في مقاله على موقع «Foreign Policy»، بعنوان «الأرجنتين وصندوق النقد الدولي يديران ظهريهما لسياسات التقشف»، تحدث الاقتصادي جوزيف ستجلتز عن الاتفاق الأخير الموقع بين كل من صندوق النقد الدولي، ودولة الأرجنتين بصفته اتفاقًا فارقًا في تاريخ الصندوق.

وأكد ستجلتز في مقاله الذي كتبه بالتعاون مع مارك ويسبروت من معهد واشنطن للدراسات السياسية والاقتصادية، أنه من المحتمل أن يكون هذا الاتفاق نقطة تحول في سياسات الصندوق لاحقًا، وجوزيف ستجلتز هو حائز جائزة نوبل في الاقتصاد، والبروفيسور في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية.

التقشف.. أداة صندوق النقد لاستعادة الثقة بالاقتصاد

لنفترض ما يلي؛ طلب منك أحدهم اقتراض بعض المال، مع علمك بأن المقترِض المحتمل له عادات صرف معينة قد تؤثر في احتمالية قدرته على إرجاع الأموال المقترضة لاحقًا، لكنك، في الوقت نفسه، تريد استثمار أموالك التي لا تستعملها لتحصيل ربح ما على شكل فائدة، فما العمل في هذه الحالة؟ 

في حالة الاقتراض الفردي قد لا يمكنك فعل شيء على الإطلاق، وقد تكون مجبرًا على التخلي عن فرصة الربح هذه، أو المخاطرة تمامًا بالاعتماد على مصداقية المقترِض فحسب، أما في حالة المؤسسات المالية؛ مثل  البنوك وشركات التمويل وغيرها، فإنها تستطيع أن توقع عقدًا مع المقترضين يتضمن شروطًا وضمانات لحفظ حقها في استرجاع ديونها، كأن تفرض على المقترض تعديل طريقة صرفه أو كسبه للنقود؛ سواء كان شركة أو دولة. 

اقتصاد الناس

منذ سنتين
«أكبر صناع الفقر».. ما فعله صندوق النقد والبنك الدولي في أفريقيا

إحدى أهم هذه الطرق هو فرض تقليص نفقات على جميع بنود الصرف أو بعضها، أو محاولة رفع الإيرادات في المدى القصير، وهو ما نسميه عادة بـ«التقشف»، وهي ليست سياسة سيئة بالضرورة، فقد تحتاج الشركات – على سبيل المثال- أن تراجع إنفاقها في كثير من البنود بهدف تقليصها، وقد يكون اتباع مثل هذه السياسة مفيدًا ومهمًّا جدًّا للشركة، بل قد ينقلها من حالة مالية إلى أخرى تمامًا؛ ولكنها ليست بالضرورة الحالة نفسها بالنسبة للدول. 

«الناتج المحلي الإجمالي Gross Domestic Product» أحد المؤشرات الأساسية لمعرفة حجم ما ينتجه الاقتصاد كل عام، وهو في الوقت نفسه يحتسب بعدة طرق؛ منها مجموع المصروفات في دولة ما خلال العام، وهو مكون من مجموع استهلاك الأفراد، والإنفاق الحكومي، والإنفاق الاستثماري، وصافي التجارة الخارجية (الصادرات- المستوردات).

وبطبيعة الحال فإن تخفيض الإنفاق الحكومي بأي شكل، أو رفع الضرائب سيعني انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى أن تقليص الموازنة قد يعني انخفاض استهلاك الأفراد (سواء بسبب ارتفاع أسعار بعض السلع بعد رفع الدعم أو انخفاض المعونات أو غيرها)، وربما انخفاض الإنفاق الاستثماري أيضًا. 

وهذا يعني أن تقليص إنفاق الدول ليس مشابهًا لتقليص نفقات الشركات، رغم ما يترتب من سلبيات على فئات مختلفة من الناس نتيجة تقليص نفقات الشركات (مثل فصل الموظفين)، إذ إن الدولة تعاني أزمات اقتصادية أشد نتيجة لتقليص إنفاقها، أو محاولة رفع مواردها عن طريق رفع الضرائب، أو شمول فئات أكبر في دفع الضرائب.

وفي هذا السياق يهدف «التقشف» إلى السيطرة على ديون الحكومة، فتقليص الإنفاق يعني تقليص عجز الموازنة الحكومية، ومن ثم تقليص ما يتراكم من الدين الحكومي سنويًّا، فالعجز في كل سنة يجبر الدولة على الاقتراض من الخارج أو الداخل، وفي النهاية تتعرض الدول ذات العجز الكبير في الموازنة، ومن ثم الدين العام الكبير، لفقدان جزء من الثقة بها وباقتصادها.

