كان نيكولاس مادورو، وهو رئيس واحدة من أفقر دول أمريكا اللاتينية، فنزويلا، ينظر إلى واشنطن، وخاصة وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، كونها السبب الرئيسي في المتاعب التي تواجهها فنزويلا، قائلًا إن الولايات المتحدة ومنظمة «أوبك» -وهي منظمة عالمية تضم الدول المصدرة للبترول- تشنان حربًا للإطاحة بحكومته اليسارية. وقد كان مادورو واحدًا ممن وقفوا في وجه تدخل الولايات المتحدة في شؤون دول أمريكا اللاتينية، وذلك عن طريق التحالف مع بعض الدول المثيرة للجدل؛ مثل روسيا، والصين، وإيران، وكوبا.

في عام 2014، وبعد عامٍ من تولي نيكولاس مادورو رئاسة البلاد، عانت فنزويلا من عدة أزماتٍ متفاقمة، كان أهمها نقص الغذاء والدواء، وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر، إضافة إلى الفساد، والتضخم الاقتصادي المهول المتصاعد، وذلك بعد أن كانت فنزويلا من أغنى دول أمريكا اللاتينية بسبب ثروتها النفطية غير المحدودة، إلا أنه ونتيجة لتراجع أسعار النفط، بدأت البلاد تشهد أزمة اقتصادية واجتماعية، أصبحت على إثرها من أفقر الدول.

فهل نيكولاس مادورو رجلًا سيئًا اتجه ببلاده نحو الهاوية، أم ضحية حرب تشنها الولايات المتحدة الأمريكية على النظم الاشتراكية؟

مادورو.. «إرث شافيز الذي يجب أن نحافظ عليه»

في العاصمة الفنزويلية، أينما ذهبت تجد صورًا للرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز، «شافيز هو قلب الوطن»، هكذا رأى الشعب الفنزويلي، وخاصةً أبناء الأحياء الفقيرة، حكومة شافيز. يقول عنه أحد أتباعه ماركوس لوبوس، إنه كان أكثر من رمز ثوري، وإن أفكاره الثورية ما زالت حية، حتى بعد وفاته عام 2013 إثر إصابته بالسرطان. يشير لوبوس وعائلته إلى أن شافيز قد نقل السياسة الفنزويلية إلى الشعب، وأن مادورو هو ابن شافيز الأثير، وإرثه الذي يجب أن يحافظ عليه الشعب الفنزويلي.

عندما توفى شافيز في 5 مارس (آذار) عام 2013، كان مادورو هو الشاب الذي خرج ليعلن هذا النبأ القاسي للشعب، وعندما أجريت انتخابات خاصة للفترة الرئاسية المتبقية من رئاسة الراحل شافيز، فاز مادورو بواقع 51% من مجمل الأصوات، وأدى اليمين الدستورية في 19 أبريل (نيسان) من العام نفسه.

أتباع شافيز في فنزويلا، رأوا في مادورو ابنًا لشافيز، وهم على استعدادٍ للموت من أجل الحفاظ عليه، فتقول عن ذلك ميرنا زوجة ماركوس لوبوس: «الأزمة الإقتصادية في فنزويلا ليست خطأ ارتكبه نيكولاس مادورو، بل هي تخطيط من الإمبراطورية -في إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية- وذلك من خلال العقوبات الاقتصادية التي أنزلتها على فنزويلا، ومعارضتهم لحكمِ مادورو الاشتراكي».

المعارضة اليمينية أخذت كل شيء منا. *ميرنا لوبوس

في يناير (كانون الثاني) 2019، وصلت الأزمة السياسية والاجتماعية الطاحنة في فنزويلا إلى مرحلة جديدة، وأعلن خوان غايدو، اليميني زعيم الجمعية الوطنية، نفسه رئيسًا للدولة على الرئيس المنتخب، نيكولاس مادورو، وقد حاز غايدو تأييد الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى بعض أنظمة اليمين في العالم، منها حكومة البرازيل وكولومبيا. تقول عن ذلك جريدة «social working» اليسارية: «هذا جزء من الحملة الأمريكية طويلة الأمد لتقويض الحكومة الفنزويلية، والتي يعود تاريخها إلى سلف مادورو، هوجو شافيز».

