أطلقت شبكة «نتفليكس» في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2020 مسلسلًا قصيرًا بعنوان «The Queen’s Gambit» وترجمتها «مناورة الملكة». يحكي المسلسل قصة «بيث هارمون»، الطفلة اليتيمة التي اكتشفت الشطرنج، وتعلّمته على يد حارس دار الأيتام التي تقيم بها. كان لرقعة الشطرنج مفعول السحر على الطفلة التي كتب عليها مواجهة مستقبل مجهول تمامًا وحدها، مفتقدة لكل عوامل الأمان.
فجأة تجد الطفلة أمامها عالمًا كاملًا على رقعة من 64 مربعًا. عالم صغير تشعر من خلال تحريكها لقطعه، بأنها هي المتحكّمة في كل تفاصيله، وهو ما خاطب احتياجها الشديد للشعور بالأمان، وسرعان ما يكتشف الحارس موهبتها الفذَّة، ويحضر لها مدربًا من النادي المحلي ليراها، ومن هنا تبدأ قصة صعودها في عالم الشطرنج لتصبح أيقونة اللعبة في عصرها، متغلبة على عوائق الرفض والعزلة والإدمان. المسلسل مأخوذ عن رواية صدرت عام 1983 بنفس العنوان للكاتب الأمريكي، ولاعب الشطرنج وولتر تيفيز.
وفقًا لشبكة نتفليكس فإن 62 مليون مشاهد قد شاهدت المسلسل خلال أول 28 يومًا فقط من عرضه، وقد استقر المسلسل ضمن أعلى 10 مسلسلات في 92 دولة، وحصل على المرتبة الأولى في 63 دولة منهم.
سريعًا ما انعكست نتائج هذا النجاح الساحق للمسلسل على الإقبال على تعلم ولعب الشطرنج وفقًا لأكبر موقعين للعبة: «chess.com» و«lichess.org»؛ إذ وصل عدد اللاعبين النشطين يوميًا على موقع chess.com إلى 3.1 مليون لاعب، وهو ما يزيد بمقدار 1.2 مليون لاعب عن المعدل اليومي ما قبل عرض المسلسل.
وأيضًا حدثت زيادة ضخمة تتجاوز 25% في عدد اللاعبين النشطين آنيًّا في لحظة الذروة اليومية على موقع lichess.org. وكذلك زادت عمليات البحث عن عدة الشطرنج بنسبة 276% على موقع ebay.com.
المصدر: lichess.org
يوضح المنحنى السابق ارتفاعًا ملحوظًا في عدد المستخدمين المتواجدين آنيًّا في لحظة الذروة على الموقع فور عرض المسلسل مباشرة، ولم يزل آخذ في الازدياد.
في الشطرنج.. ما الذي تعنيه «The Queen’s Gambit»؟
الترجمة الحرفية لعنوان المسلسل «The Queen’s Gambit» هي «مناورة الملكة». لكن ما الذي يعنيه هذا العنوان؟
«الملكة»، أو ما يعرف عربيًا بـ«الوزير»، هي أقوى قطعة في اللعبة، وأهم القطع بعد الملك الذي تدور اللعبة حوله. نقل العرب الشطرنج إلى أوروبا في القرن الثامن الميلادي تقريبًا في الأندلس، فعُرفت القطعة في أوروبا بـ«Visir». وكانت حركة الوزير مربعين في كل اتجاه.
وتروي مارلين يالوم، في كتابها الذي أرّخت فيه لتطور القطعة، أن القرون الثلاثة التالية شهدت بروز نجم عدة ملكات في أوروبا، لكن تولي الملكة إيزابيلا عرش قشتالة عام 1475م كان هو الحدث الذي تحولت على أثره القطعة إلى أنثى، وأصبحت «ملكة» بدلًا عن «وزير»، لكنها أصبحت تتحرك مربعًا واحدًا فقط في أي اتجاه، أي مثل حركة الملك تمامًا.
