لم تنته الصحف والإذاعات وصناع القرار داخل إسرائيل من قراءة خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي وصفته بالتحريضي والهجومي، حتى جاءت موجة أخرى من الارتباك والذعر عقب تصاعد عمليات “الطعن” الفلسطيني ضد المستوطنين في مدن الضفة المحتلة.
خلال الأيام الثلاثة الأخيرة شهدت معظم مدن الضفة تصعيدًا إسرائيليًّا، لاسيما اقتحامات الأقصى المتكررة، والاعتداء على المرابطين داخله، حيث أتبعته عمليات “طعن بالسكين” من قبل شباب فلسطينيين، لا تتجاوز أعمارهم العشرين.
تصاعدت حينها لهجة صناع القرار بضرورة ردع الفلسطينيين، ومطالبة رئيس الحكومة الإسرائيلية “بنيامين نتنياهو” اتخاذ قرارات صارمة للتعامل معهم، وتحميل “عباس” مسؤولية ما يجري.
أولًا: ماذا يجري في الضفة المحتلة؟
ما إن أعلنت إسرائيل الشهر الماضي عن تنفيذها خطة التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك، والقبضة الأمنية داخل باحاته تتوسع يومًا بعد يوم، بالإضافة إلى تواجد المرابطين فيه، للتصدي لأي اعتداء قادم.
حينها جرت العديد من الاعتداءات الإسرائيلية على النساء المرابطات تحديدًا بالضرب، وإلقاء قنابل الصوت داخل المسجد، وتكسير بعض من نوافذه، وحرق سجاده، فضلا عن شن حملة واسعة من الاعتقالات في صفوف الفلسطينيين.
ربما أبرز الجرائم الإسرائيلية، والتي مهدت الطريق أمام الشبان الفلسطينيين للثأر، هي حرق عائلة “الدوابشة” المكونة من ثلاثة أفراد من قبل قطعان المستوطنين، وقتل الشاب “ضياء التلاحمة” بعد إلقاء عبوة عليه، إلى جانب رمي الشابة هديل الهشلمون بعشر طلقات لرفضها خلع النقاب عند أحد الحواجز العسكرية الإسرائيلية.
أولى ردود الفعل الميداني الفلسطيني كانت خلال عملية فدائية وصفتها إسرائيل بـ “الخطيرة” حيث أطلق فلسطينيون النار على مركبة إسرائيلية قرب مستوطنة “ايتمار” المقامة على أراضي نابلس، وهو ما أدى لمصرع مستوطن وزوجته، وإصابة أبنائهما بجروح طفيفة نتيجة تهشم زجاج المركبة.
ولفتت الصحف العبرية إلى أن منفذ الهجوم توجه للمركبة وتأكد من مقتل الشخصين وترك الأبناء وانسحب مع رفاقه، ونتج عن ذلك مقتل “إيتام هنكين” وهو ضابط احتياط في وحدة هيئة الأركان وضابط استخبارات، أما القتيلة فتدعى نعماه وهي ابنة لضابط في الوحدة ذاتها، كان قد شارك في عملية التحرير الفاشلة للجندي المختطف نحشون فاكسمان عام 1994.
فتحت هذه العملية المجال واسعًا للتصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، فبدأت حتى اللحظة عمليات التفتيش والاعتقال، وإضرام النار في الحقول، وإغلاق الطرق، فضلا عن منع لمواطنين من الوصول الى بيوتهم، واعتبار معظم مناطق الضفة مغلقة عسكرية.
شددت إسرائيل من قبضتها الأمنية خاصة في مدينة القدس المعروفة بالانتشار المكثف لدوريات جنود الاحتلال، إلا أن الشاب مهند الحلبي (19عامًا) وهو من مدينة البيرة برام الله، نجح في عملية طعن أدت إلى مقتل مستوطنيْن وإصابة اثنين آخرين، فيما أطلقت قوات الاحتلال النار عليه، مما أدى الى استشهاده على الفور يوم السبت الماضي.
