يبدو أن رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي “غادي آيزنكوت” قد كسر قاعدة السرية والكتمان داخل الأوساط السياسية والعسكرية وحتى الأمنية الإسرائيلية بعد إعلانه لأول مرة في تاريخ الجيش الإسرائيلي منذ ستين عامًا بصورة رسمية عن وثيقة حملت عنوان “إستراتيجية الجيش الإسرائيلي”.

“آيزنكوت” الذي تولى منصبه في أوائل ديسمبر من العام الماضي، أي بعد أربعة شهور من انتهاء حرب 2014 على قطاع غزة، فصل طبيعة التغيرات الجديدة داخل الجيش، والمزمع الأخذ بها بالتزامن مع تحديات المستقبل والتغيرات الجارية في ربوع المنطقة العربية والإقليمية.

“ساسة بوست” حاولت أن تقف على أبرز ما جاء في الوثيقة والإستراتيجية الجديدة للجيش، وما الذي حملته فصولها الخمس، فضلًا عن السر وراء كشفها في الوقت الحالي، مع تسليط الضوء على إستراتيجية القتال المقبلة لإسرائيل.

أولًا: على ماذا ركزت الوثيقة الإستراتيجية للجيش الإسرائيلي؟

اللافت في الوثيقة أنه لم يرد ذكر التهديد الإيراني في الإستراتيجية رغم تصريحات المسؤولين الإسرائيليين المتواترة بشأنه، وهذا يرجع إما لتغليفه بإطار من السرية أو لكون القيادة ترى أن الاتفاق النووي مع القوى الكبرى يحجم هذا التهديد في الفترة القادمة.

لكن، الوثيقة التي نشرت في 33 صفحة هي في الحقيقة جزء من وثيقة أكبر لا تزال محتوياتها تصنف بالغة السرية كما يرى الإسرائيليون، حيث ترسم رؤية رئيس الأركان الحالي وهيئة أركانه لسبل الرد على المخاطر المحددة.

وتكشف الوثيقة خريطة التهديدات المختلفة لإسرائيل من دول العالم العربي والغربي، وطبيعة عمل الجيش الإسرائيلي وسبل تحقيق أهدافه، وبالتالي لاحظ بعض المعلقين الإسرائيليين أن الوثيقة الجديدة لا ترقى لمستوى اعتبارها نظرية أمن قومي جديدة، لكنها في ظل غياب نظرية أمن تناسب التطورات على الأرض توفر هذه الوثيقة ردودًا على المستجدات المتتالية في المنطقة.

وتركز الوثيقة على أنهها جاءت كمحاولة لترسيم نظرية شاملة لتفعيل القوات واستخدامها في كل الجبهات، وعلى أمل أن تقوم كل قيادة جبهة بمراجعتها وتكوين نظرية قتالها الخاصة في المستويات الأدنى.

وتركز أيضًا على أن نجاح توصياتها يكمن في تطبيق خطة “جدعون” الأخيرة المتعددة السنوات والتي يرى فيها كثيرون نقيضًا لخطة “لوكر” التي رفضها الجيش، والمتخصصة في تقليص عدد ضباط القوات والوحدات، وتسريح قرابة 100 ألف جندي من قوات الاحتياط، خلال السنوات المقبلة.

لذلك، جاءت هذه الوثيقة لإعادة أولويات الجيش الإسرائيلي الداخلية من حيث عدد القوات، والخطط المعتمدة في حال مواجهة مقبلة مع أي طرف خارجي، فيما الخارجية عبر رسم طرق جديدة للمواجهة على غرار ما كان في حرب تموز لبنان عام 2006م، وحروب قطاع غزة الماضية.

وتوضح أن الإستراتيجية الجديدة تقوم على أساس أن التهديدات الدائرة الأولى التقليدية وغير التقليدية التي تواجهها إسرائيل، وهذا يعني التهديدات التي تلوح في الأفق على حدودها، آخذة في التناقص، في حين أن التهديدات التي تشكلها المنظمات الإرهابية، والهجمات الإلكترونية تتزايد.

والمتتبع للوثيقة، يجد أنها تقدم دروسًا أمنية وعسكرية جاءت بعد الاستفادة من حروب خاضتها في لبنان وغزة مؤخرًا، خاصة بعد جملة الانتقادات التي تعرضت إليها المؤسسة العسكرية عقب انتهاء كل حرب تجر معها خسائر فادحة.