ومع توالي الأحداث وتصاعد دورها في السيطرة على مقاليد السلطة والتأثير على مجريات الأحداث لدرجة فاقت زوجها الملك فرديناند، أصبحت «الملكة» بمنشور رسمي عام 1495 أقوى قطعة في اللعبة بتغيير حركتها لتصبح بالشكل الحالي: تتحرك بشكل مستقيم كالطابية، ووتريًا كالفيل.
تنقسم مباراة الشطرنج إلى ثلاث مراحل. ولكلّ مرحلة مجموعة من المبادئ الإستراتيجية التي يجب اتباعها للحفاظ على فرصة الفوز، وتوجد ثلاثة مبادىء أساسية لمرحلة بداية المباراة: السيطرة على «الوَسَط»، وتطوير القطع لمربعات تكون فيها عالية النشاط والفعالية وتسيطر على أكبر مساحة ممكنة من الرقعة، والمبدأ الثالث هو تأمين الملك، عن طريق التبييت.
يوجد في الشطرنج عدد كبير جدًا من الافتتاحيات، لكل منها اسم، ولكل افتتاحية فلسفتها الخاصة وشروطها التي تفرضها على بقية المباراة. عدد من هذه الافتتاحيات يعرف بالمناورات (Gambits)، والمناورة هي التضحية ببيدقٍ، أو أكثر بشكلٍ مؤقت، أو دائم؛ من أجل الحصول على موقفٍ جيد تكون القطع فيه شديدة الفعالية والنشاط.
أمّا افتتاحية Queen’s Gambit فهي تلك الافتتاحية التي يعرض فيها اللاعب ذو القطع البيضاء بيدق العمود «C»، بيدق فيل الوزير (Queen)، بهدف السيطرة على الوسط قبل الخصم، وهي افتتاحية عنيفة، حيث يجبر الأبيض خصمه على قبول التضحية، ومن ثمّ التنازل له عن الوسط، أو رفضها والاستمرار في المباراة في موقف مضغوط، وبالتالي يلجأ لها لاعب القطع البيضاء في المباريات الحاسمة التي يرغب في الفوز بها بشدة.
وتعتبر أشهر مباراة لهذه الافتتاحية المباراة السادسة في بطولة العالم 1972 بين عبقري الشطرنج بوبي فيشر والبطل الروسي بوريس سباسكي، وهي المباراة التي أخذ بها فيشر التصدر، وكانت نقطة تحول البطولة لصالحه، وهي كذلك المباراة الوحيدة التي لعبها فيشر بهذه الافتتاحية في البطولات الرسمية من المستوى العالمي. وتعتبر بالنسبة لكثير من الخبراء، ضمن القائمة القصيرة لأفضل مباراة في تاريخ اللعبة.
كاسباروف.. كلمة سر وراء نجاح المسلسل
نجح المخرج في توظيف كل العناصر الفنية، من الإضاءة وزوايا التصوير، خاصة في مشاهد المباريات، والموسيقى التصويرية، وكذلك في محاكاة فترة الستينات، في الملابس والديكورات وغيرها، وجاءت معالجته للرواية متزنة بشكل استثنائي، ونجح في الهروب من التيمات الحاكمة في الوقت الراهن في معالجة أي عمل يتناول معاناة المرأة على الشاشة، التي عادةً ما تسطح مشاكل المرأة في تعرضها إلى مضايقات من رجال غير متزنين. إلا أن أهم نجاح للمخرج كان في طلبه من جاري كاسباروف بطل العالم الأسبق للشطرنج وأسطورة اللعبة أن يكون مستشارًا للعمل.
بذل كاسباروف مجهودًا كبيرًا لإخراج العمل بأفضل شكل ممكن، من خلال المساعدة في الإخراج وتوجيهاته للبطلة والممثلين الذين لعبوا أدوار لاعبي شطرنج. ومساعدة المخرج في إخراج مشاهد المباريات والتحضير لها، إلا أن المجهود الأكبر لكاسباروف كان في اختيار المباريات نفسها؛ ففي الرواية الأصلية لا يذكر المؤلف كل نقلات المباراة، وإنما نقلات معينة مميزة تتماشى مع الخط الدرامي للرواية.
