بعد عناء يوم طويل قد يرغب المرء بالجلوس مسترخيًا في منزله أمام شاشة التلفاز مع أولاده، لكن ذلك ليس آمنًا بعد الآن؛ فربما لست وحدك، وكل ما تفعله أو تقوله يُسجل بالصوت والصورة دون علمك. فهناك رجال خدموا في وحدات الاستخبارات السرية في الجيش والشرطة الإسرائيلية أصبحوا الآن يقدمون خدمات أمنية للعملاء المدنيين في جميع أنحاء العالم عبر شركات تعرض خدماتها في كل المجالات، بدءًا من برامج التجسس، ومرورًا بالصحة وشركات الأغذية والأطعمة، إلى الري بالتنقيط، وحتى المنتجات المنزلية والمنظفات، وكل ذلك مُتاح لمن يدفع.

سياسة

منذ 4 سنوات
إسرائيل تعلم الخليج كيف يتجسس على مواطنيه.. من هنا بدأت حمى التطبيع

يمكن القول إن إسرائيل ليست كأية دولة، فمنذ احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية، وكل ما يهمها هو أمنها القومي، وبالتالي فقد سخَّرت كل ما تملك من موارد للدفاع عن كيانها ووضعه في الصدارة. على رأس تلك الموارد، كان العنصر البشري الذي يلعب الدور الرئيس في كل ما تحققه «أمة الشركات الناشئة» كما تُطلق على نفسها. وباتت أصابع أجهزتها الأمنية تعبث شرقًا وغربًا من خلال شركاتها العملاقة، على أن القاسم المشترك في جميع تلك الشركات أن من يديرونها – بشكل معلن أو خفي – هم ضباط إسرائيليون سابقون خدموا – ولا يزالون – في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. 

برنامج «بروميس».. شرارة البداية

في العقود الأخيرة اتجهت إسرائيل إلى التوظيف الأمثل لبعض من أكثر مواردها البشرية خبرة وإخلاصًا لدولتها: ضباطها الذين خدموا في الأجهزة الأمنية المختلفة. نَقَل هؤلاء الضباط معرفتهم وخبراتهم إلى المجال التجاري والمدني، ليس فقط داخل إسرائيل، ولكن في مختلف أنحاء العالم، إنه سر مظلم تكمن وراء ضجة ما أسموه «أمة الأسواق الناشئة».

تجسس

أول من أطلق هذه الشرارة هو رئيس الموساد الأسبق رافي إيتان، الذي طوَّر مع فريق بحثي إسرائيلي برنامج «بروميس» الذي استطاع من خلاله التجسس على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وعلى غيره من الشخصيات البارزة حول العالم، ثم قاموا بتسويقه لعدد كبير من الدول وربحوا من ورائه الكثير من الأموال.

وتطورت الفكرة مع مرور الوقت حتى ظهرت العديد من الشركات الإسرائيلية التي تقدم خبراتها الأمنية في ثوب خدمات مدنية تبيع منتجاتها للكثير من الدول وحتى الأفراد. 

مئات العملاء قد يكونون داخل بيتك

قبل أكثر من عام تقريبًا، وتحديدًا في شهر يوليو (تموز) عام 2018، ظهر الحديث عن شركة «توكا (Toka)»، ويُعد رئيس الوزراء السابق، إيهود باراك، الذي شارك في تأسيسها، واحدًا من مئات الجنرالات ومسؤولي المخابرات الإسرائيليين السابقين الذين خاضوا غمار الاستثمار في هكذا شركات في عالم الأمن العسكري. أما رئيس الشركة الحالي فهو رئيس هيئة الفضاء السيبراني التابعة لرئاسة الأركان الإسرائيلية السابق، العميد يارون روزين.

وتطور شركة «توكا» برامج تتيح للعملاء التحكم في الأجهزة المنزلية المختلفة المعروفة باسم «إنترنت الأشياء» (Internet of Things)، حيث ستكون أي أجهزة إلكترونية متصلة بالإنترنت عرضة للخطر. 

