السؤال الأبدي الذي يبحث الكل عن إجابته: هل الرجل أكثر ذكاءً من المرأة؟ ظل الناس يبحثون عن الفروق المرتبطة باختلاف الجنس في أدمغة البشر منذ القرن التاسع عشر على الأقل، وذلك منذ أن بدأ العلماء في محاولة قياس حجم الدماغ البشري ومعرفة الفروق بين مخ الرجال ومخ النساء.

لطالما كان هناك جدال، بل وربما نقول سعي نحو إثبات أن الرجال أكثر ذكاءً من النساء على مر التاريخ، ومع التقدم العلمي في القرنين الأخيرين، حاول العلماء تتبع ذلك من خلال الدراسات والأبحاث العلمية، فحاولوا إثبات ذلك من خلال النظر إلى تركيبة الدماغ، وإيجاد فروق تشريحية وفسيولوجية تؤكد هذا الأمر. لكن يبدو أن محاولاتهم كانت بلا طائل.

من حجم الدماغ إلى حجم المناطق الهامة

كان أحد أبرز العلماء الذين قاموا بأبحاث تشريحية حول علاقة حجم الدماغ بمستوى الذكاء هو الطبيب الفرنسي جوستاف لوبون، الذي وجد أن أدمغة الرجال عادةً ما تكون أكبر من أدمغة النساء. هذا الأمر دفع بعض العلماء في القرن التاسع عشر للقول بأن هذا الاختلاف في الحجم يجعل الرجال أكثر ذكاءً، لكن سرعان ما نسفت وجهة النظر هذه عندما أشار أحد العلماء، وفقًا لهذا المعيار، إلى أن الأفيال والحيتان يجب أن تكون أكثر ذكاءً من البشر في هذه الحالة، وهو أمر غير صحيح بالطبع.

لذلك تحول التركيز من ربط حجم الدماغ ككل بمستوى الذكاء إلى الأحجام النسبية لمناطق معينة في الدماغ. اقترح بعض العلماء أن الجزء من المخ فوق العينين، والذي يسمى الفص الجبهي، هو الأكثر أهمية للذكاء، وهو أكبر نسبيًا عند الرجال، بينما الفص الجداري، خلف الفص الجبهي مباشرة، يكون أكبر نسبيًا عند النساء. لكن في وقت لاحق، جادل بعض علماء التشريح العصبي أن الفص الجداري أكثر أهمية للذكاء وأن حجمه عند الرجال أكبر في الواقع.

في القرنين العشرين والحادي والعشرين، بحث العلماء عن خصائص مميزة للإناث أو الذكور داخل تفاصيل الدماغ، لكن لم يصل أحد إلى نتيجة قاطعة. الآن، هناك توجه لعدد من المختصين في علم الأعصاب السلوكي الذين يجدون مثل هذا النوع من الأبحاث مضللًا، لأن أدمغة البشر متنوعة جدًا أكثر مما يمكن تحديده في اختلافات واضحة بين الرجل والمرأة.

الاختلافات التشريحية في دماغ الرجل والمرأة.. غير مجدية

الأبحاث الحديثة عثرت على أكبر اختلاف بين الجنسين وأكثره اتساقًا وذلك في منطقة تسمى «تحت المهاد»، وهي بنية صغيرة مسؤولة عن تنظيم فسيولوجيا وسلوك الإنجاب. يوجد قسم فرعي واحد على الأقل في منطقة «تحت المهاد» هذه، تتميز بأنها أكبر في الذكور مقارنة بالإناث. تقريبًا، هنا فقط يختلف دماغ الرجل تشريحيًا عن المرأة بشكل واضح.

لكن هذا الفرق لم يعكس سوى وجود اختلاف في علم وظائف الأعضاء التناسلية بين الرجل والمرأة، وهو أمر واضح للعيان. هذا لم يكن هدف العديد من الباحثين الذين كانوا يبحثون عن أسباب الاختلافات المفترضة بين الجنسين في طريقة التفكير. لم ييأس العلماء، وحاولوا الوصول إلى أجزاء المخ المسؤولة عن الذكاء وتحدد طريقة التفكير بشكل أكبر، لعلهم يجدون اختلافًا واضحًا يرضي إصرارهم.

من هنا توجه الاهتمام إلى «الجسم الثفني»، وهو شريط سميك من الألياف العصبية يحمل الإشارات العصبية بين نصفي الكرة المخية. داخل الدماغ، لم تحظ أي منطقة باهتمام العلماء فيما يتعلق بأبحاثهم حول الفروق بين العرق والجنس من الجسم الثفني.

وجد بعض الباحثين أن «الجسم الثفني» بأكمله أكبر نسبيًا في النساء في المتوسط، بينما وجد البعض الآخر أن أجزاء معينة فقط منه هي الأكبر. لفت هذا الاختلاف انتباه الباحثين، الذين اقترحوا أن هذه الفروقات تسبب اختلافات معرفية بين الجنسين، وبدأوا في الشعور أنهم توصلوا إلى أمر مهم يثبت توجهاتهم.

