بشكل متزامن شن مقاتلو «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)» هجمات عنيفة على سجن جويران في مدينة الحسكة السورية، وعلى مقرات للجيش العراقي في محافظة ديالي، في 20 يناير (كانون الثاني) 2022، فيما وصف بأنه النشاط الأكبر للتنظيم منذ إعلان هزيمته وزوال «خلافته» في 2019، فهل تكون تلك الهجمات مقدمة لما هو أكبر؟ وهل يصحو المارد من الرماد مجددًا بعد أن خبا ذكره لأعوام؟
«داعش».. الطريق السريعة إلى الخلافة
في العاشر من مارس (آذار) 2014 استفاق العالم على خبر غير متوقع: فمدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق والتي يبلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة، تسقط في قبضة تنظيم «داعش»، تمكن مقاتلو التنظيم عبر هذا الهجوم من اغتنام كميات هائلة من الأسلحة والعتاد من الجيش العراقي، كما نُهبوا نحو 500 مليون دولار من فرع البنك المركزي في الموصل.
كان التنظيم قد نجح قبل عام واحد من استغلال فوضى الحرب السورية، وتمكن من السيطرة على محافظة الرقة السورية، لكن السيطرة على الموصل – إلى جانب ما منحته للتنظيم من غنائم المال والسلاح – كانت فرصة دعائية كُبري.
مقاتل بتنظيم الدولة الإسلامية
فقد اندفع «داعش» بعدها مثل الإعصار للسيطرة على المدن العراقية والسورية مدينة تلو الأخرى، وأغرت تلك النجاحات التنظيم إلى إعلان «الخلافة الإسلامية» في يونيو (حزيران) 2014، وفي يوليو (تموز) من نفس العام خرج أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم و«خليفته»، في تسجيل فيديو للمرة الأولى داعيًا المسلمين إلى مبايعته.
وطوال السنوات اللاحقة كانت أخبار «خلافة داعش» هي الشغل الشاغل لوسائل الإعلام حول العالم؛ فقد ارتكب العديد من «الفظاعات» في مناطق سيطرته، بينها قطع رؤوس، وإعدامات جماعية، وعمليات اغتصاب، وخطف، وتطهير عرقي.
وحين استولى التنظيم على جبال سنجار شمال غربي العراق، وهي المعقل التاريخي للأقلية الأيزيدية، شرع «داعش» في تجنيد الأطفال، وسبي آلاف النساء والفتيات، واستعبادهن جنسيًا، وكان يوثق تلك الأفعال في مقاطع فيديو عالية الجودة، وينشرها باعتبارها سلاحًا دعائيًا.
وأثارت أفعال «داعش» الرأي العام العالمي، كما أخافت انتصاراته السريعة الفاعلين الدوليين الذين تكاتفوا لهزيمته، فتكون «تحالف دولي» من 70 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؛ لتبدأ أولى ضربات التحالف ضد التنظيم في سبتمبر (أيلول) 2014، ومنذ ذلك الحين تغيرت موازين القوى، وبدأ العد العكسي لخلافة التنظيم القصيرة.
اعتمدت إستراتيجية التحالف الدولي على توفير دعم جوي كثيف للقوات الحليفة التي تهاجم «داعش» على الأرض، ففي العراق تولت القوات العراقية والميليشيات الشيعية المتحالفة معها مسؤولية دحر التنظيم من الأراضي التي سيطر عليها، فيما كانت الميليشيات الكردية، وفي مقدمتها «قوات سوريا الديمقراطية»، هي الغريم الأساسي للتنظيم على الأرض السورية.
توالت هزائم «داعش»، وتداعت أسطورته؛ ففي عام 2015 فقد التنظيم مدينة تكريت الغنية شمالي العراق، كما فقد السيطرة على سنجار، وفي سوريا خسر التنظيم مدينة كوباني قرب حلب، رغم استماتته في الدفاع عنها لصالح القوات الكردية.
