«الجدار الذكي» يحمي إسرائيل من غزة، لعل هذا هو العنوان الأبرز في الدوائر الأمنية والعسكرية هذه الأيام؛ إذ تأمل إسرائيل من خلاله إلى القضاء على «بعبع» الأنفاق الفلسطينية التي شكلت رعبًا للجيش الإسرائيلي ومستوطني غلاف غزة على مر سنوات، فهل تنجح في ذلك؟
«احذر.. يَخْطفكَ النفقُ».. أنفاق حماس كابوس إسرائيل
في الثامن والعشرين من يوليو (تموز) 2014، وفيما كانت إسرائيل تشن عدوانها على غزة المعروف باسم «الجرف الصامد»، فاجأت «كتائب القسام» (الجناح العسكري لحركة حماس) المتابعين بهجوم عسكري نوعي شنه 10 من مقاتلي النخبة لديها؛ إذ نجحوا في التسلل عبر أحد الأنفاق خلف خطوط الجيش الإسرائيلي، وهاجموا برجًا عسكريًا إسرائيليًا محصنًا، تابعًا لكتيبة «ناحال عوز» شرقي حي الشجاعية.
أسفر الهجوم عن مقتل 10 جنود إسرائيليين، وكاد يفضي إلى أسر جندي إسرائيلي، لكن تأثيره الأكبر كان سياسيًا وإعلاميًا؛ فقد لفت نظر الجمهور العربي والإسرائيلي إلى الخطورة الإستراتيجية التي بات يمثلها سلاح الأنفاق الذي استثمرت فيه فصائل المقاومة الفلسطينية الكثير من الوقت والجهد والخبرات، وباتت الأنفاق الفلسطينية منذ ذلك الوقت رقمًا مهمًا في أية موجهة تخوضها إسرائيل على جبهتها الجنوبية.
وبدأ الفلسطينيون في استخدام الأنفاق لأغراض عسكرية منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000؛ إذ اعتبرت طريقة فعالة لتهريب السلاح لفصائل المقاومة، وازدهرت ظاهرة الأنفاق في القطاع بعد سيطرة «حماس» على غزة عام 2007 وتعرُّض غزة لحصار خانق من كل الجهات.
وبمرور السنوات راكمت الفصائل الفلسطينية خبرة في حفر الأنفاق واستخدامها لأغراض مختلفة، بدءًا من تهريب السلاح أو السلع الإستراتيجية الضرورية للقطاع، أو استخدامها في العمل العسكري المباشر ضد إسرائيل، إما بتفجير المواقع العسكرية بوضع المتفجرات أسفلها، أو استخدام الأنفاق لتسهيل وصول المقاتلين للموقع العسكري المستهدف.
وتتنوع الأنفاق ما بين الأنفاق القتالية (وصممت لمباغتة الوحدات الإسرائيلية البرية داخل أراضي غزة أو في العمق الإسرائيلي)، وأنفاق مصممة لإطلاق الصواريخ وقذائف المدفعية (وهي حفر في الأرض مجهزة بمدافع هاون أو راجمات صواريخ مغطاة من الأعلى بباب فولاذي قابل للسحب أو الرفع لمنع الطائرات من كشف الموقع)،
ومنها أنفاق الإمداد المسؤولة عن نقل الذخائر والصواريخ والمؤن إلى المقاتلين في مواقعهم، وأَنْفاق الضبط والسيطرة وهي مجهزة بوسائل المعيشة والاتصال والتواصل، وتحوي مراكز قيادة وسيطرة لإدارة العمليات العسكرية.
وتطورت شبكة الأنفاق في غزة عبر العقدين الماضيين لتصبح أحد أعمدة العمل العسكري للفصائل الفلسطينية، حتى صار الحديث يدور عن مدينة كاملة تحت الأرض؛ ما دفع وسائل الإعلام العالمية إلى تسميتها بـ«مترو حماس».
إسرائيل تحبس غزة في قفص حديدي
مثلت الأنفاق الفلسطينية طوال السنوات السابقة مصدر إزعاج للقوات الإسرائيلية على حدود غزة؛ فعبر تركز أغلب عمليات الفصائل الفلسطينية تحت الأرض، يجري تحييد فعالية سلاح الجو الإسرائيلي في المواجهات إلى حد كبير؛ ما يساهم في الحفاظ على أرواح المقاتلين وعتادهم، كما يفتقر الجيش الإسرائيلي – عمليًا – إلى الأساليب القتالية لمواجهة أسلوب حرب الأنفاق.
كما لعبت الأنفاق دورًا كبيرًا في كل العمليات التي جرى فيها أسر جنود إسرائيليين؛ ما كان سببًا في إحراج بالغ للقيادات العسكرية الإسرائيلية، كما برزت التباينات بين المستويين السياسي والعسكري بسبب الفشل في التعامل مع المشكلة، خاصة أن الأنفاق هددت الشعور بالأمن الجماعي في المجتمع الإسرائيلي، وبالتحديد لدى المستوطنين القاطنين في أراضي غلاف غزة.