لكن الأبحاث التالية نسفت آمالهم سريعًا، إذ وجدوا أن الأدمغة الأصغر من دماغ البشر، لها «جسم ثفني» أكبر نسبيًا بغض النظر عن جنس صاحبها، وكانت الدراسات حول الاختلافات في حجم هذا الجسم غير متسقة، ولم يستطيع الباحثون الخروج بنتيجة مرضية تربط حجمه بمستوى الذكاء. من هنا، فإن محاولة تفسير الفروق المعرفية المفترضة بين الجنسين من خلال الفروق التشريحية للدماغ لم تكن مثمرة.

عادة ما تتداخل سمات الإناث والذكور

حتى عندما تُظهر منطقة ما في الدماغ اختلافًا بين الجنسين في المتوسط، يواجه العلماء معضلة تتعلق بوجود تداخل كبير بين مقاييس الذكور والإناث. بمعنى آخر أنه عندما يجد العلماء اختلافًا ما، ثم تعرض أدمغة معينة عليهم ويطلب منهم تحديد جنس صاحب هذا الدماغ (ذكر أم أنثى) بناء على معرفة هذا الاختلاف، فلا يمكن لهم التنبؤ بجنس الشخص بشكل واضح.

سنضرب مثالًا لتسهيل فهم هذه النقطة، فيمكننا مقارنة هذا الأمر بأطوال البشر. على كوكب الأرض كله، يبلغ متوسط أطوال الذكور 1.7 متر، بينما يبلغ متوسط أطوال النساء 1.6 متر. هذا يعني أن الرجال أطول عمومًا من النساء. هذا فرق استطعنا الوصول له بين النساء والرجال، أليس كذلك؟ لكن إذا أخبرتك الآن أن طولي هو 1.8 متر، فهل يمكنك الجزم بكوني ذكرًا أم أنثى؟ بالطبع لن تستطيع لأن وجود اختلاف في متوسط مقياس ما لا يعني إمكانية تطبيق الأمر على كل حالة فردية. تظهر مناطق الدماغ عادة متوسط اختلافات بين الجنسين أقل بكثير من متوسط الطول هذا، وبالتالي فإن الفروق أقل وضوحًا حتى يمكننا الوصول إلى علاقة ما تربطها بتحديد جنس الذكر والأنثى.

علوم

منذ 3 سنوات
«خلايا زمنية» في الدماغ البشري.. هل وجدنا علاجًا للزهايمر؟

مؤخرًا، قامت عالمة الأعصاب دافنا جويل بفحص بالرنين المغناطيسي لأكثر من 1400 دماغ، وقياس المناطق العشرة في الدماغ البشري التي يظهر فيها أكبر متوسط اختلافات ممكن بين الجنسين. عندما بدأت بعرض هذه الأدمغة وتحديد نوع صاحبها طبقًا لهذه الاختلافات، وجدت أن 3 إلى 6% فقط من الناس استطاعوا تحديدهم «إناثًا» أو «ذكورًا» بشكل ثابت وواضح، بينما البقية لم يمكن القطع في حالتهم بأن صاحب هذا الدماغ رجلًا أم سيدة.

لا فرق في الذكاء بين الرجل والمرأة

الاختلافات في فسيولوجيا الدماغ بين الجنسين لا تتعلق بالضرورة بالاختلافات في الفكر والذكاء. على الرغم من أن أدمغة الرجال أكبر، فإن الرجال والنساء يحققون نتائج متشابهة في معدل الذكاء. بالنسبة للرجال، يرتبط حجم المادة الرمادية في الفص الجبهي والجداري بمعدل الذكاء. لكن بالنسبة للنساء، يرتبط حجم المادة الرمادية في الفص الأمامي ومنطقة بروكا (التي تستخدم في معالجة اللغة) بمعدل الذكاء، هذا يعني أن مستوى الذكاء لا يرتبط بنفس المنطقة في الرجال والنساء أساسًا.

بنفس الطريقة، تتمتع النساء بسماكة وتعقيد ومساحة سطح للقشرة الدماغية أكبر، وهو ما يعوض عن حجم المخ الأصغر بشكل عام مقارنة بالرجال، ووجدت التحليلات والدراسات أن حجم الدماغ يفسر 6-12% من التباين بين الذكاء الفردي، وسمك القشرة يفسر 5% من هذا التباين، وهي نسب لا تفسر بالتالي كل الاختلافات بين الجنسين. من هنا يصعب إيجاد تصور واضح لمقياس يبين الفرق بين الرجال والنساء.

ما السبب وراء هذه الفروقات الطفيفة؟

السؤال هنا: حتى وإن كانت الفروقات طفيفة وغير حاسمة للتمييز بين الذكر والأنثى، لكن ما الذي يسببها بالضبط؟ أظهرت دراسة أجريت عام 1959 لأول مرة أن حقن هرمون التستوستيرون في القوارض الحامل يجعل ذريتها الإناث تظهر السلوك الجنسي الذكوري.