ليس ذلك فحسب، بل جاءت الوثيقة لتقدم خططًا عسكرية “راقية” في حال أي مواجهة قادمة، دون التصريح العلن، وتحديدًا مع حزب الله اللبناني “وحركة حماس” في غزة، مع الإشارة في الوقت نفسه على أنهما حزبان تدعمها إيران، وخطرهما لا يقل كثيرًا عن خطر “داعش” أو أي من الجماعات الإسلامية “الإرهابية” في المنطقة.

ثانيًا: ما هي الفصول التي شملتها، وطبيعة الموضوعات التي تناولتها؟

تضمنت الوثيقة خمسة فصول، وهي:

الفصل الأول:

 

حيث ركز على الإطار الإستراتيجي للوثيقة وطبيعة الخطط العسكرية التي ستستهدفها إسرائيل خلال المرحلة المقبلة، مع التركيز على “حزب الله اللبناني” وحركة “حماس”، وسوريا وإيران، مع الإشارة إلى عوامل الخطر التي قد تنجم عن أي مواجهة معهم.

وبالتالي، ناقش الفصل الجانب العسكري من التصور الأمني، والذي يشمل الاستخبارات والدفاع وتحقيق النصر الحاسم في أي مواجهة، حيث يحدد “آيزنكوت” أنه في حين خاض حربًا، فإنها لن تكون لغرض احتلال الأراضي أو تحقيق الأهداف الإستراتيجية، كما فعلت في حرب لبنان الأولى، بل للمهاجمة مباشرة.

وبسبب ذلك، فإن قوات الجيش الإسرائيلي يفضلون القتال مع قوات صغير، تبدو المناورة معها بين جبهات مختلفة مرنة وسريعة، مقابل قوات كبيرة وثابتة، لكن “آيزنكوت” يلفت إلى أن إسرائيل “تسعى للسلام وتجنّب مواجهات، لكن إذا فُرضت مواجهة عليها فسوف تركّز قدراتها وستنتصر فيها”.

ويشدد على “أنه في معارك النار مع منظمات إسلامية ما دون الدولة (مثل حماس وحزب الله) سيكون مطلوبًا من الجيش “الإسرائيلي” إنهاء المعركة بانتصار وإملاء شروط إنهاء القتال”.

الفصل الثاني:

ركز على مبادئ مفهوم الأمن القومي والعلاقة بين الأهداف الوطنية واستخدام القوة، إلى جانب مميزات البيئة التشغيلية والإستراتيجية المؤهلة خلال المرحلة المقبلة، حيث إن “الردع، الإنذار، الدفاع، الحسم، الانتصار”، هي مبادئ أساسية في العقيدة القتالية لإسرائيل.

وبالتالي، فإن المبدأ الأول لإستراتيجية الأمن القومي الواردة في المذكرة هو “الاعتماد على إستراتيجية أمنية دفاعية”، التي تسعى “لضمان وجود إسرائيل، وتوليد الردع الفعال، تأجيل النظر في الصراع، وإذا لزم الأمر، تحييد التهديدات”.

 

فضلًا عن مبدأ أهمية التعاون الإستراتيجي، بما في ذلك تعزيز العلاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة وتعزيز العلاقات الإستراتيجية مع الدول الرئيسية الأخرى، لا سيما التي تنظر إلى إسرائيل أنها خط الدفاع عن أراضيها.

الفصل الثالث:

ركز على استخدام القوة، والغرض من عملية عسكرية أداء الجيش الإسرائيلي في حالات الطوارئ والحرب، بالإضافة إلى القدرات والجهود المبذولة في حالات النزاع وغيرها.

ويبرز ذلك من خلال تعزيز مكانة إسرائيل في الحلبة الإقليمية وتقوية اتفاقات السلام، واستنفاد القدرة الكامنة للتعاون مع جهات معتدلة في المنطقة، إلى جانب الحفاظ على التفوق النسبي المستند إلى نوعية بشرية، وإلى قدرات تكنولوجية متقدمة وإلى معلومات على أنواعها.

وتؤكد الوثيقة أيضًا أن بناء القوة في الجيش الإسرائيلي سيركز على الأدوات “الأشد فتكًا، وحركة وقدرة على البقاء”، إذ يتطلع الجيش لأن تكون “نسب التآكل متدنية عبر استخدام منظومات دفاع متطورة”.

وتسمح النظرية الجديدة للقادة الميدانيين بالارتجال وتوفير الشروط لإتمام حركات برية تدفع الخصم إلى فقدان التوازن، حيث يريد “آيزنكوت” من الجيش في أيام المعارك الأولى أن يهاجم آلاف الأهداف ليركز بعدها على مئات الأهداف يوميًّا.