وفي 2016 خسر «داعش» مدينة الرمادي، كُبرى مدن محافظ الأنبار، ومدينة الفلوجة، كما خسر مدينة منبج في سوريا، فيما كان 2017 هو العام الذي تداعت في «أسطورة» التنظيم تمامًا؛ إذ خسر «عاصمتيه» في العراق وسوريا: مدينة الموصل العراقية التي سيطرت عليها القوات العراقية في يوليو (تموز)، ومدينة الرقة السورية التي سيطرت عليها الوحدات الكردية في أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام.
بعد المعركة.. العمليات النوعية «هدف الشرف» لتنظيم مهزوم
شهدت الأعوام بين 2017 و2019 المراحل النهائية لإنهاء سيطرة «داعش» على ما تبقى من الأراضي العراقية والسورية؛ إذ أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في ديسمبر (كانون الأول) 2016 انتصار بلاده على «تنظيم الدولة»، وفي أوائل عام 2019 سيطرت «قوات سوريا الديمقراطية» على منطقة الباغوز، آخر معاقل التنظيم في سوريا؛ لتُعلن نهاية «دولة الخلافة» التي أقامها «داعش» في سوريا والعراق.
تكلل ذلك بإعلان الولايات المتحدة في العام نفسه اغتيال زعيم التنظيم وخليفته أبي بكر البغدادي في غارة جوية، واعتبر البعض ذلك بمثابة نهاية التنظيم نفسه؛ فقد اقتصرت نشاطات «داعش» منذ ذلك الحين على عمليات خاطفة في مناطق نائية، لكن أحداث الأيام القليلة الماضية ربما تحمل في طياتها سيناريوهات أخرى.
ففي عملية وصفت بأنها الأكبر من نوعها منذ إعلان هزيمة «داعش» في مارس 2019 تعرض سجن جويران في محافظة الحسكة شمالي سوريا لهجوم دام أربعة أيام منذ يوم الخميس 20 يناير (كانون الثاني)، وحتى أمس الأحد 23 يناير (كانون الثاني) 2022، وتعد الحسكة عاصمة الوجود الكردي في شمال سوريا، وسجن جويران هو السجن الذي يضم أكبر عدد من مقاتلي التنظيم في العالم، ومن ثم فإن لهجمات التنظيم على السجن أهمية كُبرى.
وبحسب وكالة «أعماق»، الذراع الإعلامي لـ«داعش»، فقد بدأ الهجوم بتفجيرين انتحاريين لشاحنتين مفخختين عند بوابة السجن؛ ما تسبب بدمار كبير في المكان، ومقتل العديد من حراس السجن، تلا ذلك هجوم لمقاتلي التنظيم الذين توزعوا على أربعة محاور، هاجمت المجموعة الأولى أبراج السجن، وأحرقت صهاريج النفط القريبة؛ لمنع طيران التحالف من رؤيتهم، فيما استهدفت المجموعات الثلاث الأخرى فوجًا عسكريًا قريبًا لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، والطريقين الموصلين إلى السجن؛ لمنع أي إمداد عن حراس السجن.
وبحسب رواية التنظيم فقد تمكن حتى الآن من إخراج نحو 800 أسير من السجن على دفعات، كما نشر «داعش» مقطع فيديو يظهر فيه بعض عناصره، وهم يحتجزون العشرات من «قوات سوريا الديمقراطية» داخل السجن، وبحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان» فقد بلغ عدد ضحايا الاشتباكات حتى الآن 120شخصًا، تزامنًا مع حركة نزوح واسعة لأهالي المنطقة.
من ناحيتها أصدرت «قوات سوريا الديمقراطية» بيانًا أكدت فيه استمرار سيطرتها على السجن، وتقوم بعمليات تمشيط في المناطق المحيطة بالسجن، مؤكدة أنها تطارد عناصر التنظيم الفارين، وأنها تمكنت من إعادة اعتقال البعض منهم، بمساندة من طيران التحالف الدولي، وذكر البيان أن «داعش» يخطط للسيطرة على السجن منذ ستة أشهر.