كان على كاسباروف إذًا، كما ذكر بنفسه في مقابلة أجريت معه مؤخرًا، أن يستدعي من ذاكرته ويبحث في قواعد البيانات عن مباريات للاعبي النخبة، تحتوي على نفس النقلات، ويقوم بالتعديل فيها قليلًا لرفع مستواها ليصل إلى المستوى الأسطوري لبطلة المسلسل كما تصفها الرواية.
حاول كاسباروف تضييق دائرة البحث على لاعبي النخبة الذين تتشابه طريقة لعبهم مع طريقة لعب بطلة الرواية، فمثلًا مباراتها مع بيلتيك، أول منافس قوي واجهته مأخوذة من مباراة لرشيد نجم الدين، الموهبة الكازاخستانية الاستثنائية، ومباراتها النهائية مع بورجوف، مأخوذة من مباراة شهيرة لأحد أمهر لاعبي الشطرنج على مر التاريخ، وهو البطل الأوكراني فاسيلي إيفانشوك، مع تعديل في إحدى النقلات لرفع مستوى المباراة وجعلها خالية تمامًا من أية نقلة غير دقيقة للبطلة.
عند سؤال كاسباروف عن سبب قبوله المشاركة للعمل في المسلسل، بالرغم من رفضه لبعض الأعمال مسبقًا، أجاب بأنه عند قراءته للسيناريو أدرك أن هذا العمل لديه الإمكانية ليكون أفضل ما قُدّم عن الشطرنج؛ إذ إنه يقدم لاعب الشطرنج في جميع أحواله الإنسانية، في لحظات الضعف، والشك، وفقدان الثقة، والاحباطات، والفوز، والنشوة، والهوس؛ مما يساعد الجمهور على النظر للاعبي الشطرنج نظرة إنسانية غير تلك النظرة «الروبوتية» الشائعة.
بيث هارمون بين الخيال والحقيقة
ظهرت محاولات عديدة لربط أو مشابهة شخصية بيث هارمون بعددٍ من الشخصيات النسائية في اللعبة، مثل اللاعبة السوفيتية Nona Gaprindashvili، أو الأسطورة النسائية المجرية جوديث بولجار، أو اللاعبة الأسترالية إيرينا بيرزينا، أو أول بطلة عالم للنساء فيرا مينشيك، أو البطلة الكوبية ماريا تريزا مورا.
إلا أن كل هذه المشابهات بعيدة تمامًا عن الواقع، فبعضهن بدأن ممارسة اللعبة بعد كتابة الرواية أساسًا، والبقية لا يوجد أي وجه شبه بينهن وبين بيث هارمون، سواءً في ظروفهن الشخصية أو إنجازاتهن في اللعبة ونتائجهن أمام منافسيهن الرجال، ومن ثمّ فإن كل هذه المحاولات ليست إلا تأويلاتٍ متكلفة أو محاولات للسطو على الحقيقة.
عند سؤال كاسباروف، الذي عمل مستشارًا للمسلسل في حوار أجري معه مؤخرًا عما إذا كانت شخصية بيث هارمون حقيقية أم لا، أجاب بأنها نسخة أنثوية متخيلة لبطل العالم الأسبق، الأسطورة الأمريكية روبرت جيمس فيشر.
إذا حاولنا رصد التشابهات بين الشخصيتين، فسنجد العديد من التشابهات، والتي كان المؤلف أحيانًا يدخل عليها بعض التعديلات مراعاة لمتطلبات الخط الدرامي، منها على سبيل المثال:
كلاهما عاش في نفس الحقبة الزمنية التي تصفها الرواية بالتحديد. كلاهما عانى من حياة أسرية مضطربة، ومن غياب الأب. كلاهما تميز بالنبوغ المبكر بشكل استثنائي قبل العاشرة. كلاهما تم تشبيه طريقة لعبه بطريقة لعب بول مورفي. كذلك تتشابه رحلة كل منهما في الصعود داخل أمريكا، من البطولات المحلية إلى بطولة الولايات المتحدة ما دون الخامسة عشرة.
