في ظل الدعاية الكبيرة عن كونها البديل الآمن للتدخين التقليدي، بدأت السجائر الإلكترونية، أو ما يسمى في الأوساط الشبابية «فيب» (Vape)، بالانتشار بشكل كبير بين قطاعات عمرية متفاوتة. الجميع يجد فيها مزيجًا من النكهات الرائعة التي ربما يكفي مجرد استنشاقها من شخص يدخن في الكرسي المجاور لأن تقوم بالبحث عن أقرب متجر يبيع هذا المنتج، وسيقودك البحث بالطبع إلى مجموعة من النتائج التي تؤكد أنه بديل آمن للتدخين التقليدي في صورة جهاز عصري لا يتسبب في تشوهات الأصابع والأسنان بالألوان المزعجة الناتجة عن التدخين التقليدي.
الدعاية الأكثر شهرة بين مستخدمي السجائر الإلكترونية هي أنها تقدم الحل المثالي لمشكلة كبرى تواجه كل المدخنين التقليديين تقريبًا، إنها أمنية التوقف عن التدخين وحماية الجسم من أضراره التي لا يشك فيها أحد. هذه الدعاية ترتكن بالفعل إلى حقيقة إحصائية مهمة أثبتتها دراسة أجريت في إنجلترا، وقالت الدراسة: «إن السجائر الإليكترونية هذه قد ساعدت حوالي 18 ألف شخص على التوقف عن التدخين في عام 2015، والذين لم يكونوا ليتوقفوا عنه تحت أي ظروف أخرى».
السجائر الإلكترونية أم التدخين العادي؟
بدأت السجائر الإلكترونية في الظهور في الأسواق الأمريكية مؤخرًا عام 2008، ومنها بدأت في الانتقال إلى أنحاء العالم والوطن العربي أيضًا. يتساءل الجميع عن الدراسات العلمية التي أجريت على منتج يعتبر حديثًا نسبيًا، ومدى حقيقة الادعاءات التي يتم الدعاية لها أثناء الترويج لهذا المنتج على المواقع الإليكترونية أو من خلال الإعلانات المتلفزة التي ظهرت مع بداية موجة استيراد السجائر الإلكترونية وتوزيعها في البلاد العربية.
Embed from Getty Images
الحقيقة هي أن هناك أدلة موثوقة على أن السجائر الإلكترونية أكثر أمانًا بنسبة كبيرة من التدخين التقليدي، وهذا اليقين المتعلق بأفضليتها على التدخين التقليدي إنما يأتي من مجموعة من الدراسات التي تناولت مقارنة الأضرار الصحية بين السجائر الإلكترونية؛ التي تتمثل في استنشاق النيكوتين دون احتراق، والسجائر التقليدية التي تعتمد بشكل رئيس على عنصر الاحتراق. أحد أهم هذه الأدلة هو بحث نُشر في موقع «الكلية الملكية للأطباء» (by the Royal College of Physicians) في أبريل (نيسان) عام 2016.
ضررها لا يشكل أكثر من 5% من ضرر السجائر التقليدية
وقدم القائمون على هذا البحث تحليلًا لعشرات من الدراسات المتخصصة في شأن التدخين الإلكتروني، وخلص البحث إلى أن الأضرار الصحية الناتجة عن التدخين طويل الأجل للسجائر الإلكترونية لن يشكل بأي حال أكثر من 5% من الخطر الناتج عن تدخين التبغ بالطريقة التقليدية. بعد إجراء هذا البحث قامت مؤسسة الكلية الملكية وغيرها من المؤسسات في المملكة المتحدة مثل «الكلية الملكية للممارسين العامين» (Royal College of General Practitioners) بإصدار توصيات بالتشجيع على استخدام بدائل، مثل السجائر الإلكترونية، بالنسبة للأشخاص الذين يحاولون الإقلاع عن التدخين.
بيان آخر أكثر أهمية أصدرته مجموعة من أكبر وأهم المؤسسات الطبية في المملكة المتحدة، أكدت فيه هذه المؤسسات أن تدخين السجائر الإلكترونية هو بديل أكثر أمانًا للسجائر التقليدية، وأن عدد الذين يستخدمونه في المملكة المتحدة من أجل الإقلاع عن التدخين، أكثر بحوالي 10 مرات من هؤلاء الذين يستخدمون الوسائل المحلية الأخرى للإقلاع عن التدخين. في الوقت نفسه، يعترف البيان بأن السجائر الإلكترونية ليست الطريقة الأفضل للإقلاع عن التدخين، وأنها ليست خالية من المخاطر بدورها.
السجائر الإلكترونية «فيب» مظلومة في الدراسات العلمية
لا يختلف المجتمع العلمي عن الأفراد العاديين من حيث قابلية أفراده للتأثر بالمشكلات الفكرية الشائعة، مثل الانحياز المسبق والتنميط، خصوصًا أثناء الحديث عن موضوع بخطورة التدخين. يعرف العلماء جيدًا المخاطر الكارثية التي تنتج عن التدخين بصورته التقليدية، وأنه يقتل شخصًا من بين كل شخصين يدخنان لفترات طويلة الأمد. هذه السمعة السيئة للتدخين، وحقيقة أن السجائر الإلكترونية تندرج تحت أنواع التدخين، قد تسببت في خروج بعض النتائج المضللة لبعض الأبحاث المهمة التي ظهرت في الأعوام الأخيرة.
