يبدو أنَّ لبرلين رأيًا آخر

“لن تغير الانتخابات الجديدة شيئًا” جاء ذلك ضمن تصريحات وزير المالية الألماني “فولفجانج شيوبله” قبيل انعقاد الانتخابات اليونانية خلال شهر يناير الماضي والتي أتت بحكومة يسارية رجعية، والتي تَعِدُ بإنهاء التقشف وتطالب دائنيها بتخفيف أعباء المديونية، وأضاف “شيوبله” حاسمًا أنه يتيعن على الإدارة اليونانية الجديدة أن تقبل بالأحكام والقوانين التي مررتها الحكومة السابقة لها. وعلى أية حال، هذا ما فعلته الحكومة اليونانية الجديدة مخالفةً بذلك وعودها الانتخابية. والآن كيف يمكن تغيير مثل هذه السياسات الكارثية التي يفرضها “شيوبله” وأمثاله؟ وهل تتعارض العضوية في المنطقة الأوروبية مع الديمقراطية؟

لا يقتصر الأمر على قضية اليونان وحدها، فالانتخابات الإسبانية ستحل في وقت لاحق من هذا العام، وحتى الآن يتصدر اليساريون الرجعيون التابعون لحزب “بوديموس” جميع استطلاعات الرأي. ومنذ اندلاع تلك الأزمة، فقد أسقط المصوتون حكومتهم من خلال كل عملية انتخابية، ليأتي الآن “شيوبله” وخرافه بتصريحاتهم التي تفرض على الإدارة الجديدة الالتزام بتلك السياسات الفاشلة التي سبق وأن رفضها المصوتون. وعلى سبيل المثال، فقد فاز “فرانسواه أولاند” ضمن الانتخابات الرئاسية المنعقدة عام 2012 بعد أن تعهد بإنهاء إجراءات التقشف، ولكن سرعان ما دفعته برلين إلى التراجع عن هذا القرار. وخلال العام الماضي، طالب رئيس الوزراء الإيطالي الإصلاحي “ماتيو رينزي” بتغيير القوانين المالية المعمول بها داخل المنطقة الأوروبية حتى تتمكن الحكومة الإيطالية من تدشين المزيد من الاستثمارات، وذلك عملًا بالصلاحية التي اكتسبها إثر الفوز الجلل الذي حققه خلال الانتخابات الأوروبية المنعقدة في شهر مايو، إلا أن طلبه قوبل بالرفض.

عادةً ما يضرب الساسة بوعودهم الانتخابية المطاطة عرض الحائط ما إن يواجهوا المصاعب الحقيقية التي تفرضها مناصبهم، وهو الأمر الذي يمثل إحدى السمات المؤسفة للديمقراطية ولا يدل بالضرورة على غيابها، بل إن هناك قيودًا فعلية يتم فرضها على الديمقراطية داخل المنطقة الأوروبية. فخلال عام 2011، أقدمت سلطات المنطقة الأوروبية على عزل رئيسي وزراء دولتي إيطاليا واليونان على الرغم من انتخابهما واستبدال شخصين غير منتخبين وأكثر مرونة من التكنوقراط بهما، وجاء قرارها بعزل الأخير بعد عرضه المتهور لإجراء استفتاء للشعب اليوناني بشأن الأحوال غير العادلة التي يفرضها عليهم الألمان.

أما بالنسبة لفرنسا، فإن الحكومة لا تمتنع عن تقديم أي حوافز مالية بسبب الأسواق، بل إن المستثمرين يحرصون على إقراض باريس دون مقابل، ولكن السبب يكمن في برلين وبروكسل، فصلاحيات المستشارة الألمانية “ميركل” وليس “الواقع” الاقتصادي هي ما يمنع إيطاليا وحلفاءها من الاقتراض بما يناسبهم لتنفيذ استثماراتهم التي من شأنها أن تعزز متطلباتهم الحالية والإمدادات المستقبلية فضلًا عن الأموال العامة.

ودائمًا ما يكون رد “شيوبله” حاضًرا في حالة معارضته بأنه لابد من احترام الاتفاقيات، فالقانون قانون. ولكن هذا الادعاء بأن قوانين المنطقة الأوروبية منقوشة على الحجر يتعارض مع الديمقراطية، بل إن هذا الادعاء غير صحيح بالأساس، فلطالما استغلت ألمانيا نفوذها داخل المؤسسات التابعة للاتحاد الأوروبي لإعادة كتابة القوانين الحاكمة للمنطقة الأوروبية، كما تستمر في انتهاك تلك القوانين ويساعدها على ذلك الحصانة التي تتمتع بها.

هل أقرضت البنوك الألمانية أموالًا طائلة لليونان التي تعاني من التعثر؟ وما المشكلة؟ إذا ما يمكننا خرق القاعدة القانونية التي تأسست عليها المنطقة الأوروبية وهي قاعدة منع الكفالة التي نصت عليها معاهدة ماسترخت والتي تمنع حكومة أي من الدول الأعضاء من كفالة نظرائها، إلا أن ألمانيا قدمت تلك الكفالة لبنوكها سرًا من خلال إقراض اليونان بأموال دافعي الضرائب الأوروبيين. كما قدمت البنوك الألمانية الكثير من القروض لكل من أيرلندا والبرتغال وإسبانيا، وهي دول تعاني من التعثر، وما المشكلة! فمع إمكانية التآمر مع النخب المحلية الفاسدة، سنقرض حكومات هذه الدول حتى يساندوا البنوك المحلية، ومن ثم فإنهم يساندون الدائنين الألمان. والآن ألا يشعر دافعو الضرائب الألمان بالقلق من أن ينتهي بهم الحال في عنق الزجاجة بسبب جميع القروض الممنوحة لدول الجنوب الأوروبي؟ فلابد إذًا من إعادة كتابة القوانين المالية في ظل وجود حالة من الاضطراب المالي خلفتها أخطاء “ميركل”، ومن ثم فرض قيود مالية جديدة من شأنها أن تمنح برلين وبروكسل المزيد من الصلاحيات على موازنات الدول الأخرى.