مباراة بيث هارمون مع بيلتيك التي ضحّت فيها بالوزير، تناظر مباراة فيشر عام 1956 مع دونالد بيرن عام 1956، والتي عرفت فيما بعد بمباراة القرن. كلاهما تعلّم اللغة الروسية لمتابعة المجلات الروسية، وتحليلات اللاعبين الروس لمبارياتهم، والتجديدات في نظريات الافتتاحيات المختلفة.
كلاهما كان بطل الولايات المتحدة الذي اعتمدت عليه بلاده للانتصار في اللعبة على السوفيت أثناء الحرب الباردة؛ لما لبطولة العالم في الشطرنج من أهمية رمزية كبيرة حينها. مباراتها النهائية مع بورجوف، بطل العالم في المسلسل، تناظر المباراة السادسة في بطولة العالم 1972 بين بوبي فيشر وسباسكي. فيشر دائمًا ما يفتتح مبارياته بـ«E4» (بيدق الملك)، وكذلك بيث هارمون، إلا في هاتين المبارتين تحديدًا، كل منها افتتح بـ«D4» (بيدق الوزير) وأكمل بافتتاحية «The Queen’s Gambit».
وكل من سباسكي وبورجوف قاما بالتحية نفسها بعد المباراة، وأخيرًا وليس آخرًا فكلاهما كان شخصًا متأنقًا، يهتم بمظهره بشكل لافت للنظر. وبعد رصد كل هذه التشابهات، فإن الذي يقطع الشك باليقين هو التصريح التالي الذي أورده المؤلف، وهو لاعب شطرنج سابق، في مقدمته للرواية:
«إن المستوى الرائع لمباريات بوبي فيشر، وبوريس سباسكي، وأناتولي كاربوف، لطالما كانت مصدرًا للبهجة للاعبين أمثالي. ولكن نظرًا إلى أن الرواية عمل خيالي، فإني مضطر لعدم ذكر أسمائهم الحقيقية لتجنب حدوث أي تناقضات في السرد».
وعلى الرغم من كل تلك التشابهات، إلا أن هناك عدة اختلافات. منها على سبيل المثال، عادة التحديق في الخصم، أثناء المباراة. ويمكن بسهولة استنباط أن هذه النقطة تحديدا هي من تأثير كاسباروف على أداء بطلة المسلسل. إذ إن كاسباروف هو أشهر لاعب شطرنج كانت لديه هذه العادة ذات البعد السيكولوجي، الذي يستخدمه عدد من اللاعبين، ليس من بينهم فيشر، كأحد الأسلحة للتأثير في قرارات الخصم. إذ إن فيشر معروف بموقفه الرافض وغير المقتنع بتوظيف السيكولوجي في الشطرنج؛ كما تعبر عن ذلك من خلال أحد أشهر مقولاته: «أنا لا أؤمن بالسيكولوجي. أنا أؤمن بالنقلات الجيدة».
كاسباروف محدّقًا في منافسه، ليفون أرونيان. المصدر: سوشيال ميديا
وهناك أيضًا بعض الاختلافات الأخرى، كقضاء بيث فترة طفولتها في دار رعاية الأيتام، وهو ما لم يحدث مع فيشر. وإدمانها للكحوليات والمهدئات، ولم يكن فيشر مدمنًا كذلك. إلا أننا يمكن أن نعتبر هذا الإدمان هو البديل الدرامي للبارانويا التي كان يعاني منها فيشر، والتي أنهت أسطورته مبكرًا. إلا أن هاتين النقطتين تحديدًا مقتبستان من التجربة الذاتية للمؤلف الذي مرّ بظروف صحية وهو في الثامنة من عمره، فأودعه والداه مصحة، ثم تخليا عنه وسافرا إلى ولاية أخرى. وكان يتناول المهدئات ثلاث مرات يوميًا في المصحة حتى أدمنها. يمكن القول إذًا إن الرواية إلى جانب كونها عن حياة فيشر، تمثل حلمًا شخصيًا للكاتب، داعب خياله ولم يتحقق.