Embed from Getty Images
أحد هذه التقارير أصدرته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر (تشرين) 2016، ووضعت فيه سلسلة من الخطوات التي تهدف إلى تنظيم تداول منتجات السجائر الإلكترونية بالنسبة للبلدان الموقعة على الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ (the Framework Convention on Tobacco Control). هذه الخطوات كانت تهدف بشكل رئيس لمنع أو وضع تقييدات شديدة على بيع وتوزيع وتسويق السجائر الإلكترونية.
تعرض تقرير منظمة الصحة العالمية لنقد شديد من «المركز البريطاني لدراسات التبغ والكحول» (UK Centre for Tobacco and Alcohol Studies) الذي اعترض على مجموعة كبيرة من النقاط في التقرير، أهمها كان تركيز التقرير على كون السجائر الإلكترونية خطرًا بدلًا من النظر إليها على أنها تمثل فرصة حقيقية للاستبدال بالتدخين التقليدي بالنسبة للأشخاص المدخنين.
تقرير منظمة الصحة العالمية.. الكثير من الانتقادات
اعترض المركز البريطاني كذلك على فشل تقرير منظمة الصحة العالمية في توضيح وتحديد حجم المخاطر التي يمكن أن تسببها السجائر الإلكترونية، وهي النقطة التي من المفترض أن تكون مفصلية داخل التقرير. كان تجاهل التقرير لحقيقة قدرة السجائر الإلكترونية على أن تكون الدعاية المضادة للتدخين التقليدي من أبرز اعتراضات المركز البريطاني كذلك.
تقرير مهم آخر نُشر في ديسمبر (كانون الأول) عام 2016 لمراجعة كتبها الجراح العام الأمريكي (the US Surgeon General) والتي اهتم فيها ببحث تأثيرات السجائر الإلكترونية على الشباب والمراهقين. وصم هذا التقرير السجائر الإلكترونية بأنها «قلق» يهدد الصحة العامة في الولايات المتحدة، وتحدث التقرير عن كونها المنتج الأكثر انتشارًا لاستخدام التبغ بين الشباب الأمريكي، وأن استخدام النيكوتين بأية طريقة غير آمن بالنسبة للمراهقين والنساء الحوامل.
Embed from Getty Images
تعرض التقرير بدوره لانتقاد كبير بسبب الاستنتاجات التي قدمها التقرير، والتي تؤيد بدورها التقييدات الشديدة لبيع وتوزيع السجائر الإلكترونية. بشكل أساسي لم يقارن التقرير بين المخاطر التي تتسبب بها السجائر الإلكترونية، وتلك التي يتسبب بها التدخين التقليدي، كما فشل التقرير في توضيح مسألة مهمة، وهي أن السجائر الإلكترونية لا تحتوي على عنصر شديد الخطورة مثل التبغ.
أهم الانتقادات التي وُجهت للتقرير كانت استخلاص نتائج حول عنصر النيكوتين، والتي تنطبق بدورها على وسائل علاج النيكوتين البديلة (مثل رقاقة النيكوتين، والعلكة)، وهي بدائل آمنة ومصرح بها للحوامل والمراهقين على حد سواء.
هل السجائر الإلكترونية «فيب» آمنة كليًا؟
قبل أن نتحدث عن إجابة هذا السؤال، دعونا نتذكر لماذا نعتبر التدخين التقليدي قاتلًا مدفوع الأجر. يتسبب التدخين التقليدي، الذي يتضمن احتراق عنصر التبغ، في قتل الملايين من الأشخاص بحسب التقارير الرسمية من منظمة الصحة العالمية. عندما تقرر تدخين سيجارة عادية فإنك لا تحرق النيكوتين فحسب، بل مجموعة متنوعة من المواد التي تتسبب في طيف واسع من الأمراض التي يستطيع معظمها قتلك. أثناء عملية الحرق، فإنك تستنشق مجموعة كبيرة من المواد المسرطنة، مثل الفورمالدهيد والرصاص والسيانيد والأمونيا والبنزين، بالإضافة إلى الغازات الناتجة عن الاحتراق غير الكامل لهذه المواد.
Embed from Getty Images
مقارنة بكل هذه المخاطر، فإن السجائر الإلكترونية ستكون أكثر أمانًا بنسبة كبيرة للغاية، ويؤمن الكثير من المتخصصين أنها يمكن أن تساهم في إنقاذ الكثير من الحيوات، إذا ما استخدمت كبديل للتدخين التقليدي. بالحديث عن السجائر الإلكترونية نفسها، فإن الجزم بأمانها عمومًا لن يكون بالحكم العقلاني كذلك، فهناك الكثير من التقارير عن أشخاص يتعرضون لبعض الحروق بسبب انفجار الملف المسئول عن التبخير، وأيضًا توجد تقارير تؤكد تعرض بعض الحيوانات المنزلية للتسمم بالنيكوتين بسبب السجائر الإلكترونية.