تشير الجريدة اليسارية إلى أن المعارضة الفنزويلية اليمينية تسعى من خلال السيطرة على البرلمان إلى عزل مادورو ديمقراطيًّا عن منصبه، وهو الأمر الذي حاولوا فعله مع الراحل شافيز، إلا أن شافيز استطاع سحق محاولات المعارضة النيل منه، عكس مادورو. وتضيف إلى أن الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2014، وبدأت في تغيير حياة الفقراء والعاملين في فنزويلا، كان سببها الرئيسي هو انخفاض أسعار النفط العالمية، في حين يلقي الناس بطبيعة الحال اللوم على الحاكم وحزب السلطة، والذي هو في حالتنا هذه «الحزب الاشتراكي الموحد»، المتمثل في نيكولاس مادورو، كما أن هناك دعم أمريكي طويل الأمد للجناح اليميني في فنزويلا، وذلك منذ عهد شافيز، والذي رأت الولايات المتحدة فيه تهديدًا لنفوذها ومصالحها في منطقة أمريكا اللاتينية.

Embed from Getty Images

الفارق الوحيد بين سياسات شافيز العادلة ومادورو هو أسعار النفط، بحسب التقرير، لدولة اعتمدت اعتمادًا رئيسيًّا على عائدات النفط لاستيراد حاجات الغذاء والدواء الأولية، كان سعر النفط في عهد شافيز 120 دولارًا للبرميل، مما مكنه من توزيعٍ عادل للثروات على الشعب، وسد احتياجات أكثر من اثنين مليون مواطن، في حين أن عهد مادورو شهد انخفاضًا في أسعار النفط وصل إلى تسعة دولارات للبرميل، مما أشعل أزمة اقتصادية في البلاد تحاول الأمبريالية الأمريكية استخدامها لاستعادة مصالحها في المنطقة.

في تقريرٍ لشبكة «The Real news» الإخبارية، أشير إلى أن معارضة مادورو، من الفنزويليين الذين نزلوا في احتجاجاتٍ عبر الشوارع، لا يرون في غايدو سوى أمل للتخلص من سوء الأحوال الاقتصادية، ويرفضون حتى التدخل الأمريكي في البلاد، ويشيرون إلى أن ترامب لا يهتم برفاهية الشعب الفنزويلي حقًّا، لكن ما يريده حقًّا هو السيطرة على النفط، فيقول أنطونيو من المعارضة: «ترامب لا يهتم بشعب فنزويلا، لكنه مهتم بموقف فنزويلا الجيوسياسي»، مُضيفًا أن ترامب لا يريد نظامًا شيوعيًّا، ويحتاج إلى الاحتياطي النفطي، وهو شيء سيجده في فنزويلا.

أما شبكة «World socialist web site» اليسارية، فقد نشرت تقريرًا بعنوان: «ترامب يشن حربًا عالمية على الاشتراكية»، أشير إلى أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، أطلق حملة عالمية ضد الاشتراكية، وفنزويلا خاصةً بوصفها الواجهة لهذه الحملة، وفي خطابٍ ألقاه داخل حرم جامعة فلوريدا، أمام جمهور مختار بعناية من الجمهوريين، ويمينيين فنزويليين منفيين؛ وبينما الهتافات لترامب والولايات المتحدة تهز القاعة، أعلن ترامب إنذاره للجيش الفنزويلي، إما بالاستسلام لتغيير النظام وإما الذبح.

يشير التقرير أيضًا إلى أن واشنطن تنظر إلى الانقلاب على الرئيس الفنزويلي مادورو؛ خطوة أولى فقط في حربٍ واسعة النطاق تشمل نصف الكرة الغربي، وتهدف إلى الإطاحة بحكومتي نيكاراجوا وكوبا، والقضاء على النفوذ المتزايد لمنافسي الولايات المتحدة السياسيين في أمريكا اللاتينية، وهم «الصين وروسيا»، لدعمهم النظم الاشتراكية.

وصِف خطاب ترامب بـ«الفاشي»؛ إذ أشار التقرير إلى أنه لا يعيد فقط لغة المكارثية والتخوين التي سيطرت على سياسات الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي، لكنه يعيد أيضًا لغة موسوليني وهتلر في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية.

هل يدعم ترامب التخريب والإرهاب في فنزويلا؟

في 4 أغسطس (آب) عام 2018، تعرض الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لمحاولة اغتيال، وذلك أثناء إلقائه خطاب احتفال بالذكرى 81 للحرس الوطني في العاصمة كراكاس، وقد استخدم الإرهابيون طائرات بدون طيار مُحملة بالمتفجرات في محاولة الاغتيال. في الوقت ذاته، أصيب سبعة أفراد من أعضاء الحرس الوطني في الحادث، في حين أطلق القناصة النار على الطائرات، لينجح إنقاذ الرئيس مادورو.

