تجري هذه الأيّام محاكمة جيلين ماكسويل المتورّطة ـ رفقة شريكها جيفري إبستين ـ في اتهامات باستغلال فتيات قُصّر، ودفعهن لممارسة الجنس مع شخصيات سياسية ونافذة في مجال المال، والأعمال، والفنّ؛ إذ كان يجري نقلهن عبر طائرة خاصة مملوكة لإبستين إلى جزيرة يمتلكها في الكاريبي.
وقد ذكرت الصحافة الأمريكية العديد من الأسماء التي بنَتْ علاقات قويّة مع جيفري إبستين، والتي تحوم حولها شبهات بتورّطها في فضيحة جيفري إبستين، من بينهم الرئيسان السابقان دونالد ترامب وبيل كلينتون، بالإضافة إلى الأمير البريطاني أندرو، والممثل الشهير كيفن سبايسي بطل مسلسل «House of Cards»، ومؤسّس شركة «مايكروسوفت» بيل جيتس.
وقد أثارت ملابسات وفاة جيفري إبستين الغامضة في صيف سنة 2019 الكثير من النقاشات في الصحافة والرأي العام؛ ففي حين بدت الوفاة وكأنّها عملية انتحار، إلا أن ظروفها وطبيعة الأسماء المتورّطة في شبكة جيفري إبستين، ونفوذهم داخل السلطة، جعلت الكثيرين يرون أن جيفري إبستين قُتل داخل زنزانته كي لا يفضح الأسماء المتورّطة في ممارسة «البيدوفيليا» مع فتيات إبستين.
جيفري إبستين رفقة جيلين ماكسويل
قبل ثلاثة أسابيع من وفاته وُجد جيفري إبستين في زنزانته مجروحًا في عنقه، وقال إنّه تعرّض للهجوم من طرف رفيقه في الزنزانة، وخوفًا من أن يُقدم جيفري إبستين على الانتحار وضعته إدارة السجن تحت المراقبة كلّ 30 دقيقة، لكن حرّاس السجن لم يلتزموا بهذا الإجراء ليلة وفاته، مبررين ذلك بأنّهم كانوا نائمين حينها، كما أن الكاميرات في تلك الليلة لم تعمل؛ ليوجد جيفري إبستين في العاشر من أغسطس (آب) 2019 ميتًا في زنزانته، بينما ثياب السجن ملفوفة حول عنقه.
جيلين ماكسويل ذراع إبستين اليمنى، والمتورّطة بصورة مباشرة – حسب شهادة الفتيات الناجيات – في توفير الفتيات تحت السن المسموح لممارسة الجنس، وإجبارهن على النوم مع شخصيات مشهورة، كانت هي الأخرى شخصية مثيرة للاهتمام؛ خصوصًا أنّها تملك خلفية أكاديمية مرموقة بحكم دراستها في جامعة «أوكسفورد» الشهيرة، وأهم من ذلك كونها ابنة المليونير روبرت ماكسويل، اليهودي البريطاني الذي كان عضوًا في البرلمان، بالإضافة إلى امتلاكه للمجموعة الإعلامية المالكة لجريدة «الميرور» البريطانية.
وقد حامت حول والدها شكوك طويلة في كونه عميلًا للموساد الإسرائيلي لدى وزارة الخارجية البريطانية، أو حتى عميلًا ثلاثيًا بين المخابرات البريطانية، والروسية، والإسرائيلية؛ مما يزيد أكثر من الشكوك حول وفاته الغامضة سنة 1991؛ إذ إن كتابًا نُشر في بريطانيا أشار إلى أن الموساد الاسرائيلي هو الذي يقف وراء اغتياله.
وقد ذُكرت العديد من الأسماء السياسية الثقيلة خلال حيثيات محاكمة جيلين ماكسويل الجارية حاليًا في الولايات المتحدة؛ إذ قالت فتاة خلال جلسة المحاكمة التي أقيمت في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 2021: إن جيفري إبستين عرّفها على الرئيس السابق دونالد ترامب وهي في سن الرابعة عشرة من عمرها خلال فترة إقامته بفلوريدا، لكنها لم تتّهم الرئيس السابق بأيّة أفعال مخالفة للقانون، كما لم تذكر سبب تعريف إبستين لها إلى الرئيس السابق.
نفوذ واستغلال جنسي.. من هو جيفري إبستين؟
وُصف جيفري إبستين بالذكاء الشديد، والشخصية الجذّابة وبالوسامة أثناء شبابه، بالإضافة إلى أسلوبه في الإقناع والإغواء، وهو ما سمح له بالوصول إلى مكانة عالية، والتعرّف على أشخاص ذوي نفوذ كبير، رغم عدم امتلاكه المؤهّلات العلمية الكافية، ويذكر وثائقي حول حياته كيف بدأ مشواره المهني مدرّسًا في مدرسة «دالتون للثانوية العامة» بنيويورك، وهي مؤسسة تعليمية خاصة يرتادها أبناء الطبقة العليا من الأثرياء.
ونجح إبتستين في الحصول على وظيفة مدرّس رغم عدم إتمام دراسته الجامعية، وبعدها استطاع دخول عالم المال في «وول ستريت» عبر شركة «بير شتيرنز» إثر حصوله على وظيفة في تحليل الأسواق المالية، بتوصية من مدير مدرسة «دالتون».
جيفري إبستين وجيلين ماكسويل رفقة دونالد ترامب – مصدر الصورة: واشنطن بوست
بعد شهرين من حصوله على الوظيفة اكتشفت شركة «بير شتيرنز» أن جيفري إبستين لا يملك أيّة شهادة جامعية، عكس ما ذكر في سيرته الذاتية، بل استغلّ علاقته مع ابنة مدير مدرسة «دالتون» من أجل الحصول على توصية والدها لدخول عالم الأعمال.