هل الشطرنج لعبة ذكورية؟
على الرغم من أن أهم مزايا المسلسل هو المجهود المبذول للتركيز على إنسانية البطلة، وعدم تسطيح القصة بحصرها في تيمة معينة، أو في كونها «لاعبة شطرنج» فقط بدون إظهار إنسانيتها، إلا أن هناك كثيرًا من محاولات الاستغلال الأيديولوجي للمسلسل بسحبه لمساحة الجدالات النسوية.
تبدو بعض هذه المحاولات متكلفة لدرجة قد تكون غير مفهومة، وصلت إلى اتهام إحدى الكاتبات للمؤلف بأنه غير واقعي لتصويره بطلة روايته كأنثى آمنة في عالم الرجال، وتصويره لجميع الرجال الذين تتعامل معهم على أنهم متزنون نفسيًا، وهو ما اعتبرته الكاتبة عيبًا في الرواية يجعلها غير واقعية.
وكذلك تعالت أصوات تتهم الشطرنج بأنه لعبة ذكورية، وأن المسلسل يكشف عن هذه الذكورية، وأنه بمثابة فرصة لتصحيح هذا المسار الذكوري، والمقصود بالذكورية هنا، كما ورد في هذه المقالات، أن الرجال يسيطرون على اللعبة من حيث الألقاب والأرقام، وأن النساء تتعرض لبعض المضايقات من منافسيهن.
ورددت جينيفر شاهيد، بطلة الولايات المتحدة مرتين ومسؤولة برنامج النساء في الاتحاد الأمريكي للشطرنج نفس الآراء، بل أخذت خطوات عملية تهدف إلى جذب المزيد من الفتيات إلى عالم الشطرنجو إذ ترى أن أول خطوة لدحض «ذكورية اللعبة» هي إنهاء الأغلبية العددية للرجال، فأسست مجموعة إلكترونية تحت اسم «Madwoman’s Book Club» تناقش فيها القضايا الخاصة بالنساء في اللعبة وتدرب الفتيات.
وكان أول لقاء للمجموعة عن المسلسل باستضافة جاري كاسباروف، وسكوت فرانك مخرج المسلسل، كما صرحت بعض اللاعبات اللواتي تبث مبارياتهن الإلكترونية «streamers» أنهن يواجهن تعليقات يرونها «ذكورية» من الجمهور حول ملبسهن مثلًا، أو ضعف موهبتهن مقارنة بنظرائهن من الرجال.
بالفعل تعرضت بعض النساء في الماضي لبعض المضايقات من منافسيهن الرجال، تمثلت في تعليقات ساخرة عن قدراتهن أو رفض اتباع البروتوكولات المتعارف عليها في بعض الأحيان، كما تروي جوديث بولجار عن أن بعض منافسيها الرجال لم يسلّموا عليها بالأيدي عند استسلامهم أمامها. لكن هل هذا يمكن تسميته بـ«ذكورية اللعبة»؟
إن المقصود بالذكورية، هي استخدام الرجال لسلطاتهم المادية والقانونية لحرمان النساء من حقوق أصيلة لهن، والتمييز ضدهن بناء على الجنس. فهل توجد هذه الممارسات حقًا في اللعبة التي تعد أقوى قطعة بها هي القطعة الوحيدة المؤنثة؟
الإجابة التي يعلمها أي متابع للعبة أنه لا يوجد أي قانون يفرق بين النساء والرجال لصالح الرجال، حيث توجد بطولات مقتصرة على النساء فقط، بينما لا يوجد العكس. أي أنه يحق للنساء المشاركة في كل البطولات، بينما لا يحق ذلك للرجال.
