في ظل توقعات أزمة ركود عالمية تبدأ من أوروبا التي أضحت بؤرة انتشار فيروس كورونا الذي طال 750 ألفًا من سكانها وهو نصف عدد المصابين عالميًا؛ أطلق الاتحاد الأوروبي في 31 مارس (آذار) الجاري، إعلان تشكيل عملية إيريني العسكرية التي تعني باللغة اليونانية «السلام»، بهدف مراقبة بحرية لتطبيق قرار حظر توريد الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا، بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي عام 2011.
العملية العسكرية الأوروبية المرتقب حصولها على الضوء الأخضر من الأمم المتحدة خلال يومين، رفضتها حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، بينما رحّب بها الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي يقود منذ عامٍ معركة السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس، التي بدا سقوطها قبل القرار الأوروبي أصعب من أي وقتٍ مضى، أمّا بعده فقد أضحت وفق نظر البعض أقرب مما يتصوّر الجنرال نفسه.
التقرير التالي يوضح لك كيف يمكن أنّ تتغير خريطة الحرب في ليبيا لصالح حفتر في حال منحت الأمم المتحدة عملية إيريني شرعية دولية.
لماذا أطلقت أوروبا عملية عسكرية في ظل انشغالها بكورونا؟
بحسب بيانات منصة «وورلد ميتر» الدولية المتخصصة في الإحصائيات؛ فإيطاليا وألمانيا وفرنسا يحتلون الترتيب الثالث والرابع والخامس عالميًا باعتبارهم أكثر الدول المتفشي فيها فيروس «كورونا» بإجمالي إصابات بلغت -حتى وقت كتابة التقرير- 350 ألف إصابة مؤكدة، وهو يمثل نحو نصف إصابات قارة أوروبا بأكملها.
الوباء لم يمنع الدول الثلاث من حشد الاتحاد الأوروبي لإطلاق عملية عسكرية سيكون مقرها في إيطاليا، نظرًا إلى قرب موانئها من السواحل الليبية، دون اعتبار إلى أنّ روما هي بؤرة تفشي المرض، لكنّ الاتحاد الأوروبي له رأيٌ آخر: «ليبيا هي إحدى أولوياتنا حتى في ظل انشغالنا في هذه الأوقات الصعبة مع تفشي الفيروس التاجي».
اللافت أنّ عملية إيريني تأتي بعد نحو أسبوعٍ واحد فقط من إطلاق حكومة الوفاق معركة «عاصفة السلام» التي هدفت للانتقال إلى مرحلة الهجوم بعد الدفاع، وتوّجت بانتصاراتٍ تمثلت في السيطرة الكاملة لأول مرة على سماء غرب ليبيا، بعد اقتحامها لقاعدة «الوطية» الجوية الاستراتيجية -140 كلم جنوب غرب طرابلس-، وقبلها قصفت مسرح العمليات المتمثل في قاعدة «الجفرة» الجوية –وسط ليبيا- ودمّرت حظيرة طائرات مسيرة وطائرة شحن ومنظومة للدفاع الجوي.
طيران الوفاق تمكّن من تدمير غرفة عمليات سرت الكبرى -450 كم شرق طرابلس- التابعة لحفتر، والقضاء على نحو 200 من قادة ومسلحي الجنرال الليبي الذي تجاهل مؤخرًا دعوات أممية دولية، بالإضافة لدعوات دول إقليمية داعمة له، من أجل وقفٍ فوريٍّ لإطلاق النار لأسبابٍ إنسانية، ومنع تفشي كورونا داخل ليبيا، لكنه لم يعبأ بدعوات حلفائه وخصومه، أصرَّ على إكمال المعركة التي بدأها قبل عامٍ دون جدوى لإسقاط العاصمة طرابلس، فجاءت ضربة الوفاق عبر «عاصفة السلام» التي حوّلت مسار المعركة.
صحيفة «العربي الجديد» نقلت عن مصادر ليبية مقربة من قيادة حفتر عن انسحابات كبيرة في صفوف قواته، نتيجة النشاط الجوي لحكومة الوفاق، وهو ما أدى إلى انسحاب فصائل مرتزقة «الجنجاويد» السودانية التي رفضت إرسال مسلحيها من معسكراتها في محيط قاعدة الجفرة إلى محاور القتال في جنوب طرابلس إلا بعد تأمينها من الضربات الجوية.
ربطت حكومة الوفاق التطورات العسكرية على الأرض بعملية إيريني الأوروبية، واعتبرته على لسان وزير خارجيتها ردًا مباشرًا على هزيمة الجنرال الليبي، وأنّ «تطبيق القرار بهذا الشكل يضعه موضع اتهام بأن المستهدف بالرقابة هي حكومة الوفاق، في إغفال وتجاهل تام لأي رقابة على عملية تسليح حفتر».