لأجل ذلك كثفت الآلة العسكرية الإسرائيلية من جهودها لإيجاد حلول جديدة للحد من تهديد الأنفاق، ليخرج إلى النور في ديسمبر (كانون الأول) 2021 ما أطلق عليه المسؤولون الإسرائيليون اسم «الجدار الذكي» أو «الجدار الحديدي»، والذي قررت الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو الشروع في إنشائه منتصف عام 2016، وبدأ العمل فيه في العام التالي ليستمر حوالي ثلاث سنوات ونصف.
وبحسب المعلومات المتوافرة، يمتد «الجدار الذكي» بطول 65 كيلومترًا مطوقًا القطاع تمامًا، ويصل إلى البحر، ويمتد الجدار تحت الأرض بعمق نحو 30 مترًا، بـ 1.2 مليون متر مكعب من الخرسانة المسلحة في الجزء السفلي من «الجدار الذكي»، و140 ألف طن من الحديد، أما فوق الأرض فيمتد الجدار نحو ستة أمتار من الفولاذ، تعلوها أسلاك تحتوى على ماس كهربي، وبحسب وزارة الدفاع الإسرائيلية فإن كمية الخرسانة المستخدمة في الجدار تكفي لشق طريق من إسرائيل إلى بلغاريا.
بلغت تكلفة إنشاء الجدار الذكي نحو 1.2 مليار دولار، بمشاركة أكثر من 1200 عامل، وجرى إنشاء ستة مصانع للخرسانة على امتداد الشريط الحدودي مع القطاع، ولا يدور الحديث هنا عن مجرد حائط مصمت؛ إذ تسعى إسرائيل إلى جعله جدارًا ذكيًا عبر تدعيمه بالكثير من الآليات التكنولوجية.
فالجزء السفلي من الجدار الذكي «تحت الأرض» جرى تدعيمه بالعديد من أجهزة الاستشعار وكاميرات المراقبة لاكتشاف أي محاولات تسلل أو حفر أنفاق، والجزء العلوي من الجدار مزود بالعشرات من أبراج المراقبة والكاميرات، وأجهزة الرصد والإنذار ومرابض للقناصة، كما تخطط إسرائيل لتدعيم منظومة حماية حدودها مع غزة بطائرات مسيرة ومناطيد ذكية وروبوتات مقاتلة يجري توجيهها عن بعد من دون انخراط عنصر بشري في العمليات بشكل مباشر.
هل تقف الفصائل الفلسطينية مكتوفة الأيدي أمام الجدار الذكي؟
في تصريح له تعليقًا على إتمام بناء الجدار، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس بالقول: «الجدار الذكي، وهو مشروع تكنولوجي من الدرجة الأولى، يحرم حماس من القدرات التي حاولت تطويرها ويضع جدارًا من الحديد، وأجهزة الاستشعار، والخرسانة بينها وبين سكان الجنوب».
ويلاحظ بشكل كبير احتفاء الدوائر الأمنية والسياسية في إسرائيل بـ«الجدار الذكي»، واعتباره تدشينًا لمرحلة جديدة يجري فيها تحييد دور الأنفاق الهجومية لحماس، والتي كانت تشكل هاجسًا للرأي العام وصانع القرار الإسرائيلي طيلة سنوات.
وبالرغم من التقديرات العديدة بأن «الجدار الذكي» يحجم خيارات حماس العسكرية الهجومية على إسرائيل، فإن تصريحات الفصائل الفلسطينية الرسمية والشعبية، تؤكد أنها ستجد الوسائل المناسبة لتجاوز تلك العقبة، وتستدعي لذلك مثال «القبة الحديدية» التي كانت إسرائيل تأمل في أن تتمكن من تحييد خطر الصواريخ الفلسطينية، ولكن الفصائل أوجدت وسائل فعالة لتجاوزها في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في مايو (أيار) الماضي.
لكن، وإلى أن تختبر الأحداث صدق الرواية الإسرائيلية حول صلابة الجدار الذكي، فإن التحليلات تذهب إلى أن الجدار سيتمكن من تقليص عمليات التسلل عبر الحدود فوق الأرض، وسيحرم الفصائل من ميزة الأنفاق الهجومية التي بإمكانها أن تخترق الأراضي الإسرائيلية.
لكنه في المقابل لن يكون ذا قيمة كبيرة فيما يتعلق بالأنفاق الدفاعية؛ إذ سيظل بإمكان الفلسطينيين مفاجأة القوات المتقدمة عبر الأنفاق في أي هجوم بري؛ إذ يجري الاعتماد على أنفاق الإمداد والتموين وغيرها من الأنفاق التي تبطن أرض غزة، وتستخدمها الحركات الفلسطينية لأغراض مختلفة.
كما قد يدفع الجدار فصائل المقاومة إلى التركيز على بدائل إبداعية أخرى، مثل الاعتماد على الطائرات بدون طيار التي بدأ استخدامها في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي منذ عام 2014، وأعلنت حماس استخدامها لأغراض قتالية في حرب عام 2021، وكذلك التركيز على سلاح الصواريخ الذي أثبت نجاعته ضد الدفاعات الإسرائيلية، وربما صرف المزيد من الجهد إلى تطوير قوات بحرية قادرة على تهديد بحرية إسرائيل أو الالتفاف عليها وصولًا إلى سواحل المستوطنات.