Embed from Getty Images

احتجاج على صندوق النقد في الأرجنتين

ويهدف التقشف إلى استرجاع الثقة من جديد، وخصوصًا من طرف الدائنين، الذين لن يجرؤوا على إقراض الدول ما لم تثبت قدرتها على تحسين أوضاعها المالية (الواردات-النفقات) لتأكيد القدرة على السداد لاحقًا، إذ تعني قدرة الدولة مستقبلًا على السداد مخاطرَ أقل، ومن ثم سعر فائدة أقل، طالما أن سعر الفائدة يعكس داخله مخاطر عدم السداد في المستقبل، وأن التقشف يعني عمليًّا تخفيض هذه المخاطر.

ويمكننا تحديد النظرية أو المدرسة الاقتصادية التي تتبعها المؤسسات بدقة عن طريق تتبع السياسات الاقتصادية التي من طرف هذه المؤسسات، إذ تقول دراسة صدرت عام 1996 إن صندوق النقد الدولي يمكن أن يوصف بأنه يتبع للمدرسة النقدية في الاقتصاد، والتي تؤمن بأن الأسواق تستطيع الإبقاء على استقرارها داخليًّا؛ ما لم تحصل هزات خارجية في عرض النقود، وأن تدخل الحكومة الكبير في الاقتصاد يؤدي إلى عدم الاستقرار. 

ويؤمن أصحاب هذه النظرية بحكومات صغيرة، وبقطاع خاص كبير يكون محركًا للاقتصاد، بينما تعمل الحكومة أساسًا على تحقيق استقرار سوق النقد فقط، ولذلك ارتبط الاسم بـ«النيو ليبرالية» في العديد من النقاشات السياسية، وخصوصًا في سياق أمريكا اللاتينية.

ومن الطبيعي إذن أن يعتمد صندوق النقد سياسة التقشف في اتفاقيته مع الدول المقترِضة منه، خصوصًا وأن الدول النامية عادة ما تكون متأخرة عن الدول المتقدمة في لبرلة اقتصادها، وتخلي قطاعها العام عن ملكية الكثير من قطاعات الاقتصاد، والإنفاق العام الكبير -نسبيًّا- في الاقتصاد.

وعليه جرى ربط صندوق النقد وغيره من المؤسسات الدولية بالنيو ليبرالية، ورُبط في أذهان الكثيرين من قاطني الدول المضطرة للاقتراض منه بالتقشف وخصخصة القطاع العام، وتدهور حال فئات كبيرة من الناس لفقدانهم مصادر الدعم والتمويل الحكومي، وأصبح نقاش سياسات الصندوق واللجوء إليه حاضرًا وبقوة في أي سجال سياسي. 

إلا أن صندوق النقد بدأ بنقاش هذه السياسات مؤخرًا، والاعتراف بأن بعضها أدى إلى عدم المساواة بدلًا من النمو، دون نقدها بشكل جذري، بل مع تأكيد فوائدها، وإنقاذها للعديد من سكان العالم من الفقر، كما أن بعض الباحثين ادعوا في السنوات الأخيرة أن صندوق النقد بدأ يخفف من وطأة اتباعه لسياسات التقشف؛ وخصوصًا بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008، إلا أن العديد من الدراسات تؤكد عدم صحة هذا الادعاء، وأن سياسات التقشف بقيت حية وبقوة. 

لكن ما يحدث هو أن الدول تكون أقل عرضة لمواجهة التقشف كلما كانت لها علاقات قوية مع أوروبا الغربية، أو إذا كانت تتلقى دعمًا كبيرًا من الخارج، خاصة إذا كانت الدولة مضيفة لاستثمار أجنبي مباشر كبير من الاتحاد الأوروبي.

وتناقش العديد من الدراسات والتقارير أثر سياسات التقشف التي تبناها الصندوق في العديد من البلدان، وفي فترات زمنية مختلفة، فتتحدث دراسة عن أن 85% من القروض الممنوحة خلال فترة كورونا اشترطت انتهاج سياسات تقشفية لاحقًا في فترة التعافي، حتى إن الأمر وصف بـ«تعبيد الطريق نحو حقبة جديدة من التقشف في العالم».

ومع أن صندوق النقد دق بنفسه ناقوس الخطر من اللامساواة المتنامية في العالم، وخصوصًا في بداية جائحة كورونا؛ فإنه أصر على سياسات التقشف المولدة للفقر واللامساواة، وفرضها على الدول المقترِضة لتطبيقها في مرحلة التعافي من الجائحة.