بينما فجر يوم أمس نفّذ الشاب فادي علون من قرية العيساوية عملية طعن ثانية، قرب باب العامود في مدينة القدس أدت إلى إصابة مستوطن، ومن ثم أطلق الاحتلال النار عليه واستشهد على إثرها.
ثانيًا: كيف تتابع الصحف الإسرائيلية ما يجري؟
https://youtu.be/PjItkWn6vqg
يجمع العديد من كتاب الرأي والمحللين الإسرائيليين أن التصعيد الأمني في القدس المحتلة ينذر بأن الانتفاضة الثالثة قد بدأت وأنها قد تمتد إلى الضفة الغربية وربما إلى داخل الخط الأخضر على شكل عمليات تفجيرية.
فضلا عن أن “بنيامين نتنياهو”، يتحمل مسؤولية هذا الوضع لأنه تسبب بجمود سياسي وكثف الاستيطان وممارسات أخرى في الأراضي المحتلة، وبالتالي فإن تسميتها بـ” الانتفاضة الثالثة” مهم جدًا، لأنعدم تسميتها باسمها سيسمح للمؤسستين السياسية والعسكرية بالتهرب من المسؤولية.
واستشهد الكتاب على ما يجري الآن بالانتفاضة الأولى، التي بدأت في كانون الأول 1987 وانتهت في سنوات التسعين الأولى، وهي تدور حاليا وراء الخط الأخضر، في شرقي القدس والضفة، لذلك لن يكون بعيدًا اليوم الذي تنتقل فيه إلى “مدن إسرائيل” الأخرى وتتحول من طعن بالسكاكين، وحجارة وزجاجات حارقة إلى ما تسميه “انتحاريين” في إشارة إلى تفجير حافلات.
ويعتقد المراقبون والخبراء ومراكز الأبحاث أنّ المؤسسة الأمنيّة والمستوى السياسيّ في “تل أبيب” يُمكنهما أنْ يطلقا على الأحداث الأخيرة أيّ اسم يُريدانه، ولكنّ الاسم الحقيقيّ لما جرى، ويجري، وسيجري في الفترة القريبة، هو الانتفاضة الثالثة.
تحذيرات عديدة أطلقها خبراء عسكريون داخل إسرائيل من مواصلة تردّي الأوضاع الأمنيّة وانعدام الثقة بالمؤسسة الحاكمة، من المستويين الأمنيّ والسياسيّ، لا سيما وأن عملية السبت الماضي تؤكّد لكلّ مَنْ في رأسه عينان على أنّ سياسة حكومة “نتنياهو” في حفظ الأمن والاستقرار هي سياسة فاشلة، ولا تحمل في طيّاتها أيّ أملٍ يُذكر.
وعلى الرغم من أنّ الإعلام العبريّ شنّ حملةً هستيريّةً ضدّ رئيس السلطة، محمود عبّاس، إلّا أنّه كان بارزًا للعيان وجود خلاف جوهريّ حول مكانة رئيس السلطة بين المؤسستين السياسية والأمنيّة، إلا أنه لا يُمكن لإسرائيل أن تجد اليوم لدى الفلسطينيين شريكًا أفضل من محمود عبّاس، وأنّ التنسيق الأمنيّ بينهما وصل في الأيّام الأخيرة إلى ذروته.
لذلك فإن المسّ بالأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة سيُلقي بظلاله السلبيّة جدًا على الأمن القوميّ الإسرائيليّ، وأنّ الحفظ على ما أسمته الصحافة الإسرائيلية “فتيان دايتون”، هي مهمّة إستراتيجية إسرائيليّة على الرغم ممّا يجري في هذه الأيّام من تصعيدٍ خطيرٍ في العمليات الفدائيّة وفي التحريض ضدّ الإسرائيليين.
طرف آخر يرى أن ما يجري يشبه كثيرًا الأجواء التي سبقت الانتفاضة الثانية، إلا أن العنف وعدد الضالعين فيه لم يصل بعد إلى ما كان عليه قبل 15 عامًا، ومع ذلك فإن ارتفاع عدد الحوادث يشكل إنذارًا.