بل يمكننا أن نقول إن قوانين اللعبة «متحيزة» لصالح النساء، بمنحهن الألقاب المناظرة للرجال عند تقييم أقل 200 نقطة لكل لقب مناظر، أي أن النساء يحصلن على لقب أستاذة كبيرة (WGM) عند تقييم 2300 نقطة، في حين يحصل الرجال على لقب أستاذ كبير (GM) عند تقييم 2500 نقطة، ويحق للنساء الحصول على لقب (GM) كذلك إذا وصلن لتقييم 2500 نقطة كذلك. وهكذا مع بقية الألقاب في اللعبة. إذا استجاب الاتحاد لمنطق المساواة المطلقة؛ يجب إذًا إلغاء الألقاب النسائية والاكتفاء بألقاب موحدة للرجال والنساء. لكن هل يصب هذا في صالح النساء؟
ترى كونرو هامبي، بطلة الهند للنساء والمصنفة الثانية عالميًا، أنه يجب الإبقاء على هذا الانفصال بين الرجال والنساء في الألقاب والبطولات، وأن هذه هي الطريقة الوحيدة لتقدم مستوى النساء في اللعبة؛ حيث أثبت الواقع – وفقًا لرأيها – أن الرجال أفضل بكثير من النساء في اللعبة، وأن هذه حقيقة يجب قبولها ببساطة. ومن ثمّ سيكون من الظلم عدم مراعاة هذه الفجوة وتوحيد الألقاب والبطولات؛ لأن الألقاب هي الوسيلة الوحيدة التي تمكِّن اللاعبين المحترفين من التفرُّغ للعبة عن طريق الحصول على دعم من اتحاداتهم المحلية (ومرتبات في بعض الدول)، ودعوتهم إلى البطولات المختلفة. وبالتالي يستطيعون تطوير مستواهم والترقي في مسيرتهم الاحترافية.
ما الذي تخبرنا به الأرقام عن الفرق بين الذكور والإناث في الشطرنج؟
عند المقارنة بين الرجال والنساء في الشطرنج نفاجأ بوجود فجوة ضخمة جدًا في التقييم والأرقام. وفقًا للاتحاد الدولي للشطرنج، فإن نسبة عدد الرجال المسجَّلين في الاتحاد إلى النساء تعادل 84:16. أي أكثر من خمس أضعاف.
لكن عدد الرجال الذين يحملون لقب أستاذ دولي كبير (GM)، وهو أعلى لقب في اللعبة، 1683 رجل في مقابل 37 مرأة فقط. أي أن النسبة تعادل 49:1 تقريبًا. ويبلغ حاليًا عدد اللاعبين الذين يبلغ تقييمهم 2500 فأكثر حوالي 810 لاعب يوجد بينهم 797 رجل، و13 مرأة فقط. مما يعني أن المسألة ليست أن عدد الرجال الممارسين للعبة أكثر من عدد النساء، وإنما أن متوسط تقييم الرجال أعلى كثيرًا من متوسط تقييم النساء.
توضح القائمتان التاليتان أعلى تقييمات وصل لها الرجال والنساء. تبلغ الفجوة بين أعلى تقييم رجالي وأعلى تقييم نسائي حوالي 150 نقطة.
Source: 2700chess
وفي قائمة أعلى 100 لاعب تقييمًا في العالم حاليَا، توجد سيدة واحدة فقط، وهي الصينية «هو ييفان»، بطلة العالم السابقة، بتقييم 2658 ، في الترتيب 88 عالميًا. في حين تأتي الثانية على النساء، أليكساندرا جورياشكينا، بطلة روسيا، في المركز الـ275 عالميًا. أي أن أعلى 300 لاعب في العالم حاليًا، بينهم 298 رجل وامرأتان فقط.
يبلغ الفارق بين المصنَّف الأول عالميًا، ماجنس كارلسن، بطل العالم، وبين المصنفة الأولى عالميًا، هو ييفان، أكثر من 200 نقطة. وتوجد هذه الفجوة أيضًا بين الجنسين ما دون الـ18 عامًا، ولكنها تتسع لما يقارب 300 نقطة. إذ يبلغ تقييم الموهبة الإيرانية الاستثنائية، علي رضا، أعلى لاعب تحت الـ18 في العالم 2749 نقطة، في حين يبلغ تقييم الموهبة الكازاخستانية الواعدة، زهانسيا عبد الملك، أعلى فتاة تحت الـ18 عاما في العالم 2478.