والهدف غير المُعلن لعملية إيريني هو وقف الإمدادات العسكرية التركية تحديدًا لحكومة الوفاق، بعد توقيع اتفاق أمني في ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي يسمح بإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، وهو الذي يعتبره الاتحاد الأوروبي مهددًا لسلام دول البحر المتوسط، فيما تعتبره حكومة الوفاق أنه اتفاق قانوني.
أمّا الأهداف المُعلنة للعملية العسكرية الأوروبية التي ستكون لمدة عام قابلة للتجديد، فتتمثل في تطبيق قرار حظر توريد الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، إضافة إلى جمع معلومات حول صادرات النفط غير القانونية، ومكافحة تهريب البشر وتدريب خفر السواحل الليبي، والدفاع عن المصالح السياسية والأمنية للأوروبيين في البلد النفطي. على جانبٍ آخر، اختلفت الحسابات السياسية والعسكرية لكل من حفتر والوفاق في التعاطي مع إيريني نظرًا لتأثر كل طرف بالمعادلة الخاصة به في دائرة الصراع.
ليست «صوفيا».. لماذا رفضتها حكومة الوفاق؟
في أبريل (نيسان) عام 2015، أطلق الاتحاد الأوروبي عملية «صوفيا» العسكرية في جنوب وسط البحر المتوسط بهدف صد المهاجرين القادمين من السواحل الليبية، وتفكيك شبكات الاتجار بالبشر، ورغم أنّ الميزانية قُدرت تكلفتها بنحو 11.82 مليون يورو خلال 12 شهرًا فقط، إلا أنّ العملية فشلت في تحقيق أهدافها باعتراف أوروبي، نتيجة لاختلاف وجهات النظر.
فبينما تفضل بريطانيا وفرنسا استخدام القوة العسكرية ضد مهربي البشر، تنتهج ألمانيا موقفا أكثر حذرًا تجاه العمل العسكري في البحر، وهو ما صنع اختلاف وجهات النظر الذي قاد في النهاية إلى انقساماتٍ توّجت بتخفيض مهام «صوفيا» رسميًا فبراير (شباط) الماضي.
ورغم أنّ أهداف «صوفيا» لا تختلف عن «إيريني»، إلا أنّ حكومة الوفاق دعمت الأولى وعارضت الثانية، نتيجة إضافة بند «حظر توريد السلاح»، وهو ما تعتبره الهدف الرئيس لأوروبا دون غيره، وحتى الآن تبني حكومة الوفاق رفضها على أساس أنها تخالف القانون الدولي، وتشكلت دون تفويض من مجلس الأمن، وأنّ الاتحاد الأوروبي ليس له أية سلطة على سيادة الدول خارج نطاقه.
ولأنّ العملية لم تُطلق من أجل السلام في ليبيا، فإن دخول أطراف داعمة على رأسهم فرنسا، التي ستكون أكبر المساهمين في العملية يثير مخاوف حكومة الوفاق في ظل اتهام مجلس النواب الاتحاد الأوروبي بالسعي لتمكين حفتر ودعمه بالطرق الملتوية، وأن اقتصار حظر توريد الأسلحة على البحر دون الجو والبر اللذين يعدان طريقًا مباشرًا ورئيسًا لتسليح حفتر على سعي الأوروبيين لتقييد الشرعية دون المعتدي، بحسب ما جاء في البيان الرسمي.
وتخشى الوفاق من تعطيل مذكرة التفاهم بينها وبين تركيا، وهو ما سيحرمها من الشريان الرئيسي الوحيد الداعم لها، في وقتٍ يستمر فيه السماح بتدفق السلاح إلى قوات حفتر عبر الحدود البرية الليبية المصرية، وعن طريق الرحلات الجوية من مطارات أبو ظبي، بحسب اتهامات رسمية.
وعن وجهة النظر التركية، يقول الصحافي التركي طه عودة أوغلو لـ«ساسة بوست»: «تشعر أنقرة بانزعاج كبير حول تأثير التحركات الأوروبية الأخيرة، وفي حال أعطى مجلس الأمن الضوء الأخضر للاتحاد الأوروبي سيكون الموقف التركي رافضًا لعدة أسباب، أهمها أن حظر توريد السلاح إلى ليبيا على البحر سيكبل طرفًا دون آخر». يُضيف أوغلو: «تركيا ترى تنفيذ الحظر على الأسلحة يجب أن يكون تحت إشراف الأمم المتحدة وليس الاتحاد الأوروبي، ليكون الضامن لإفشال أي جهود أوروبية لتطويق أنقرة في ليبيا».