وبالتزامن مع الهجوم على سجن جويران في سوريا كانت عناصر «داعش» تشن هجومًا آخر عُدّ الأكبر من نوعه منذ شهور، استهدف مقرًا للفرقة الأولى في منطقة العظيم، بمحافظة ديالي شمال شرق بغداد، وأسفر الهجوم عن مقتل 11 من أفراد الجيش، بينهم ضابط برتبة ملازم، وانسحب المهاجمون بعدها إلى قواعدهم.
وبالرغم من أن المقر محصن بكاميرات حرارية، ومناظير، وأبراج مراقبة، فإن تقديرات المسؤولين العراقيين تشير إلى أن «داعش» قد تمكن من استغلال وعورة المنطقة، وانخفاض درجات الحرارة، مع غفلة الجنود العراقيين لتنفيذ العملية؛ إذ قام المهاجمون بتحطيم الكاميرات، وتدمير مدخل المعسكر قبل بدء الهجوم.
هل سيعيش العالم رعب «داعش» مجددًا؟
في بيان استنكر الهجوم الذي تعرض له الجيش العراقي في ديالي، ذكرت بعثة الأمم المتحدة إلى العراق أن هجوم ديالي يعيد التذكير بأن تنظيم «داعش» «لم يزل يشكل تهديدًا»، وكانت الأمم المتحدة في تقرير لها عام 2020 قد قدرت بأن التنظيم لم يزل يملك قوات قوامها حوالي 10 آلاف عنصر، موزعين على خلايا صغيرة بين سوريا والعراق، ويتنقلون بحرية بين البلدين.
كما ذكر تقرير أممي آخر صدر في فبراير (شباط) 2021 عن «لجنة معاقبة القاعدة و(داعش)» التابعة لمجلس الأمن أن التنظيم لديه 100 مليون دولار من الاحتياطي النقدي؛ إذ يستمر في عمليات جمع الأموال بطرق عديدة، مثل الابتزاز، والخطف، والفدية، كما حصل التنظيم على أموال من الخارج من خلال شبكات مالية غير رسمية.
وبالرغم من أن «داعش» قد فقد سيطرته على الأراضي، وتعرض الكثير من عناصره للاغتيال، أو الهرب، فلم يزل التنظيم ينشط في مناطق بعيدة عن التجمعات السكانية، أو قدرات ورصد أجهزة الأمن، خاصة في مناطق السلاسل الجبلية المنيعة شمالي، وشمالي شرق بغداد، في محافظات ديالى، وكركوك، وصلاح الدين، وهذه المناطق كانت من قبل ملاذًا آمنًا للتنظيم، قبل سيطرته على الموصل في 2014، بالإضافة إلى مثلث صحراوي واسع بين محافظات صلاح الدين، ونينوى، والأنبار، وهو ثلث يصعب على الجيش والأمن السيطرة عليها ومراقبتها، وقد سبق أن اتخذه «داعش» قاعدة آمنة له قبل عام 2014.
هذه الملاذات الآمنة قد تشكل نقطة انطلاق «داعش»، فالمؤكد أن التنظيم قضى الأشهر الماضية كامنًا؛ ليعيد تنظيم صفوفه، والتعلم من أخطائه، وتحول من أسلوب الحرب التقليدية إلى حرب العصابات، المعتمدة على الكر والفر، واتخذت هجماته خلال الشهور الفائتة شكل غارات تضرب أهدافًا محددة، أو شن عمل عسكري واسع على عدة نقاط، ومن ثم ينسحب إلى قواعده الأمنية في محاولات لتأكيد بقاء التنظيم، واستمرار قدرته تشكيل خطر على قوات الأمن.
الكثير من أدبيات التنظيم تؤكد أن «الحرب سجال، والأيام دول، والمجاهدون قد يخسرون معركة، أو مدينة، أو منطقة، لكنهم لا يهزمون قط، وينتصرون في النهاية»، وبالتالي، فإضافةً إلى الجوانب العملياتية، «تنظيم الدولة» يمتلك أيديولوجيا راسخة، تستطيع أن تتكيف جيدًا مع الخسائر، وتبني على الانتصارات التكتيكية الصغيرة.