تشهد الجزائر منذ 22 فبراير (شباط) الماضي احتجاجات شعبيّة واسعة عمّت كل أرجاء البلاد ضد حكم الرئيس بعد العزيز بوتفليقة الذي يعاني من تدهور صحّته، والذي يتواجد على رأس السلطة من سنة 1999. وقد استدعت هذه الاحتجاجات مقارنات بين الحالة الجزائريّة وبين موجة الربيع العربي، إذ رأى البعض أنها امتداد للثورات العربيّة التي انطلقت سنة 2011، في حين أنّ الكثيرين من داخل هذه المسيرات يتّجهون إلى التأكيد على أنّ للجزائر ظروفها الخاصة وسياقها التاريخي الخاص، إذ شهدت انتقالًا ديمقراطيًا منذ سنة 1988، جرى إجهاضه خلال العشريّة السوداء سنة 1999.

عبد القادر بن صالح.. رفيق درب بوتفليقة الذي قد يخلفه مؤقتا في الحكم

«حراك لا ثورة».. حملة علاقات عامّة لبعث رسائل مطمئنة

يمكن القول بوجود شبه اتّفاق من طرف الفاعلين في الحراك الشعبي بالجزائر، على تجنّب الاسماء التي قد تشوّش على هذه الاحتجاجات الشعبيّة وتربطها بسياق الربيع العربي، الذي غالبًا ما يترك انطباعًا سلبيًّا عند الكثيرين، بسبب الواقع الحالي الذي آلت إليه الكثير من بلدان الربيع العربي. فأُطلق على هذه الاحتجاجات اسم «الحراك» من أجل تجنّب لفظ «الثورة» الذي أصبح مرتبطًا بتجارب الثورات العربيّة التي آلت إلى نتائج غير محمودة في عدّة بلدان، كما أن هنالك شبه توافق على اعتبار ما يحدث في الجزائر «حالة خاصة» لا علاقة لها بموجة الربيع العربي، وذلك نتيجة حملة علاقات عامّة من أجل إبعاد صُور الدمار والدماء والسجون التي التصقت بمصطلح «الربيع العربي» في الكثير من الأذهان.

الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة

بالإضافة إلى ذلك فإنّ هناك اتجاهًا يرى بأنّ الحالة الجزائريّة هي حالة متجاوزة لسياق الربيع العربي، إذ شهدت الجزائر بداية انتقال ديمقراطي بعد احتجاجات 1988، وعرفت تعدّدية حزبية وانتخابات برلمانيّة جرى إيقافها من طرف الجيش الذي استولى على السلطة ودخل في حرب عنيفة مع الاسلاميين؛ أدت إلى دخول البلاد في حرب أهلية عرفت باسم «العشرية السوداء».

وقد جرت عدّة مقارنات بين ما شهدته الجزائر في التسعينات مع الحالة المصرية بعد سيطرة الجيش على السلطة في سنة 2013، ولذلك فإن الكثير من الجزائريين يتجنّبون الربط ما بين الربيع العربي والأحداث الحاليّة في الجزائر. صحيح أن ذلك قد يرجع إلى بروز بعض من التصورات التي تتسم ببعض الشوفينيّة وتركّز على «التفرّد الجزائري» وتميّزه عن محيطه العربي كما قد تحبّ أن تؤمن بعض القطاعات من الشعوب، ولكن السياق التاريخي يعطي لهذا التفسير شيئًا من الصحّة، خصوصًا بسبب الاختلافات الكثيرة التي تعرفها الحالة الجزائريّة مقارنة بالبلدان التي أصابتها موجة الثورات العربية.

حراك 2019 ليس الأوّل.. حكايات انتفاضات الجزائريين المُجهضة منذ الاستقلال

الشرطة تحمي الحراك.. تجنّب للصدام يثير تساؤلات

أحد المتغيّرات التي تؤكّد على تفرّد الحالة الجزائريّة عن نظيراتها في الدول العربيّة، كان تعامل جهاز الشرطة الجزائريّة مع الاحتجاجات، فقد تعلّم هذا الجهاز الدرس جيّدًا من أحداث 2011 التي اندلعت والتي سُمّيت حينها بـ«ثورة الزيت والسكّر» التي جاءت في سياق مُلتهب شهدت ثورات في عدّة مناطق عربية. لكن الجزائر استطاعت تفادي ذلك السيناريو بسبب عدّة إجراءات اقتصاديّة واجتماعيّة اتخذتها الحكومة لامتصاص غضب الشارع، لكن أهمّ محدّد كان تعامل الشرطة، إذ جاءت أوامر شديدة الصرامة بعدم استخدام الرصاص الحيّ بأي ثمن، وهو ما قلّل من عدد الوفيات، رغم العنف الشديد الذي اتسمت به الاحتجاجات حينها. إذ جرى إحراق العديد من السيّارات والمحلات والمرافق العموميّة، ورغم ذلك فقد التزمت الشرطة وقوّات مكافحة الشغب بالأوامر المتعلّقة بعدم إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وهو ما خفّف من حدّة الاحتجاجات إلى غاية نهايتها.