عالم إنترنت الأشياء هو عالم كبير وضخم وقد يغطي في وقت ما جميع مجالات الحياة، وقد ظهرت بوادره في الوقت الحالي، إذ إن الكثير من الأشياء التى تُستخدم على نطاق واسع أصبح بالإمكان توصيلها بالإنترنت، مثل شاشات التليفزيون المنزلية والساعات والنظارات والسيارات والكاميرات، كما امتدت تلك التقنية إلى الملابس والأثاث والأوانى المنزلية، وأي شيء يمكن توصيله بالإنترنت يعتبر من عالم إنترنت الأشياء، كل هذه المستلزمات قد تتيح لمن يشتري منتجات تلك الشركة التجسس على صاحبها حتى وإن كان في غرفة نومه.

خدمات تشويه السمعة متاحة أيضًا

أسس دان زوريلا (33 عامًا)، عضو سابق في وحدة استخبارات النخبة التابعة للجيش الإسرائيلي، شركة «بلاك كيوب» (Black Cube) في عام 2010، وهو المدير التنفيذي الحالي للشركة، بالتعاون مع مديرها المالي آفي يانوس (33 عامًا)، الذي عمل في الجيش الإسرائيلي مسؤول تخطيط إستراتيجي، وتمتلك الشركة مكاتب في تل أبيب ولندن وباريس وغيرها من المدن.

وتقدم شخصيات بارزة خبراتها للشركة سواء بشكل معلن أو من وراء حجب، من محامين رفيعي المستوى ووكلاء مخابرات كبار (متقاعدين). ومن بين مديري الشركة، تبرز بعض الأسماء المهمة، بما في ذلك البروفيسور آشر تيشلر، العميد السابق لكلية الإدارة في جامعة تل أبيب، والعميد ماتي ليشيم، لكن الشخصية الأبرز كانت مائير داغان، رئيس الموساد السابق، الذي شغل منصب رئيس «بلاك كيوب» حتى وفاته عام 2016.

ووفقًا لتعريف رسمي لعمليات الشركة، تقدم «بلاك كيوب» خدمات دعم التقاضي. فهي تجمع المعلومات والأدلة وتوفر المشورة الإستراتيجية للنزاعات القانونية، كما أنها تستطيع توفير معلومات استخبارية لتحديد الأصول واكتشاف مؤشرات الفساد أو تضارب المصالح.

وقد ارتبطت الشركة بفضيحة هارفي وينشتاين الجنسية التي اتهم فيها المنتج والمخرج السينمائي الأمريكي بالاغتصاب والاعتداء الجنسي للعشرات من العاملات معه في صناعة السينما وحاول وينشتاين من خلالها اختراق حسابات ضحاياه لكشف أسرارهن وتشويه سمعتهن لتعزيز دفاعه القانوني في المحكمة وفي المجال العام.

كذلك قامت بعمليات مماثلة في رومانيا، وتم القبض فيها على اثنين من عملاء الشركة في عام 2016 لمحاولتهما اختراق حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بأحد أبرز الشخصيات في البلاد، كما اشتركت «بلاك كيوب» مع شركة «كامبريدج أنالتيكا» في تشويه المرشح الرئاسي النيجيري محمدو بوخاري خلال حملة انتخابات 2015 في نيجيريا، كما قدمت خدماتها في العديد من الاماكن الأخرى كالمجر والولايات المتحدة وبريطانيا. 

«كانديرو».. شركة إسرائيلية لبيع أنظمة الهجمات الإلكترونية

كشف تحقيق لصحيفة «ذي ماركر» الاقتصادية التي تصدر عن مؤسسة «هآرتس» الإسرائيلية أن شركة «كانديرو» هي شركة سرية في تل أبيب تتخصص في بيع أنظمة وأدوات الهجمات الإلكترونية خارج إسرائيل، وقد اشتق اسم الشركة من اسم «سمكة الكانديرا» التي تعيش في حوض نهر الأمازون، وتتسلل إلى جسم الإنسان وتتسبب في مقتله. ويعمل بالشركة أكثر من 120 موظفًا محظور عليهم جميعًا وضع سيرتهم الذاتية على مواقع التوظيف مثل «لينكد إن» وغيرها كما يقومون بالتوقيع على اتفاقات مشددة بعدم إفشاء المعلومات، ويُعد مؤسس «كانديرا» إسحاق زاك، وهو أيضًا مؤسس مشارك في شركة «إن إس أو»، أشهر المستثمرين الإسرائيليين في الشركات الناشئة.