ومن ثم لم يغيِّر الصندوق نظرياته الاقتصادية، حتى لو ناقش أثر هذه السياسات في الدول المُقترضة، بل ما زال نهج التقشف وتقليص القطاع العام قائمًا، وإن اختلفت حيثياته بشكل غير جوهري عن السابق، نتيجة للدراسات الكثيرة التي تربط بين سياسات الصندوق واللامساواة والفقر، وغيرها من المشكلات الاقتصادية.

هل يتخلى صندوق النقد عن التقشف؟ 

في تعليقه على اتفاق صندوق النقد مع الأرجنتين، قال الاقتصادي جوزيف ستيجلتز إن الصندوق لم يمتنع فحسب عن الإصرار على التقشف على غير عادته، بل قد يكون سابقة لها ما بعدها في مجال إعادة جدولة الديون، والتعامل مع الأزمات المالية في عصر ما بعد الجائحة، فكيف حصل هذا؟ 

يقول ستيجلتز إن المهمة الأساسية لصندوق النقد هي تقديم قروض بالعملة الصعبة للدول التي تواجه مشكلات في ميزان المدفوعات، لكن المفارقة أن الخطر الأساسي على ميزان المدفوعات الأرجنتيني يأتي من التزامات الدين الأرجنتيني الضخم للصندوق. 

Embed from Getty Images

احتجاج على صندوق النقد في الأرجنتين

فقد بلغت ديون الأرجنتين للصندوق أكثر من 40 مليار دولار، ويهدف الاتفاق الأخير إلى إعادة جدولتها، لتمكين الأرجنتين من استمرار التعافي من الجائحة، وذلك بعدم تقليص الإنفاق الحكومي بغية تقليل عجز الموازنة، ويُذكر أن الاتفاق ينص على الوصول إلى موازنة متزنة (الإيرادات = النفقات باستثناء مدفوعات الفائدة) بحلول عام 2025.

يبلغ الدين الأرجنتيني لصندوق النقد وحده أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي بسعر الدولار لعام 2020، بينما بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 100% للعام نفسه، وتعد هذه النسب خطيرة جدًّا، خصوصًا وأن البلد لم يحقق نسب نمو موجبة منذ عام 2017 وحتى عام 2020، إلا أن الأرجنتين عادت لتحقيق نسبة نمو موجبة مرتفعة في عام 2021 مقاربة لـ10%.

أكدت الأرجنتين ضرورة تأجيل هدف تقليص العجز، والإبقاء عليه خلال السنوات القليلة المقبلة، من أجل تمكين الاقتصاد من التعافي من الجائحة وما قبلها، بالإضافة إلى الإبقاء على سياستها النقدية التوسعية، والتي تشمل تخفيض أسعار الفائدة وطبع النقود لتحفيز الاقتصاد.

ولم تنتهِ تفاصيل الاتفاق بشكل كامل، وستظل قابلة للنقاش في الأسابيع القادمة، كما أن اتفاقات صندوق النقد قد تعدل وتختلف تبعًا لما سيحصل في الأعوام القادمة، طالما أن الأرجنتين مدينة للصندوق، كما أن السياسة الاقتصادية نفسها قد تختلف لاحقًا، وذلك تبعًا لمن سيخلف الحكومة الحالية، وكيف سيستجيب لضغوطات صندوق النقد حينها، فمن الواضح أن الاتفاق الحالي لم يُتوصل إليه إلا بعد مفاوضات حثيثة من طرف الحكومة الحالية.

إذ جرى التوصل إلى هذه الاتفاقية بسبب الخوف من إمكانية تعثر الأرجنتين عن السداد، ودخولها في أزمة مالية ضخمة، قد تتسبب في أزمة مالية أكبر منها من الممكن أن تؤثر في العالم بأكمله، ما يعني أن صندوق النقد لم يكن حرًّا تمامًا في تقرير سياسته تجاه الأرجنتين.

ولم تكن السياسات التقشفية بعيدة عن الأزمة، بل كان تقليص دعم الطاقة في الأرجنتين من ضمن أسبابها، لذا فالاتفاقية تعد حلًّا وسطًا بين الطرفين، يضمن الوصول إلى تقليص عجز الميزانية؛ لكن ليس في الوقت الحالي، ومن ثم يضمن أيضًا تمكين الأرجنتين من التعافي. 

ولهذا السبب وصف وزير الاقتصاد الأرجنتين، مارتن جوزمان، الاتفاق بأنه خالٍ من سياسات التقشف، فيما تصف الـ«Economist» الاتفاق بأنه أقل تطلبًا مما اعتاد عليه صندوق النقد بالعادة، فليس الاتفاق تراجعًا بشكل كامل عن سياسات الصندوق، بل قبولًا بحل وسط بين الطرفين فقط، وهو غير مطابق تمامًا لمقترح الحكومة الذي تقدمت به إلى الصندوق، كما أن المكون اليساري من الائتلاف الحكومي ما زال رافضًا للاتفاق، نظرًا إلى تحميله صندوق النقد ذنب الأزمات الاقتصادية في الأرجنتين.