بعد هذه الموجة الاحتجاجيّة في 2011، شهدت الشرطة الجزائريّة عدّة دورات تدريبيّة في كيفية التعامل مع الاحتجاجات والمظاهرات الغاضبة وكيفية التعامل مع عدد كبير من الحشود، خصوصًا وهي ترى كيف أن تعامل الشرطة العنيف في عدّة بلدان مجاورة قد أجّج من حدّة المسيرات وضاعف من عدد المتظاهرين ممّا أدى إلى سقوط الأنظمة في مصر وليبيا، خصوصًا الجارة تونس التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي بسبب عنف الشرطة، إذ إن إحراق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه بعد إهانته من طرف شُرطية كان السبب في اندلاع احتجاجات قويّة في مدينة سيدي بوزيد ثم انتقالها إلى عدّة مدن تونسيّة أخرى لتنتهي بإسقاط الرئيس بن علي من السلطة.

وقد شهد جهاز الشرطة الجزائري تغيّرات كبيرة في أدائه على يد رئيس الجهاز السابق عبد الغاني الهامل، ذي الخلفية العسكريّة، وقد كان الهامل من الشخصيّات المتداولة إعلاميا من أجل خلافة الرئيس بوتفليقة، لكن «مجزرة الإقالات» التي شهدتها الجزائر في صيف 2018؛ أطاحت به من رأس الجهاز بعد أكثر من ثماني سنوات على تقلّده المنصب، ليأتي بعده رئيس الحماية المدنية ويترأس جهاز الشرطة، قبل أن يُقال هو نفسه بعد أقلّ من سنة من تقلّده المنصب، ويحلّ على رأس الجهاز قارة بوهدبة، باعتباره أوّل رئيس لجهاز الشرطة يُرقّى من داخل الجهاز نفسه، وليس من أجهزة أخرى، مثل الجيش أو الحماية المدنيّة، وهو ما يفسّر أيضًا طبيعة معاملة الشرطة غير الصدامية مع الاحتجاجات التي تشهدها الجزائر رغم جذريّة المطالب المتعلّقة برحيل رأس النظام.

لكن ما لا ينبغي إغفاله أيضًا هو أن جهاز الشرطة لم يكن في معزل عن الموجات الاحتجاجيّة الشديدة التي شهدتها الجزائر في السنوات الأخيرة من عدّة قطاعات عمّالية ونقابية، إذ نظّم مئات الأفراد من الشرطة احتجاجات صادمة في العاصمة الجزائر في سنة 2014 تنقّلت إلى غاية مقرّ الرئاسة، وطالبوا بالسماح لهم بإنشاء نقابة تدافع عن حقوقهم، وقد عبّرت تلك الاحتجاجات وقتها عن غضب وتذمّر داخل جهاز الشرطة عن ظروف العمل وعن اعتراض على السلطة بشكل عامّ.

هل ساهم تفكيك جهاز المخابرات في إنجاح الحراك الشعبي؟

وفي سياق الحديث على جهاز الشرطة، لا يمكن تجاهل الحديث عن جهاز أمني آخر كان حتى وقت قريب يشكّل بعبُعًا يُرعب الساحة السياسيّة كلّها موالاة ومُعارضة، وكان يتقاسم السلطة إلى جانب الجناحين الآخرين (الرئاسة والجيش)، ونقصد هنا «مديرية الاستعلامات والأمن (DRS)» أو جهاز المخابرات. فقبل أن يتعرّض هذا الجهاز إلى حرب شعواء من طرف مُعسكري الجيش والرئاسة اللذيْن نجحا في سلخ أغلب صلاحيّاته وإحالة بعض جنرالاته للمحاكمة ثمّ السجن، بالإضافة إلى إقالة رئيسه التاريخيّ؛ الجنرال توفيق، الذي كان يوصف بـ«ربّ الجزائر» و«صانع المخابرات»، كان هذا الجهاز هو المكلّف بالهيمنة على الحياة السياسيّة في البلاد والضامن لأن تبقى مُغلقة ومتحكّمًا فيها من طرف السلطة.