الفصل الرابع:

تناول مفهوم القيادة العامة، ومبادئ القيادة والسيطرة، حيث تنظم هذه المبادئ مفهوم القيادة والسيطرة في القتال مع إرادة بتفعيل فعال لقدرات الجيش في كل ساحات الحرب، ومن بينها الدفاع التقليدي عن الحدود، والدفاع في مقابل تهديد الصواريخ والقذائف، والمناورة البرية، إلى جانب تفعيل قوات خاصة في العمق، وتطوير قدرات في مقابل دول ليس لها حدود مشتركة مع إسرائيل.

الفصل الخامس:

ركز الفصل الأخير على رأس المال البشري، حيث في عقيدة إسرائيل يمكن أن تدخر القيادة العسكرية كل شيء من أجل الدفاع عن مواطنيها وجيشها وموظفيها، مع توفير الروح القتالية والمبادرة الفعالة لهم.

وبالتالي، تسخر إسرائيل جل إمكاناتها المادية والمعنوية لجيشها الذي خاض حروبًا قاسية سواء في لبنان أو غزة، لأجل تحقيق أهداف “الدولة” المزعومة.

ثالثًا: ما السر في كشف الوثيقة للجمهور العام؟

واعتبر المعلق الأمني في صحيفة “هآرتس”، أمير أورن أن الوثيقة هي في الواقع “عقيدة آيزنكوت” القتالية وأن كشفها للعلن يعني خضوع الجيش ليس فقط للمؤسسة

An Israel Defense Force Merkava Mark IV main battle tank exercise with infantry forces.

An Israel Defense Force Merkava Mark IV main battle tank exercise with infantry forces.

السياسية، وإنما أيضًا للمجتمع الإسرائيلي الذي ينتخب الكنيست التي تختار الحكومة.

ويوضح أورن أن هذا المجتمع يؤثر بمواقفه في الميزانية وفي العسكريين سواء المجندين أو الاحتياطيين، إذا تحدد الوثيقة ثلاثة مستويات قيادية، وهي رئيس الأركان كقائد للجيش، والحكومة كقائدة لرئيس الأركان، والأمة كقائدة للحكومة.

وهي بذلك تنص على وحدة القيادة داخل الجيش وعلى دعم لمتخذي القرارات “أثناء القتال لكل قائد تتوفر لديه القدرة والواجب على اتخاذ القرارات المختلفة ضمن التخطيط الأولي”.

سبب آخر للإفراج عن وثيقة للجمهور هو تطابق توقعات الجمهور الإسرائيلي مع الجيش، فيما يمكن القيام به من عدم القيام، وبالتالي ترى الأوساط الإسرائيلية كشف الوثيقة تعزيز نوع من الثقة بين المواطن الإسرائيلي والمسؤول، خاصة بعد التجارب الماضية في الحروب الأخيرة.

رابعًا: على ماذا تقوم نظرية القتال المقبلة في إسرائيل؟

An Israel Defense Force Combat Engineers Puma armored personnel carrier launches a mine clearing line charge.

An Israel Defense Force Combat Engineers Puma armored personnel carrier launches a mine clearing line charge.

 

يشار إلى أن نظرية القتال الإسرائيلية بنيت حينما كانت المخاطر تقوم على أساس أن إسرائيل يمكن أن تتعرض لهجوم شامل من جانب كل أعدائها المحيطين بها. ولكن اليوم الحال يختلف، وفق أورن، حيث إن لإسرائيل سلامًا مع مصر والأردن، وصارت سوريا في عديد “الدول الفاشلة، التي تتفكك”.

فيما خرجت إيران في إجازة حتى عام 2025، ما يجعل أعداء إسرائيل الحاليين، وفق الإستراتيجية الجديدة، هم المنظمات الإسلامية التي ما دون دولة. وهذا يسري على “داعش”، لكنه يركز على “حزب الله” و”حماس”. ولذلك فإن السيناريو المركزي الذي يركز عليه الجيش الإسرائيلي حاليًا هو محاربة هذه التنظيمات.

وفي هذا الإطار، ثمة تعديل في مفهوم النصر وتفسيره. فهو الآن يعني “تحقيق الغايات السياسية المقررة للمعركة، بشكل يقود إلى تحسين الوضع الأمني بعد المواجهة”، لكن تفصيل الإنجازات لم يعد يشمل تدمير “حزب الله” في لبنان أو “حماس” في غزة، أو سيطرة متواصلة على أراضٍ تحتلها إسرائيل في هذه الجبهات.

المصادر

تحميل المزيد