هل يؤثر هذا الاتفاق في الاتفاقات القادمة لصندوق النقد؟

يبدو أنه أصبح من الممكن أن يضطر الصندوق إلى تليين مطالبه في اتفاقاته المستقبلية مع الدول التي تمر بوضع اقتصادي مشابه للأرجنتين؛ إذا ما توافر في هذه الدول حكومة أو ائتلاف حكومي مستعد للتفاوض بقوة للوصول إلى اتفاق لا يؤثر في مسار التعافي الاقتصادي، ويمنح البلد فسحة للنمو والتوسع الاقتصادي. 

لكن لا يمكننا نسيان أن العالم يمر اليوم بظرف استثنائي، وقد لا يوافق صندوق النقد مستقبلًا على ما وافق عليه اليوم في الأرجنتين، بل قد يصر الصندوق على السياسات التقشفية وتقليص القطاع العام (الذي نجح في تقليصه بشكل حاد في كثير من دول العالم أصلًا ودون إمكانية عكس ذلك بدون إجراءات استثنائية وجذرية)، وقد لا تتوافر حكومات معادية، أو محتوية على مكون معادٍ لصندوق النقد وسياساته، بل قد تحكم بعضَ الدول النامية أطراف تؤمن بضرورة التقشف دون إجبار من صندوق النقد أصلًا.

بالوصول إلى هنا سيكون علينا العودة إلى مقالة ستيجلتز التي يتحدث فيها عن الناتج المحلي الإجمالي ومكوناته؛ إذ يمكننا تقسيم السياسات المالية (المتعلقة بالضرائب والإنفاق الحكومي) إلى نوعين: توسعي وانكماشي، وعلى الحكومات اختيار أحدهما تبعًا للظرف الحالي في الاقتصاد. 

ففي حالة الركود والتباطؤ الاقتصادي، تحتاج الحكومة إلى تحفيز الاقتصاد وتنشيطه، وعليها حينها استخدام سياسة مالية توسعية، تقوم على تخفيض الضرائب ورفع الإنفاق، ما يعني تحريك دورة الاقتصاد، وزيادة الطلب الذي يعني رفع الأرباح، وخلق الوظائف بالتالي، ومعها زيادة القوة الشرائية للمواطنين؛ والذين سيزيد استهلاكهم رافعين الطلب بذلك أكثر.

كيف يعمل صندوق النقد؟

وهذا الارتفاع المطرد في الطلب سيؤدي في النهاية إلى وصول الاقتصاد إلى معدلات تضخم مرتفعة وغير مرغوب بها، ما يعني أن الحكومة عليها أن تبدأ بعكس سياساتها، واتخاذ سياسة مالية انكماشية، ترفع فيها الضرائب وتخفض الإنفاق لمواجهة التضخم، ما سيوصلنا نهاية إلى الوضع الأول؛ وهكذا دواليك في الدورة الاقتصادية. 

وهذا ما يسمى في الاقتصاد بـ«السياسة المالية المضادة للدورة الاقتصادية» (Counter Cyclical Fiscal Policy)، بحيث تعمل السياسة المالية بعكس وضع الدولة ضمن الدورة الاقتصادية، فتتخذ سياسة انكماشية عندما يتجه الاقتصاد أكثر وأكثر باتجاه النمو والنشاط المسبب للتضخم، وتتخذ سياسة توسعية عندما يتباطأ الاقتصاد. 

وكما يقول ستيجلتز فإن أي دارس للمواد الأساسية في الاقتصاد الكلي يعلم أن سياسات التقشف الانكماشية لا يمكنها تحقيق النمو وتحفيز الاقتصاد (التوسع)، ولكننا في عالم مقلوب رأسًا على عقب؛ بحيث تجد من يناقش في أن السياسات الانكماشية تستطيع أن تحقق نتائج السياسة التوسعية.

وما زال هناك أمل في أن تساعد الدراسات والتقارير، التي رصدت الأثر السيئ للسياسات الانكماشية، دولًا أخرى إلى جانب الأرجنتين على تحصيل التمويل اللازم، أو جدولة ديونها السابقة، دون الحاجة إلى تطبيق سياسات التقشف، خصوصًا وأن كثيرًا من الدول النامية اضطرت لرفع اقتراضها خلال الجائحة لملاقاة حاجاتها الإنفاقية في مختلف القطاعات، وفي القطاع الصحي خصوصًا، وأن أزمة دين عالمية تلوح في الأفق، ما لم يعمل العالم بشكل حثيث على منعها.

المصادر

تحميل المزيد