إذ كان ينتشر رجال هذا الجهاز في كلّ الأحزاب معارضةً وسُلطة، بالإضافة إلى انتشاره في وسائل الإعلام وداخل النقابات وفي الوزارات وكل أجهزة الدولة الحسّاسة تقريبًا، ويعود هذا الانتشار إلى الصلاحيات الضخمة التي نالها الجهاز في فترة التسعينات أثناء العُشرية السوداء التي عاشتها الجزائر، لكن هذه الصلاحيّات بقيت بعد نهاية العشرية ومع مجيئ بوتفليقة، الذي عُرفت المرحلة الكبرى من فترة حُكمه (العهدات الثلاث الأولى) بكونها صراع أجنحة بين جناح الرئيس وجناح توفيق.

لكن وبعد انتصار الجناح الرئاسي في هذه الحرب الباردة التي استمرّت لعقديْن كامليْن، وإعلان محيط بوتفليقة بأنّ الجزائر أصبحت أخيرًا «دولة مدنيّة»، بمعنى إزاحة نفوذ العسكر عن الحياة السياسيّة، لم ينعم بوتفليقة بهذه «الدولة المدنية» طويلًا؛ فبعد سنوات قليلة فقط، انطلقت الاحتجاجات الشعبيّة التي تطالب بتنحّيه عن الرئاسة. لا يمكن معرفة إن كان هذا الحراك كان سينفجر إن كان جهاز الجنرال توفيق لا زال يملك كل تلك الصلاحيات الضخمة أم لا، لكن ممّا لا شكّ فيه أن الحرب التي دخلتها أجهزة الدولة أو مراكز النفوذ بين بعضها البعض أضعفت أداءها بشكل كبير وجعلتها تستنزف الكثير من الموارد في هذا الصراع، بدلًا عن محاولة تدارُك الأوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت تتّجه نحو الانهيار بشكل صاروخي، أو على الأقل الانتباه لمؤشّرات الانفجار المجتمعي التي كانت الكثير من الشخصيات المُعارضة تحذّر منها منذ سنوات، ويدركها المواطن البسيط في الشارع قبل الأجهزة المكلّفة برصد هذه الظواهر.

فقد شهدت الجزائر مثلًا في سنة 2017 وحدها أكثر من 5 آلاف احتجاجًا في مختلف أنحاء البلاد، وبالتالي فإن هذه النقطة تعدّ أيضًا من بين أبرز الاختلافات بين الحالة الجزائريّة ونظيراتها في الثورات العربية الأخرى، فجِهاز الدولة القمعي الأبرز (المخابرات) الذي لطالما أرعب المعارضة وتحكّم في الحياة السياسيّة بمختلف تفاصيلها، كان قد جرى تحييده بأيدي الدولة نفسها، عكس الحالة التونسية والمصرية التي كانت فيها الأجهزة الأمنية في أعتى قوّتها.

الشيخ علي بن حاج.. المعارض الذي لا زال يخيف النظام بعد 20 سنة من العشرية السوداء

«الشعب يريد إسقاط النظام».. شعارات «الربيع العربي» حاضرة رغم التحفّظات

عندما انطلقت موجة الثورات العربيّة المسمّاة بالرّبيع العربي من تونس، لم تكن الجزائر بمعزل عن هذا السياق، إذ شهدت هي الأخرى العديد من الاحتجاجات الشعبيّة في الكثير من المناطق والمدن وعُرِفت بـ«أحداث الزيت والسكّر» بعدها، واتّسمت بالكثير من حوادث العنف وتخريب للمرافق العمومية، بالإضافة إلى حدوث اشتباكات قويّة مع الأجهزة الأمنيّة، كما أنّها كانت أساسًا ترفع مطالب اجتماعيّة مثل غلاء الأسعار والبطالة، ولم تتطوّر إلى مطالب سياسيّة بشكل واسع رغم بعض المبادرات من بعض الأحزاب والشخصيّات السياسيّة، وبسبب هذا العنف الذي سادها إلى حدّ كبير، فشلت في جلب فئات شعبيّة واسعة للانضمام إليها، إذ لم تعرف مشاركة المرأة أو القطاعات العمّالية المنظّمة وطلبة الجامعات وغيرهم كما هو الحال مع الحراك الشعبيّ الحالي، وسرعان ما انطفأت هذه الأحداث بعد أيّام قليلة من اندلاعها في يناير (كانون الثاني) 2011.