وكما هو الحال مع غيرها من شركات التقنية الإسرائيلية، تقوم «كانديرو» بتوظيف الضباط السابقين في وحدة الاستخبارات الإسرائيلية المعروفة باسم «الوحدة 8200» المتخصصة في الأمن الإلكتروني، وكما يقول أحد المستثمرين الإسرائيليين في مجال الأمن الإلكتروني: «إنهم يوظفون أفضل المحترفين في الاختراق والهجوم الإلكتروني في الوحدة الاستخباراتية 8200 الإسرائيلية». 

هدية «إن إس أو جروب» للحكام المستبدين

تبرز في هذا المجال أيضًا شركة «إن إس أو جروب (NSO Group)» والتي تعد من أبرز الشركات الإسرائيلية التي يستخدمها الحكام المستبدون حول العالم لقمع معارضيهم والنيل من خصومهم في الداخل والخارج.

ويُعدّ الجنرال المتقاعد أفيجدور بن جال، الرئيس السابق لمجلس إدارة المجموعة فضلًا عن كونهِ الرئيس السابق أيضًا لشركة صناعات الفضاء الإسرائيلية في تسعينات القرن العشرين، ويعتبر كل من عمري لافي وشاليف حوليو هما مؤسسي الشركة، ويُعتقد أن كليهما أيضًا من الأعضاء السابقين في الوحدة 8200 الشهيرة في إسرائيل، وكذلك العديد من العاملين السابقين بالأجهزة الأمنية.

وتقوم شركة «إن أس أو» بالتدخل في الشؤون السياسية للدول الأجنبية بطريقة مختلفة، حيث تستأجر الشركة متخصصين موهوبين في مجال الاستخبارات الإلكترونية من الوحدة 8200؛ وأحد مؤسسي الشركة الثلاثة هو من ضباط الوحدة 8200، ويتم توظيفهم لأنهم يجلبون معهم الأساليب والأكواد التي تستخدمها الوحدة الإسرائيلية لاختراق الهواتف.

يمكن تنزيل إحدى أدوات القرصنة التي طورتها شركة «إن أس أو» وهو برنامج  «بيجاسوس (Pegasus)»، على هاتف الهدف بعد نقره على الرابط الذي يتم إرساله إلى الجهاز، وبمجرد تنزيل الأداة، يتحكم «بيجاسوس» بشكل أساسي في الجهاز؛ مما يسمح للمهاجم باعتراض البريد الإلكتروني وتنزيل المستندات والاستماع إلى أي محادثات قد تكون لدى المستخدم، وكذلك اعتراض تسجيلات الفيديو، كما يتيح البرنامج للمهاجم من خلال الـ«جي بي إس» معرفة مكان الهدف في جميع الأوقات.

وقد اكتشف معمل «سيتزن لاب» لأول مرة تقنية البرنامج بعد أن اتصل به أحد نشطاء حقوق الإنسان في الإمارات العربية المتحدة، أحمد منصور، الذي اشتبه في التجسس على هاتفه؛ وكان ذلك بداية اكتشاف معمل «سيتزن لاب» لبرنامج التجسس التابع لشركة «إن إس أو».

شركات إسرائيلية غزت العالم

هناك العديد من الشركات الإسرائيلية التي حققت نجاحات ووضعت إسرائيل في مكانة تباهى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي في إحدى خطاباته الشهيرة باعتبارها من الدول الرائدة في ريادة الأعمال، ومن تلك الشركات «تشيك بوينت» التي تأسست عام 1993 ويعتبرها اليوم الخبراء المختصون في صناعة تأمين المعلومات وهي «أكبر شركة في العالم لتأمين المعلومات». 

أما شركة «جيفن إيمجينج» فقد تمكنت من تطوير الحبة التي يبتلعها الشخص لكي تمر عبر جهازه الهضمي وتقوم الكاميرا التي تتضمنها بتصويره، علمًا بأن هذه الحبوب تمثل البديل التكنولوجي الوحيد لفحص القولون.