وعزا التصعيد الأخير إلى المواجهات في المسجد الأقصى بين المصلين والشرطة والجيش، وإلى الموقف المتشدد والمشاكس للسلطة الفلسطينية تجاه إسرائيل على خلفية الجمود في العملية السياسية، وشعور الفلسطينيين في الضفة بأن الجهود الديبلوماسية لتحريك العملية لا تثمر شيئًا وأن المجتمع الدولي يبدو كمن يهمل هذا الملف.
كل ذلك أعطى مؤشرًا بأن الأحداث التي جرت في الشهور الأخيرة من شأنها أن تدل على أن أجهزة اللجم والكبح التي مارستها إسرائيل والسلطة الفلسطينية في السنوات العشر الأخيرة باعتبار أن الانتفاضة الثانية انتهت بالعام 2005 بدأت تضعف.
ثالثا: ماذا يقول صناع القرار الإسرائيلي عن الأحداث الأخيرة؟
ربما أكثر ما استفز صناع القرار الإسرائيلي، لا سيما المعارضين لسياسات “نتنياهو” هو عدم قطع الأخير لزيارته بسرعة إلى نيويورك وخطابه في الجمعية العامة، وعقد اجتماع طارئ يبحث آخر التطورات فور بدء عمليات الطعن يوم الخميس الماضي.
معظم القادة الإسرائيليين حملوا الرئيس “عباس” المسؤولية عن عملية قتل المستوطنيْن، مستنكرين عدم تنديده بالعملية، واعتبار ما يجري نتيجة مباشرة للتحريض على العنف الفلسطيني الذي يؤدي إلى القتل.
زعيم حزب المستوطنين «البيت اليهودي»، ووزير التعليم “نفتالي بينيت” رأى أن زمن المحادثات مع الفلسطينيين ولّى، وحان الوقت للتحرك، فيما وافقه الرأي زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» “أفيغدور ليبرمان”، والذي دعا إلى الرد بقوة وصرامة على ما أسماه” القتلة ومسؤوليهم، ومحرضيهم، وعلى رأسهم أبو مازن، لنثبت للجميع أن دولة إسرائيل لا ترضى بأن يكون دم أبنائها مباحًا”.
أبرز المتنفذين في السياسة الداخلية لإسرائيل يرون أنه إذا كان الفلسطينيون يريدون انتفاضة ثالثة فسيحصلون على عملية “الدرع الواقي 2″، على غرار التي جرت في مارس 2002م، حينما شنت إسرائيل عملية عسكرية هي الأولى منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية عام 1967م في الضفة المحتلة.
يتعرض نتنياهو لهجمة شديدة في أعقاب ما يصفه حزب “البيت اليهودي” العضو في حكومته “ردًّا ضعيفًا على الإرهاب”. وينوي اليمين إقامة مسيرات احتجاجية ويدعو بعض الحاخامات المصلّين إلى الذهاب للصلاة في المدينة القديمة تحديدًا بسبب التوتر.
سلسلة من الخطوات يرى قادة إسرائيل وجوب الحكومة تنفيذها لإيقاف عمليات الطعن الفلسطينية، منها إخراج الشقّ الشمالي من الحركة الإسلامية في إسرائيل خارج القانون، إيقاف تحويل الأموال للسلطة الفلسطينية وسلب بطاقة VIP من مسؤوليها، وهدم منازل منفّذي هذه العمليات وغير ذلك.
لكن في المقابل، هناك من اقترح على نتنياهو، تحديدًا، أن يحاول تهدئة الأجواء قدر الإمكان وعدم اتخاذ خطوات متطرفة، وإجراء لقاء عاجل بين “نتنياهو وعباس” بوساطة أمريكية، بيد أن احتمال حدوث ذلك صغير جدًّا، على ضوء الهجمات المتبادلة الشديدة بينهما مؤخرًا.