لكن ما الذي تغيّر بين 2011 و2019؟ يمكن القول بأن الكثير من المتغيّرات داخل بنية الدولة والجيش والأجهزة الأمنية، وحتى على المستوى الشعبي تغيرت خلال هذه الفترة، ولعلّ أبرزها هو صحّة الرئيس بوتفليقة التي جعلته يختفي تمامًا من المشهد السياسي ليترك المجال لحالة شديدة الغموض في أعلى هرم السلطة، وتنتقل صلاحيّاته إلى «القوى غير الدستورية» كما وصفتها بعض شخصيّات الموالاة.

بالإضافة إلى ذلك فإن أحد أبرز الاختلافات كان دخول الانترنت إلى الهواتف من خلال شبكة 3G، والتي كانت الجزائر من بين آخر البلدان في العالم التي تعرف دخول هذه التكنولوجيا سنة 2013، وقد اتاحت هذه التكنولوجيا وصول شبكات التواصل الاجتماعي إلى فئات أكبر، وبالتالي قدرة أكبر على الاتصال والتنسيق وإيصال المعلومات بين فئات كبيرة من الشباب، وهو ما ساهم في الوصول إلى لحظة 22 فبراير.

في جوابه عن التشابهات بين ثورات الربيع العربي سنة 2011 وبين الحراك الحالي، يرى الكاتب الصحافي نجيب بلحيمر في حديثه لـ«ساسة بوست» أن هنالك فروقات بين الحالة الجزائريّة ونظيرتها في البلدان العربية: «هناك فوارق كثيرة بين ما يجري في الجزائر وما حدث في المنطقة العربية سنة 2011، تونس بن علي كانت دولة بوليسية، ولم تكن هناك أي هوامش للحرية أو التعبير أو حتى للمشاركة في الحكم، وتقريبًا الوضع نفسه عاشته مصر، أما في الحالتين السورية والليبية؛ فالأنظمة مغلقة تمامًا، أمّا هنا فنحن أمام وضع مختلف ويتعلق بنمط في الحكم وصل إلى نهايته، هذا النمط يقوم على ثنائية السلطة بين واجهة ظاهرة وسلطة فعلية تحكم فعليًا، وهذا الوضع أدى إلى حالة غير مسبوقة في عهد بوتفليقة بسبب دخول عناصر جديدة مثل رجال المال المتحالفين مع بقية مكونات الحكم. نحن أمام وضع خاص يطالب فيه الناس بالحد الأدنى من الشفافية في ممارسة الحكم بعد أن أخرج مرض الرئيس وغيابه الحكم الخفي إلى العلن».

سلميّة الحراك وتعامل قوى الأمن التي لم تلجأ للصدام رغم جذرية المطالب (رحيل رأس الدولة) أثارت دهشة وإعجاب الكثير من المتابعين، ورسمت صورة مُغايرة لما شهدناه في الكثير من البلدان التي شهدت احتجاجات منذ 2011، في هذا السياق يضيف الصحافي بلحيمر لـ«ساسة بوست»: «عدم قمع المظاهرات يعود إلى عدم وجود جهة معينة يمكن اتهامها بخرق النظام، فهذه المظاهرات كانت عفوية وتبلورت فكرتها من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وهذا يجعل قمعها مخاطرة كبيرة، فلا وجود لخصم مفترض يمكن تحميله مسؤولية الانزلاقات، ثم هناك عامل آخر هو العدد الهائل من المتظاهرين الذي يزيد من المخاطر المترتبة عن قرار القمع والكلفة المترتبة عليه. العامل الثالث هو هشاشة موقف السلطة وصعوبة الدفاع عن خيار العهدة الخامسة سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا».

وبسؤال محاورنا عما إذا استطعنا القول تجاوُزًا إن الربيع العربي لم يحقّق أهدافه في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها، لماذا قد تكون التجربة الجزائرية مختلفة عن غيرها رغم أنها استخدمت نفس وسائل وأدوات الربيع (المسيرات، الخروج للشارع) وحتى شعاراته، فقد سمعنا شعارات «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ يرى بلحيمر أنه «لا يمكن الحديث عنه كظاهرة واحدة، هذا التعميم غير موضوعي، يجب الحديث عن تجارب الانتقال الديمقراطي في كل دولة بحسب طبيعتها وتكوين مجتمعها، والحالة الجزائرية لا يمكن النظر إليها بمعزل عن طبيعة نظام الحكم وعن الخلفيات التاريخية التي تلخصها ثورة التحرير وأزمة تسعينيات القرن الماضي. عملية التحول تستغرق وقتًا طويلًا، ولها كلفتها الاقتصادية والاجتماعية، أما اللحظة الحالية فهي مجرد محاولة لإطلاق هذه العملية».

«لا تقعوا في الفخّ».. 10 دروس مستفادة للجزائريين من ثورة مصر

المصادر

تحميل المزيد