين بغداد والرياض

المسار الجديد الذي اتخذته المملكة العربية السعودية تجاه العراق، والذي وصل إلى ذروته في عام 2017، من الممكن أن نصفه بأنه اتسم بالبطء والتردد في كثير من الأحيان، لكن مع تولى مصطفى الكاظمي للحكومة العراقية في مايو (أيار) 2020، وزيارته الرياض في نهاية مارس 2021، بدأت صفحة جديدة أخرى في سجل العلاقات بين المملكة والعراق.

سعى الكاظمي منذ اليوم الأول لتوليه منصبه في أن يعيد إلى العراق أهميته الإستراتيجية في المنطقة، والابتعاد بالبلاد قدر الإمكان عن التبعية للجمهورية الإسلامية في إيران، وكان السبيل الوحيد لتحقيق هذا التوازن في علاقات العراق مع جيرانه، هو أخذ تطوير العلاقات العراقية السعودية على محمل الجد.

يقول الباحث السياسي العراقي، على أسدي لـ«ساسة بوست»: «العلاقة الجيدة بين محمد بن سلمان، والكاظمي، سهلت على الأخير تحقيق خطواته في استئناف توطيد العلاقات بين البلدين، يرى كل من الكاظمي وولي العهد السعودي أن إعادة العراق إلى محيطه العربي، ومساعدة المملكة له في هذا الأمر، سيحقق التوازن لكل من العراق والمنطقة بأسرها».

منذ زيارة الكاظمي إلى الممكلة العربية السعودية العام الماضي وحتى إلى اليوم، تكافح كل من الحكومة العراقية والقادة السعوديين في الحفاظ على المكتسبات الجديدة، لتحسن العلاقات، ففي الآونة الأخيرة، عرضت المملكة العربية السعودية على العراق الكثير من اتفاقيات التعاون الاقتصادي، والاستثمارات السعودية داخل العراق، كما أعلنت الرياض عن رغبتها في مساعدة العراق في أزمة الكهرباء التي تمر بها البلاد وبالفعل جرى توقيع اتفاقية لربط العراق بشبكة كهرباء السعودية، والتي تعتمد على إيران بشكل كامل في إمدادها بالكهرباء.

العراق بحاجة إلى الاستثمارات السعودية، بحاجة إلى إعادة علاقته بدول الخليج، لكن هناك الكثير من العقبات التي تقف في وجه الانخراط السعودي داخل العراق، والتي تمنع كل المبادرات الجيدة التي سبق ذكرها من التحقق على أرض الواقع، حتى يومنا هذا.

المكاسب والتحديات التي تواجهها العلاقات السعودية العراقية

بعد سنوات طويلة من القطعية اتخذت السعودية في الآونة الأخيرة خطوات جادة وإيجابية نحو العراق في محاولة لمواجهة النفوذ الإيراني في المقام الأول بالطبع، كما أعلنت المملكة عن رغبتها في المشاركة في إعادة الإعمار بعد حرب العراق مع تنظيم (داعش).

لكن يجب على المملكة العربية السعودية أن تأخذ بعين الاعتبار أن هناك الكثير من التحديات تجاه خطواتها لتحسين علاقتها بالعراق، ويأتي على رأس هذه التحديات، عدم انزلاق الرياض إلى تحويل العراق إلى أحدث ساحة لمعارك الحرب الباردة مع إيران.

من المتوقع أن تزداد وتيرة الانخراط السعودي في العراق، خاصة بعد نتائج الانتخابات العراقية العامة التي جرى إجراؤها في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وحصول مقتدى الصدر على أكبر عدد من مقاعد البرلمان العراقي (72 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا)، وكان الصدر قد أعلن مرارًا وتكرارًا رغبته في إعادة العراق إلى محيطه العربي، ويشارك الصدر الرؤية نفسها، أبرز الفائزين في الانتخابات، وهما حزب تقدم بقيادة رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي السياسي السني البارز، والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، والذي يتمتع بعلاقات طيبة مع دول الخليج.

نجاح السياسيين العراقيين المنفتحين على إعادة الاتصال بالسعودية، سيكون عاملًا مهمًا في تحسين العلاقات بين البلدين، أما إذا كان هدف المملكة من هذا الانخراط هو دحر النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال العراق، فتنقلب الأمور إلى الأسوأ.

يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة بين النهرين، والذي فضل الحديث لـ«ساسة بوست»، دون الكشف عن هويته: «هناك الكثير من العراقيين ينتقدون النفوذ الإيراني في بلادهم، وقد ازدادت هذه الأصوات في السنوات الأخيرة، لكن ليس معنى هذا أنهم سيوافقون على الاستبدال بالنفوذ الإيراني آخر سعودي، لذلك يجب أن تكون الرياض حذرة بشأن هذا الأمر؛ لأن أي تدخل سعودي بغرض إطاحة الوجود الإيراني بشكل كامل من العراق، يفسره العراقيون على أنه بداية لتحويل بلادهم إلى ساحة معركة جديدة، هم في غنى عنها، خاصة بعد الحروب الطويلة التي خاضوها».