خطة جديدة من 3 محاور.. هل ينتصرُ حفتر أخيرًا بدعمٍ أممي؟
على مر ست سنوات، خاض حفتر أكثر من خطة سياسية وعسكرية لإسقاط طرابلس بداية من محاولة الانقلاب الفاشلة في فبراير عام 2014، ثم إطلاقه عملية الكرامة تحت شعار «محاربة الإرهاب»، وهي الخطة التي نجحت في إخضاع الشرق الليبي ثم استحواذ في هدوء على الجنوب الليبي، حاصدًا في طريقه أغلب المنشآت النفطية، لكنّ نجاح مشروعه العسكري بدا ناقصًا من زاوية سياسية واقتصادية.
تمتلك حكومة الوفاق المعترف بها دوليا حصرًا حق بيع النفط عبر المؤسسة الوطنية بموجب قرارات دولية صارمة حيّدت مؤسسة النفط الرسمية بعيدًا عن الصراع السياسي، ورغم أنّ الجنرال الليبي فرض نفسه سياسيًا في ليبيا عبر سيطرته العسكرية، إلا أنّه لا يمتلك حتى الآن شرعية بيع النفط في المناطق التي يسيطر عليها، ويطالب حفتر رسميًا بتقسيم عائدات النفط بينه وبين حكومة الوفاق، وهي الأزمة الحقيقة التي تعرقل حلم الجنرال الليبي.
وحاليًا يبني حفتر خطته على ثلاثة محاور؛ حصار عسكري لقواته حول العاصمة طرابلس، وحصار اقتصادي عبر وقف إنتاج النفط وتصديره الذي يمثل نحو 90% من مصادر الدخل الليبي، لتبلغ حصيلة الخسائر في ثلاثة أشهر نحو 2.7 مليار دولار كما قدّرها مصرف ليبيا المركزي؛ أما المحور الثالث فيتمثل في الحصار المرتقب الذي ستتكفل به عملية إيريني لمنع وصول إمدادات السلاح التركي إلى الوفاق، لتبدأ فرصة جديدة لحفتر لإسقاط طرابلس ممثلة في معركة الوقت.
قراءة حفتر لتأثير عملية إيريني الإيجابي على مشروعه العسكري، دعا للترحيب السريع للمبادرة الأوروبية التي على وشك الحصول على موافقة أممية لمنحها صلاحيات تطويق طرابلس، خاصة أنّ المبادرة تجاهلت مسألة الرقابة على تسليح قوات حفتر برا وجوا.
ويرى الجنرال الليبي أنّ التوازن العسكري الأخير الذي حققته حكومة الوفاق في سير المعارك على الأرض مرهون بمساعدات تركيا، التي حوّلت مسار المعركة بعد ظهور المقاتلات التركية في شوارع طرابلس إلى جانب الطائرات المُسيرة التي استغلت بُعد القواعد الجوية التابعة لحفتر عن مواقع الاشتباكات، وبدأت في قصف الخطوط الخلفية بدقة، ومنعت قوات الجنرال الليبي من التقدم.
استعانة الوفاق بحليفها القوي، أجبر غريمها على خوض الحرب حتى النفس الأخير، رغم فشله في إحراز أي انتصارات فارقة. وفي منتصف المعارك؛ وجه الجنرال الليبي قواته للمحافظة على الذخيرة، وهو ما كشف تعرضه لأزمة مالية لتمويل حربه.
وفي ظل عدم اعتراض روسيا على عملية إيريني، يضمن حفتر بألا يواجه المشروع الأوروبي فيتو روسي داخل مجلس الأمن أثناء مناقشته، وهو ما يؤثر فعليًا على العملية العسكرية الواسعة التي تخوضها حكومة الوفاق حاليًا ويقوّض انتصاراتها الأخيرة، لأن طرابلس باتت فعليًا في أزمة مالية جراء وقف تصدير النفط، وأزمة عسكرية قد تحدث جرّاء قطع الإمدادات.
وبعد عامٍ من المحاولات الفاشلة للمعركة التي أطلقها حفتر لإسقاط طرابلس، بدت العاصمة قبل القرار الأوروبي أكثر من أي وقتٍ مضى عصية على السقوط، أمّا بعده فقد أضحت أقرب مما يتصوّر الجنرال نفسه، الذي حصل للتو على فرصة جديدة لإنقاذ مشروعه العسكري، وفي ظل وصول الأزمة لطريق مسدود عبر المبادرات السياسية، لم يكن أمام أوروبا على ما يبدو سوى تجاهل الصراع العسكري على أمل أن يفرض المنتصر شرعيته السياسية.
وحتى الآن لم يصدر عن تركيا أيه تصريحات رسمية للتعليق على العملية الأوروبية، كما لم تفصح بعد حكومة الوفاق عن خياراتها للتعامل مع إيريني، التي تعتبر تشكيل الوفاق جاء مخالفًا للقانون الدولي، وهي الأوراق الجديدة التي قد تقلب معادلة السياسة والحرب من جديد في ليبيا، التي تشهد حربًا بالوكالة بين عدة قوى دولية وإقليمية.