من هنا، استنتج الباحثون أن هرمون التستوستيرون السابق للولادة (الذي تفرزه خصيتي الجنين عادة) ينظم الدماغ بشكل دائم. أظهرت العديد من الدراسات اللاحقة أن هذا صحيح بشكل أساسي، وبالطبع لا يمكن للباحثين أن يتلاعبوا في مستويات هرمون التستوستيرون في مرحلة ما قبل الولادة في البشر لاعتبارات أخلاقية، لذا فهم يعتمدون على «تجارب عرضية» وقعت حيث كانت مستويات الهرمون قبل الولادة أو الاستجابات لها غير عادية، كما هو الحال مع الأشخاص ثنائيي الجنس. لكن التأثيرات الهرمونية والبيئية كانت متشابكة في هذه الدراسات، وكانت نتائج الاختلافات بين الجنسين في الدماغ غير متسقة، مما ترك العلماء دون استنتاجات واضحة تتعلق بالبشر. هذا يعني أنه حتى السبب لتفسير الاختلافات غير واضح وضبابي جدًا للعلماء، وهو ما يصعب إيجاد نتائج مقنعة.

وفي حين أن هرمونات ما قبل الولادة ربما تسبب معظم الاختلافات في الدماغ بين الجنسين، إلا أن هناك بعض الحالات يكون السبب فيها وراثيًا وليس هرمونيًا بشكل مباشر. شوهد هذا بشكل كبير من قبل حمار وحشي به شذوذ غريب، فقد كان هذا الحمار ذكرًا في جانب دماغه الأيمن وأنثى في الجانب الأيسر للدماغ.

عندما درس العلماء هذه الحالة الغريبة لهذا الحمار، وجدوا إن بنية الدماغ المرتبطة بالصفات الذكورية زادت قوتها فقط في الجانب الأيمن. هنا استبعد العلماء أن يكون هذا التغير ناجم عن الهرمونات، لأن كامل الجسم والمخ يتعرضان لنفس كمية الهرمونات. وبالتالي، فإن عدم تناسق دماغه لم يكن بسبب الهرمونات، ولكن بسبب الجينات التي تسببت في هذا التغير في بنية الدماغ. منذ ذلك الحين، عثر العلماء على أدلة أخرى تثبت أن حدوث اختلافات في بنية الدماغ يمكن أن يحدث نتيجة اختلافات جينية أيضًا.

التعلم يغير شكل مخك أكثر من الجنس

ذكرنا أن الاختلافات الحادثة في بنية الدماغ بين الذكر والأنثى يمكن أن تحدث نتيجة تأثير الهرمونات أو الجينات المختلفة بين الذكر والأنثى. هذا جعل الناس يفترضون أن الاختلافات بين الجنسين في الدماغ هي اختلافات فطرية ولدوا بها، لكن هذه ليست الصورة كاملة.

نحن نعلم أن البشر يتعلمون بسرعة في مرحلة الطفولة ويواصلون التعلم ببطء أكثر بعد مرحلة البلوغ. نتيجة عملية التعلم هذه تتغير الروابط بين الخلايا العصبية التي تسمى التشابكات العصبية في الدماغ. هذه التغييرات عديدة ومتكررة ولكنها متناهية الصغر على المستوى المجهري.

تظهر الدراسات أن التعلم يمكن أن يغير أدمغة البالغين بشكل كبير بالفعل. على سبيل المثال، يتعين على سائقي سيارات الأجرة حفظ الطرق المعقدة والطرق والمعالم في مدينتهم. اكتشف الباحثون أن هذا التعلم قد غير منطقة الحصين عند هؤلاء السائقين. منطقة الحصين هي منطقة دماغية مهمة ترتبط بالملاحة. ووجد العلماء أن الحصين عند سائقي سيارات الأجرة يكون أكبر من غير السائقين ببضعة مليمترات.

لذلك ليس من الواقعي افتراض أن أي اختلافات بين الجنسين في الدماغ هي اختلافات فطرية. بل قد تنتج أيضًا عن عملية التعلم. يعيش الناس في ثقافة مبنية على الاختلاف الجنسي بشكل أساسي، إذ تختلف الأبوة والتعليم والتوقعات والفرص بناءً على الجنس، من الولادة وحتى سن الرشد، مما يغير من بنية الدماغ حتمًا.

في نهاية المطاف، من المرجح أن تكون أي اختلافات بين الجنسين في بنية الدماغ ناتجة عن مجموعة معقدة ومتفاعلة من الجينات والهرمونات والتعلم. لذلك باختصار لا يمكننا أن نقول إن الرجال أكثر ذكاءً من النساء كما هو شائع، بل الأمر نسبي ويتغير بشكل فردي من شخص إلى شخص.

المصادر

تحميل المزيد