حتى الآن نحن لا نعرف مخاطره بعيدة الأجل
إضافة إلى الفكرة البديهية القائلة بأنه من الخطأ استنشاق الكثير من المواد الكيميائية إلى رئتيك عندما يكون لديك خيار آخر، وهو ألا تفعل ذلك؛ فهناك مشكلة حقيقية تتمثل في كون هذا المنتج حديثًا نسبيًا؛ فمعظم الدراسات التي تتحدث عن خطورته القليلة نسبيًا هي دراسات لرصد المخاطر قريبة ومتوسطة الأجل، أما التأثيرات بعيدة المدى، فهي لاتزال بحاجة لكثير من الجهود والوقت للوقوف عليها.
حقيقة عدم معرفتنا الكاملة بالمخاطر بعيدة المدى للسجائر الإلكترونية أجبرت العلماء على النظر في المناطق المتاحة للدراسة حاليًا، مثل الدراسة التي أكدت أن تدخين السجائر الإلكترونية، إنما يتسبب في نفس التأثيرات التي تسببها السجائر العادية على الأوعية الدموية في القلب، وذلك بسبب وجود النيكوتين في كلا النوعين.
Embed from Getty Images
يحاول العلماء في الوقت الحالي التغلب على التناقض الكبير المتعلق بالدراسات التي تتناول السجائر الإلكترونية، والتي تتراوح بين كونها «أكثر خطرًا مما يدرك الناس» و«أنها تحمل القليل من الأضرار الموجودة في التدخين». أحد أهم هذه المحاولات جاءت من مجموعة «Cochrane»، وهي مؤسسة غير ربحية تشكلها مجموعة من الباحثين يهدفون لجمع الأدلة المتعارضة الخاصة بالصحة؛ لإعادة النظر فيها والخروج بنتيجة متناسقة.
أصدرت المجموعة تقريرها بخصوص السجائر الإلكترونية، والذي كان مراجعة لـ26 دراسة منشورة، وخلص التقرير إلى النتائج التالية: إن السجائر الإلكترونية تستطيع مساعدة الناس في الإقلاع عن التدخين، وأنها لا يبدو أنها تمتلك أي مخاطر حقيقية على المدى القريب أو المتوسط (حتى عامين)، وأنها في بعض الحالات عند الانتقال إليها من التدخين التقليدي يمكن أن تسبب تأثيرات على الدم والتنفس تشبه تلك الموجودة لدى غير المدخنين.
التأثيرات بعيدة المدى.. دراسة أولى غير مبشرة
قبل شهرين، ظهرت دراسة مهمة، وهي الأولى المتعلقة بالاستخدام طويل الأجل للسجائر الإلكترونية، والتي توصلت إلى نتيجة مفادها أن الاستخدام اليومي للسجائر الإلكترونية، قد يضاعف فرصة التعرض لأزمة قلبية مقارنة بالأشخاص الذين لا يدخنون، بينما يتسبب التدخين اليومي للسجائر التقليدية بمضاعفة خطر التعرض لللأزمات القلبية ثلاث مرات. دراسة أخرى أجريت على فئران التجارب، وتوصلت إلى أن النيكوتين الناتج عن استنشاق هذه السجائر قد يتحول إلى مواد تتسبب في تلف الحمض النووي في القلب والرئتين والمثانة، وهو ما يقلل من قدرة الجسم على إصلاح أخطاء الحمض النووي.
Embed from Getty Images
في الوقت الذي قال فيه بعض الباحثين: «إن نتائج هذه الدراسة قد تشير إلى تورط السجائر الإلكترونية في التسبب ببعض أنواع السرطان»، يقول بعض المشككين في نتائجها: «إنها لا تمثل أي حكم حقيقي لتأثير السجائر الإلكترونية على البشر من حيث كونها قد أجريت على فئران التجارب؛ حيث تختلف وسائل تكون الأورام لدى هذه القوارض عنها لدى البشر».
قد لا تبدو نتائج هذه الدراسات حاسمة بشكل كامل؛ ذلك أننا لا نزال في حاجة ماسة لكثير من التجارب والدراسات التي تناقش التأثيرات طويلة المدى لاستخدام السجائر الإلكترونية. مع ذلك فإن كنت مدخن تقليدي، فإن نصيحة المتخصصين بشكل حاسم هي الانتقال إلى السجائر الإلكترونية، بينما إن كنت غير مدخن، فإن النصيحة الأولى هي أن تبقى بعيدًا عن كل أنواع التدخين بالطبع.
علامات
التبغ, التدخين, الحمض النووي, السجائر الإلكترونية, السرطان, الفيب, النيكوتين, دراسة, صحة, علوم وتكنولوجيا, مواد مسرطنة