وطورت شركة «لايف يو (LiveU)» جهاز إرسال متحرك خفيف الوزن يتيح نقل البث الحي عبر الشبكات الخلوية، وقد وفرت الشركة الإسرائيلية حلول البث لمؤسسات إعلامية تابعة لأكثر من 80 دولة، بالإضافة إلى ألفي عميل دائم تخدمهم الشركة ومنهم عدد من المؤسسات الإعلامية العملاقة مثل «بي بي سي» و«سي إن إن».

وتعد شركة «نيتافيم» أكبر شركة رائدة في العالم في مجال الري بالتنقيط والري المتناهي الصغر، في حين تُعد شركة «بايونير» المنافس الرئيس لشركة «باي بال»، الشركة التي يعرفها معظم المتعاملين في عالم مدفوعات الفضاء الإلكتروني، وقد طورت الشركة الإسرائيلية منصة تسمح بالتحويل المؤمن للمدفوعات عبر الإنترنت، ولا سيما ضمن الصفقات المعقودة بين مختلف الأعمال والمؤسسات التجارية. 

زبائن لا حصر لهم لقمع المعارضة وملاحقة الخصوم

كشف تحقيق لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، والذي انتشر على نطاق واسع، عددًا كبيرًا من الدول التي اشترت برامج التجسس الأمريكية، وذلك لملاحقة المعارضين والخصوم السياسيين في تلك الدول؛ مما جعل من تلك الشركات أدوات تستخدمها تلك الدول لقمع معارضيها. 

وكشف التحقيق الذي يستند إلى 100 مصدر في 15 دولة، بما في ذلك العديد من الموظفين الحاليين والسابقين في الشركات الإسرائيلية التي تنتج المنتجات الإلكترونية، إلى أن الهيئات التنظيمية الإسرائيلية التي من المفترض أن تضمن عدم استخدام الصادرات لأغراض غير قانونية أو غير أخلاقية من قبل الحكومات المشترية لا توقف التصدير حتى عندما يكون هناك دليل واضح على سوء الاستخدام.

وتشير بعض الدراسات إلى انتشار برامج التجسس الإسرائيلية ووجودها الآن في 130 دولة، بما في ذلك بعض الدول التي ليس لها علاقات دبلوماسية مع اسرائيل، مثل دول الخليج العربية، السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة، وكذلك دول مع سجلات سيئة لحقوق الإنسان مثل سوازيلاند، وجنوب السودان، وأنجولا، وساعدت برامج التتبع في بلدان مثل إندونيسيا، الحكومة على تجميع قضايا جنائية ضد المثليين والأقليات الدينية الذين واجهوا بعد ذلك اتهامات بالمثلية، وكذلك استخدمتها المكسيك لتتبع واعتقال المعارضين.

وقد ذكر المعارض السعودي عمر عبد العزيز أن السعودية استخدمت برنامج شركة «إن إس أو» لتسجيل مكالماته مع المعارض السعودي الراحل جمال خاشقجي، والذي قتل على يد الاستخابرات السعودية في قنصلية بلاده في إسطنبول بتركيا، وهو ما فعلته الإمارات للتجسس على هواتف 159 من أبناء العائلة الحاكمة في قطر، واستخدمت برامج الشركة أيضًا للتجسس على رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري والأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز.

تكنولوجيا

منذ 3 سنوات
الكل يبيع معلوماتك حتى مواقع الصحة النفسية! تعرف على أبرز هؤلاء اللصوص

من خلال كل تلك الشركات التي تقدم خدماتها في كل المجالات يستطيع رجالها من خلف الستار الوصول إلى ما يريدون في أي وقت، إنهم يقبعون هناك في مكاتبهم في تل أبيب أو حيفا، بينما ترصد عيونهم ما يودون رصده ويقدمون خدماتهم لمن يحبون أن تصل لهم خدماتهم وبالقدر الذي يريدون، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أنه بات بالإمكان الآن تحويل المكان الذي تعتقد أنه من أخص خصوصياتك ومستقر أمنك وراحتك إلى «ثقب صغير» لشركات التجسس.

المصادر

تحميل المزيد