إن انخراط المملكة العربية السعودية في العراق له الكثير من المزايا للجانبين، على سبيل المثال، سيؤمن هذا الانخراط الإيجابي للمملكة، تأمين جناحها الشمالي الشرقي، ففي الآونة الأخيرة، زاد الحديث عن استهداف السعودية من داخل الأراضي العراقية، وإلقاء اللوم في هذا الأمر على الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران، الداعمة للحوثيين في اليمن.

يريد السعوديون منع الهجمات الصاروخية وهجمات الطائرات المسيرة من الأراضي العراقية ضد المملكة، وهذا الأمر دفعها إلى تكثيف تعاونها مع الحكومة العراقية الحالية لتقليل المخاوف من التطويق الصاروخي لمصالح المملكة، ويرى المسؤول الحكومي العراقي السابق أن هذا الأمر لن يتم إلا إذا أثبتت السعودية حسن نيتها في العراق.

فيقول لـ«ساسة بوست»: «الرياض تعلمت درسًا موجعًا في حربها في اليمن، وأدركت أن إستراتيجية التدخل في شئون البلاد المجاورة، يجلب الخسائر، وهي الآن بحاجة إلى التعاون مع العراق لتأمين أراضيها من هجمات الجماعات المدعومة من إيران، في وجهة نظري هذا لن يحدث إلا إذا تعاونت السعودية مع إيران في العراق، من خلال الاستثمار وتقوية الاقتصاد العراقي، والحفاظ على الأمن العراقي، حينها من الممكن أن يكون للمصالح الاقتصادية دورًا قويًا في تقوية العلاقات وتأمين أمن السعودية.

جدير بالذكر أنه في يناير (كانون الثاني) 2021 أعلنت السعودية اعتراضها هجومًا صاروخيًا باتجاه الرياض، وألقت باللوم على جماعة الحوثيين في اليمن، لكن في الوقت نفسه أعلن فصيل الوية الوعد الحق، وهو فصيل مسلح شيعي، جرى تأسيسه والإعلان عنه بعد اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، ورفيقه العراقي، أبو مهدي المهندس، نائب رئيس وحدات الحشد الشعبي في يناير 2020 بالقرب من مطار بغداد الدولي، مسؤوليته عن الهجوم، ومهددًا السعودية بمزيد من الهجمات.

لذلك يجب على السعودية إعطاء الأولوية للمشاركة الاقتصادية مع العراق، وتحقيق مكاسب فورية يمكن للمواطن العراقي رؤية نتائجها على أرض الواقع، كما يجب على الحكومة العراقية مساعدة السعوديين في الاستثمار في العراق، من خلال تمرير التشريعات التي من شأنها أن تسهل عمل المستثمرين، وتكثيف محاولات القضاء على الفساد.

هناك أيضًا تحد آخر أمام المملكة في طريقها لتحسين العلاقات مع العراق، وهو القضاء على الخطاب الطائفي المحرض على الكراهية، فيجب على السعودية أن تستعيد ثقة المجتمع الشيعي العراقي، الذي ظل لسنوات ينظر إلى السعوديين على أنهم مصدر التهديد السني لبلادهم. هذه المسألة ليس من الصعب تحقيقها، خاصة أن المرجعيات الدينية الشيعية في النجف هي نموذج مختلف عن المرجعيات الدينية في مدينة قم الإيرانية، والتي تتخذ من مبدأ ولاية الفقيه أساسًا لها، بعبارة أخرى سيكون العمل مع النجف أسهل بكثير إذا كانت المؤسسات الدينية في السعودية تمتلك هذه الإرادة.

لذلك من المهم بالنسبة للسعودية في محاولاتها للانخراط في العراق عدم التواصل فقط مع السياسيين الشيعة، بل يجب أن تقترب من المواطنين أنفسهم، وتعمل على تحسين صورتها في ذاكرة العراقيين، والقضاء على خطاب الكراهية الذي تبناه رجال الدين في السعودية تجاه الشيعة.

في النهاية لا يمكن إغفال أن مخاطر الانخراط السعودي في العراق مرتفعة للغاية، لكن تحقيق التعاون بين البلدين ليس مستحيلًا إذا جرى وفقًا لرؤية تهتم ببناء دولة عراقية قوية، تستعيد وزنها الإقليمي، وخطة تستبعد أن لعب دور التحريض ضد النفوذ الإيراني في العراق، وهذا يعني أنه في مرحلة من المراحل يجب على السعودية التعاون مع إيران بشأن تعزيز مكانة العراق؛ لأن ما يطمح له العراقيون من علاقاتهم بجيرانهم العرب أو الإيرانيين هو أن لا يكونوا ساحة معركة بين طرفين، وأن يستعيدوا استقرار وأمن بلادهم.

المصادر

تحميل المزيد