المصدر: موقع الاتحاد الدولي للشطرنج
إن هذه الفجوة الضخمة بين الجنسين تأتي في ظل توفير نفس الظروف والإمكانات للرجال والنساء في معظم دول العالم حاليًا. فهل هناك أي تفسير لهذه الفجوة؟
هل يقتصر الأمر على الشطرنج؟ ماذا يقول العلم عن الفرق في «الذكاء المنطقي» بين النساء والرجال؟
إذا حاولنا النظر للأمر بموضوعية ومن زاوية أوسع، نجد أن الأمر لا يقتصر على الشطرنج، وإنما يمتد تقريبًا إلى كل المجالات التي تعتمد على مهارة «التحليل المنطقي» مهارة أساسية، مثل الرياضيات، وعلوم الحاسب، والمنطق، وفلسفته، والعلوم والتقنية بشكل عام. اعتمدت محاولات علوم المخ والأعصاب في تفسير هذه الفجوة بين الجنسين في العمليات المعرفية المختلفة على فرضية أنّ: الاختلافات الوظيفية تنتج عن اختلافات تشريحية. أي أن الاختلاف في التركيب التشريحي بين دماغ الذكر ودماغ الأنثى ربما يكون هو المسؤول عن اختلاف تمايز الجنسين في العمليات العقلية المختلفة.
أظهرت الأبحاث التي أجراها ريتشارد هير، رئيس فريق أبحاث المخ بجامعة كاليفورنيا، باستخدام تقنيات «PET» ،«FMRI»، ونشرها عام 2007، أن المادة الرمادية المسؤولة عن معالجة المعلومات أثناء التفكير تكون في الرجال أكثر بستة أضعاف ونصف ضعف، بينما تكون المادة البيضاء المستخدمة في تبادل المعلومات أثناء التفكير أغزر بـ10 أضعاف في النساء عنها في الرجال.
وذلك يرجع إلى أن أدمغة الرجال تحتوي على ما يقارب 4 مليار خلية عصبية أكثر من أدمغة النساء، في حين أن أدمغة النساء تحتوي من الناحية الأخرى على وصلاتٍ عصبية تفوق كثيرًا أدمغة الرجال، أي أن كلًّا من الرجال والنساء يستعملون أنسجة مختلفة من المخ، وبطريقة مختلفة أثناء عملية التفكير. وهو ما استخدمه بعض الباحثين لتفسير تميُّز الرجال في مجالات التحليل المنطقي كالرياضيات والمنطق (والشطرنج)، مقارنة بتميز النساء في القيام بالنشاطات العقلية التي تحتاج التواصل بين مراكز عقلية متعددة كاللغات مثلًا.
تعتمد تقنية FMRI في تصوير نشاط المخ على رصد التغيرات المرتبطة بضخ الدم إلى مناطق الدماغ المختلفة، انطلاقًا من حقيقة ارتباط نشاط الخلايا العصبية في منطقة ما من الدماغ بضخ الدم إليها. إلا أن اختلاف المقياس الزمني لتغيرات تدفق الدم عن المقياس الزمني للإشارات العصبية، الذي يعد أسرع آلاف المرات من تدفق الدم، يجعل الصور الناتجة غير دقيقة وغير قادرة على أن تمثل مرآة لما يحدث حقًا في الدماغ؛ مما يعني أن كل هذه التفسيرات والتأويلات مجرد احتمالات، ولا مجال لليقين بعد بشأنها. وسيظل سؤال الاختلافات الجنسية/ المعرفية قائمًا حتى نتوصل لتقنية قادرة على النفاذ اللحظي المباشر لما يحدث داخل الدماغ بالفعل.