لقد حاولوا قتلي اليوم، وكل شيء يشير إلى القوى اليمينية. 

هكذا صرح الرئيس مادورو عقب محاولة اغتياله، كما أشار إلى أن محاولة الإغتيال قد مولت من ولاية ميامي بالولايات المتحدة الأمريكية، في حين نفى البيت الأبيض أي صلة تربطه بمحاولة الاغتيال. وفي الوقت الذي أدانت فيه دول العالم والمنظمات السياسية هذا الهجوم، قللت المعارضة اليمينية من شأن محاولة الاغتيال، إلا أن بعضهم قد ندم على فشلها؛ إذ صرح «حزب العدالة الأول» -حزب يميني متطرف- أن هجومًا مشابهًا قد يحدث في الفترة المقبلة، وعن ذلك قالت المعارضة المتشددة ماريا كورينا ماتشادو: «سيتم التخلص من مادورو، حتى وإن كان ذلك بالقوة».

في الوقت ذاته أعلنت جماعة مجهولة، وهي «الحركة القومية لجنود يرتدون القمصان» -حركة معارضة للحكومة الفنزويلية تضم مواطنين مدنيين وعسكريين، إضافةً إلى بعض المتمردين- مسؤوليتها عن الهجوم، والذي أطلقت عليه اسم «عملية فينيكس»، ومن شركة إخبارية خاصة مقرها ولاية ميامي الأمريكية، أعلن بيان المتمردين، والذي يصرح بمسؤوليتهم عن الحادث، إضافةً إلى بعض المطالب من حكومة مادورو، كان بينها الإذعان لمطالب الجمعية الوطنية اليمينية، وإجراء انتخابات حرة وحقيقية. دعت المجموعة الشعب للنزول إلى الشوارع وتولي السلطة وتثبيت الحكومة الانتقالية، وأشاروا إلى أن محاولة الاغتيال قد جاءت لاستعادة النظام الدستوري، وإن لم تتحقق المطالب، سيتبعها عمليات جديدة لاحقة.

بعيدًا عن فنزويلا.. التاريخ المظلم للولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية

عن ذلك تقول وكالة «Pambazuka» الإخبارية: «من الغباء قبول السرد القائل إن مجموعة مجهولة من الجنود السابقين قد نفذوا الهجوم؛ إذ إن الهجوم تطلب مجموعات مدربة جيدًا، كما أنه كان شبيهًا لمخططات الهجوم بطائراتٍ بدون طيار على قواعد روسية في سوريا»، تشير الوكالة أيضًا إلى أن الأهم من ذلك أن الطائرات بدون طيار قد تباع بحرية في السوق؛ إلا أنها لا تأتي مليئة بالمتفجرات، ولهذا يمكن ربط هذا الهجوم بحركة المعارضة اليمينية والولايات المتحدة الأمريكية.

يؤكد التقرير أن هناك الكثير من عمليات الاغتيال المشابهة المتورط فيها اليمين المعارض بدول أمريكا اللاتينية، مثل الإكوادور وجواتيمالا وشيلي، في حين أن جميع القادة السياسيين الذين اغتيلوا كانوا معادين للسياسات الإمبريالية الأمريكية بشكلٍ صحيح، وهو ما يشير إلى تمويلٍ أمريكي لعملياتٍ إرهابية مماثلة.

بحسب الوكالة، كان قتل مئات المناهضين للإمبريالية جزءًا من عمل واشنطن منذ قرون، لحماية مصالحها في أمريكا اللاتينية، ويضيف أن عمليات الاغتيال تأتي بديلًا عندما يفشل الإمبرياليون في إيجاد حل ديمقراطي لتغيير النظام، بنظمٍ أخرى تبدو في ظاهرها ديمقراطية، إلا أن جوهرها إمبريالي. وفي فنزويلا فشل اليمين المعارض حتى نهاية العام السابق فشلًا ذريعًا في حشد قوى اجتماعية، أو تأجيج الأزمات الاجتماعية والاقتصادية واستغلالها، وهو الأمر الذي قادهم إلى أعمال العنفِ والإرهاب، بحسب التقرير، بدعمٍ كامل من الولايات المتحدة الأمريكية.

مادورو أيضًا ليس ملاكًا.. ارتكب العديد من الأخطاء أيضًا

في عام 2018، اعترف مادورو أن سياساته والتي اتخذت من تأميم الشركات والمصانع، واحتكار النقد الأجنبي سبيلًا للهرب من الأزمة الاقتصادية؛ لم تستطع تحقيق أي نجاح، مُضيفًا في مؤتمر «الحزب الاشتراكي الموحد» الفنزويلي: «كل خطط ونماذج الإنتاج التي قمنا بتجريبها، قد باءت بالفشل، والمسؤولية تقع علينا، أنا وأنتم».