وكان الفائض الضخم الذي تتمتع به ألمانيا حاليًا – والذي يكمن في المدخرات الهائلة المُحققة من سياسة إفقار الجار التي تقوم على تقليص الرواتب وتمويل الصادرات – هو الوقود الذي يحرك سياسات الإقراض السيئة التي مارستها ألمانيا وأدت في النهاية إلى اندلاع أزمة في المنطقة الأوروبية. والآن يبدو أن هذا الفائض هو المحرك ذاته الذي تعمل ألمانيا من خلاله على تصدير الانكماش الاقتصادي. وباختصار، هذه هي أكبر حالة من عدم التوازن والأكثر زعزعة للاستقرار يشهدها الاتحاد النقدي، وهو الأمر الذي يتعارض مع قوانين المنطقة الأوروبية فيما يتعلق بغياب التوازن بين الاقتصاديات الكبرى. ولكن هل يُشكل هذا الأمر مشكلة بالنسبة لبروكسل؟ بالطبع لا! و ألمانيا تتكئ على سلطات المنطقة الأوروبية لتنجو بأفعالها فيما تخضع المفوضية الأوروبية لبرلين. أما إذا رغب المصوتون في أي مكان في تغيير أوضاعهم حتى داخل حدود بلدانهم: فلا وألف لا، ولا يوجد بديل عن ذلك.

وفي حالة اليونان، فقد تصرفت ألمانيا بأسلوب أكثر خداعًا، إذ أصر “شيوبله” أن إخضاع الحكومة اليونانية لرغبة برلين لا يتعارض مع الديمقراطية بصورة أو بأخرى، وفي المقابل، يتعين على الشعب اليوناني احترام رغبة المصوتين في بلدان المنطقة الأوروبية الأخرى. فهل سيتأذى دافعو الضرائب في ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية بغير وجه حق إذا ما تم تخفيف أعباء المديونية على اليونان كما تحتاج لاستعادة توازنها؟ خاصةً وأن “ميركل” هي من خرقت قانون منع الكفالة في المقام الأول لتضع مصلحة البنوك الأوروبية فوق مصلحة المواطنين الأوروبيين ومن بينهم الألمان أنفسهم، ومن ثم تضع الأوروبيين في مواجهة بعضهم الآخر. لو يدرك المصوتون الألمان أن “ميركل” و”شيوبله” قد كذبا عليهم بل وخاناهم، فإنهم لن يسقطوا في فخ القوميين الذين يلومون الشعب اليوناني في مقابل الأخطاء التي ترتكبها بنوكهم وحكومتهم!

وبذلك، لابد وأن تذعن اليونان لرغبات ألمانيا إذا ما أرادت تخفيف أعباء المديونية، وأن تستعد لإصدار عملة موازية. فيما تحظى الحكومة اليونانية الجديدة ببعض الوقت لإعادة التفكير في إستراتيجياتها وذلك بفضل العرض الذي قدمه دائنو الاتحاد الأوروبي لتمديد الكفالة لأربعة أشهر والذي قبلت به اليونان. وعلى نطاق أوسع، كيف يمكن استعادة الديمقراطية المالية؟ فلم تعد الساحة السياسية تتسع لكم الغضب وانعدام الثقة الناجم عن سوء إدارة الأزمات والذي يقود إلى نظام فيدرالي ديمقراطي. أما الخيار الأنسب هنا فيكون باستعادة قانون “منع الكفالة” على أن تتمتع الحكومات بحرية التجاوب مع متغيرات الظروف الاقتصادية والأولويات السياسية مع الأخذ في الاعتبار حاجة السوق إلى الإقراض، بل والأهم من ذلك خطر التخلف عن الدفع. (كما قد يُمنح البنك المركزي الأوروبي المزيد من الصلاحيات التي تخول له أن يصبح الملاذ الأخير للحكومات المتعثرة في السيولة)، وإلا فقد ينهار اليورو تمامًا.

لا يمكن الاستمرار في منع المصوتين من ممارسة حقهم في اتخاذ خيارات شرعية على الجانب الاقتصادي والسياسي. وتمامًا كما يسرد لنا تاريخ جمهورية فايمار الألمانية المأساوي، فإن فرض سياسات دفع لا يمكن تحملها على يد دائنين أجانب مكروهين لن يقود إلا لنشأة المزيد من التطرف السياسي. وقد أوضح “مارتن وولف” الكاتب بجريدة “فاينانشل تايمز”، أن المنطقة الأوروبية قد نشأت لتصبح بمثابة اتحاد بين الديمقراطيات المختلفة، لا لأن تصبح إمبراطورية. لابد وأن يعي كل من “ميركل” و”شيوبله” ذلك جيدًا.

المصادر

تحميل المزيد