كانت تلك هي المرة الأولى التي يعترف فيها مادورو بالفشل، وقد أنهى حديثه بقوله: «لا مزيد من الأنين، نحتاج إلى حلول، ويجب أن نجعل من فنزويلا قوة اقتصادية مرة أخرى، سواء كانت تعاني من حصارٍ اقتصادي أم لا، سواء كانت تعاني من عدوانٍ خارجي أم لا».

الاشتراكية في اقتصادات الدول الفقيرة والمغلقة، هي مرادف للفشل. *نيكولاس مادورو

كان الغضب الشعبي منذ بدء الأزمة الاقتصادية عام 2014، وحتى العام الحالي، ضد نيكولاس مادورو يتأجج تأججًا كبيرًا، أربع سنوات تتصدر فيها ديكتاتورية مادورو عناوين الأخبار، من تأميم الشركات وقطاعات الصناعة، مثل الأسمنت والصلب، وصودرت مئات الشركات بما في ذلك المتاجر (السوبر ماركت)، كما سيطر الجيش على أسواق الشارع، وذلك من أجل التحكم في موجة ارتفاع الأسعار المهولة، هذا إضافة إلى عدم القدرة على احتواء الأزمة الاقتصادية، ومن ثم عدم القدرة على الوفاء بأبسط قواعد الاشتراكية، والتي تضع البسطاء والفقراء أولًا.

ففي عام 2016، قدمت «نيويورك تايمز» قصة مأساة إنسانية، لآباء فنزويليين يدفنون أبناءهم الجائعين، ومرضى في المستشفيات يموتون لنقص الأدوية الأساسية مثل المضادات الحيوية، وخزانات الأكسجين، كما أفادت صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى أن الهجرة غير الشرعية للمواطنين الفنزويليين قد وصلت إلى أرقامٍ قياسية؛ إذ فرّ أكثر من 3 ملايين فنزويلي -وهو ما يقدر بنحو 10% من إجمالي عدد السكان- من البلاد، ما تسبب بأزمة لاجئين مماثلة لأزمة الروهينجا في ميانمار.

Embed from Getty Images

تشير صحيفة «Socialist Worker» اليسارية في تقريرٍ بعنوان «هل مادورو سهّل الأمر على أعدائه؟»، إلى الوضع الكئيب الذي تعاني منه البلاد؛ إذ هاجر أكثر من 7% من عدد السكان بالفعل في السنتين الأخيرتين فقط، معظمهم من الطبقة العاملة، ناهيك عن المستوى الصحي المتدني الذي تعاني منه فنزويلا، ما جعل الثقة في العملية البوليفارية متدنية. تفقد الاشتراكية رأس مالها الحقيقي، وهو تأييد الطبقة العاملة، فهل ساعد مادورو نفسه في تفاقم الأزمة؟

يجيب التقرير، فإن سياسة مادورو والتي اتخذت من توسيع دور الجيش في السيطرة على جميع جوانب المجتمع الفنزويلي؛ إذ كان مسؤولًا عن توزيع المواد الغذائية، وإقامة المشاريع، وإدارة رأس المال الأجنبي، كل هذا تسبب في تمكين الجنرالات، وفي حالة حدوث انشقاق، سيضر بمصالح البلاد. إن الجيش الذي سيطر على المواد الغذائية، قد تحول إلى توزيعها بطريقة غير عادلة، والقوات التي دافعت عن البلاد باسم الاشتراكية منذ عام 2002، قد تحولت في عهد مادورو إلى إصدار التراخيص، وفتح مشاريع التعدين الضخمة للصين، وروسيا، وكندا، وجنوب أفريقيا، بلا أدنى وجود لحقوق العمال والسيادة الأصلية، بحسب التقرير.

«إذا أردنا حقًا أن نتضامن مع الثورة البوليفارية في هذا الوقت الحرج، على الرغم من الانتقادات والاختلافات، فيجب علينا أن نقف في وجه التوسع العسكري»، هكذا أشار التقرير في نهايته؛ مؤكدًا ضرورة الوقوف في وجه مادورو نفسه من أجل تقويض سلطة الجيش، وهو الأمر الذي سيعمل حتمًا على استعادة النظام، وربما تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة والأنظمة اليمينية في أمريكا اللاتينية.

فنزويلا.. مأساة اقتصادية لأضخم احتياطي نفطي في العالم

المصادر

تحميل المزيد