وعن هذه الحادثة يقول مايكل فينينباوم، الرجل المسؤول عن دخول إبستين عالم الأعمال بأنّها «أكبر خطأ مهني ارتكبه في حياته»، لكن على الجانب الآخر كان دخول إبستين إلى عالم الأعمال، رغم كذبه في سيرته المهنية، هو ما سمح له فيما بعد بالترقّي سريعًا داخل الشركة، وبداية الحصول على النفوذ، ونسْج شبكة من المعارف لدى المشاهير من السياسيين، ورجال الأعمال، والفنّانين.
وفي مطلع التسعينات بدأت شهرة جيفري إبستين تتوسّع باعتباره شخصيّة غامضة في نيويورك يمتلك الكثير من الأموال والنفوذ، وأهم من ذلك علاقاته المتشعّبة التي تمتدّ من الممثّلين إلى رجال الأعمال الأثرياء، وليس انتهاءً بأكبر رجال السياسة، مثل بيل كلينتون، ودونالد ترامب، والأمير البريطاني آندرو ابن الملكة إليزابيث، هذا بالإضافة إلى تعرّفه على روبرت ماكسويل، والد مساعدته المستقبلية جيلين ماكوسيل، وتقرّبه من العائلة، وإسدائه خدمات ماليّة لها.
يقول المحقّقون إنهم وصولوا إلى أكثر من 40 فتاة في سنّ المراهقة والشباب، من بينهم فتيات يبلغ سنّهن 14 عامًا، جرى استغلالهنّ جنسيًا من طرف إبستين وجيلين ماكوسيل لصالح شخصيات ثرية وذوي سلطة، في الجزيرة الخاصة التي يملكها إبستين في الكاريبي.
وقد أفلت إبستين من السجن عدّة مرّات، من بينها سنة 2006 إثر اعتقاله بجريمة التحريض على الدعارة، لكنه خرج بكفالة بعدها بساعات؛ وهو ما جعل الصحافة والرأي العام ينتقدون بشدّة المدّعي العام بسبب ما اعتبروه «تخفيفًا متعمّدًا للتّهم ضده، وتواطؤًا محتملًا معه»، وهو ما يشير إلى حجم النفوذ الذي امتلكه إبستين داخل أروقة العدالة، بعدها تولّى «مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)» قضية إبستين، وبدأ في الوصول إلى الفتيات القصّر اللواتي جرى استغلالهن في شبكته.
ومن أجل حمايته من الوقوع تحت طائلة القانون، جمع إبستين فريقًا من ألمع الأسماء في عالم المحاماة، من بينهم محامي الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي ترافع عنه في قضية «مونيكا لوينسكي»، بالإضافة إلى المحامي وأستاذ القانون بجامعة هارفرد آلان ديرشوفيتز، والذي سيظهر اسمه لاحقًا باعتباره متّهمًا بالتورّط في شبكة إبستين للاتجار بالجنس.
ترامب وكلينتون وبيل جيتس.. أسماء ارتبطت بفضيحة جيفري إبستين
سنة 2002 قال ترامب في حوار صحافي مع مجلّة «نيويورك ماجازين» الأمريكية، عن إبستين إنّه «شخص رائع، كما أنّه يحب النساء الجميلات تمامًا مثلي، بعضهن صغيرات السنّ»، لكن ترامب عاد وأكّد بأن العلاقة بينه وبين إبستين انتهت قبل 15 سنة إثر تورّط إبستين في قضايا قانونية.
إلا أن مستشار ترامب السابق ستيف بانون ومدير حملته الانتخابية سنة 2016 كان قد عبّر عن قلقه قبل الانتخابات من المعلومات التي من الممكن أن يعرفها إبستين عن ترامب، وإمكانية تضرّر الحملة الانتخابية بسببها؛ ففي مكالمة هاتفية بين بانون وإبستين قبل أشهر قليلة من وفاته قال له: «إنّك الشخص الوحيد الذي كنت أخشاه أثناء الحملة الانتخابية»، في إشارة إلى الأسرار التي من الممكن أن يكشفها، فأجابه إبستين «كان خوفك في محلّه».
وقد ذكر كتاب للصحافي مايكل وولف – مؤلّف العديد من الكتب عن السياسة الأمريكية، من بينها كتاب «النار والغضب» عن رئاسة ترامب – أن جيفري إبستين كان يعوّل على المعلومات التي لديه عن كل من الرئيسيْن السابقين دونالد ترامب وبيل كلينتون من أجل عقد صفقة مع القضاء عن طريق الوشاية بما لديه من معلومات مقابل أحكام مخفّفة.
وكان لإبستين علاقات قوية مع الرئيس السابق كلينتون وزوجته، كما أنّه كان مستشارًا للحملة الانتخابيّة لكلّ من المرشّحين هيلاري وترامب سنة 2016 في وقت واحد، ويقول الكتاب إن ترامب سعى للضغط على القضاء من أجل استخراج أية أسرار لدى إبستين، بحيث يُفشي إبستين بما يعرفه عن علاقات مضرّة بصورة الرئيس السابق كلينتون مقابل الحصول على أحكام مخفّفة.
بيل جيتس رفقة إبستين – مصدر الصورة: نيويورك تايمز
أيضًا أحد الأسماء البارزة التي جرى تداولها من خلال علاقاتها مع إبستين هو بيل جيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت» وأحد أغنياء العالم، والذي ترجع علاقته مع إبستين إلى سنة 2013 على الأقل، وبالتالي بعد إدانة إبستين بقضايا مرتبطة بالجنس، وقد كشف أحد الموظفين السابقين في مؤسّسة بيل جيتس الخيرية أن علاقة بيل جيتس مع إبستين هي السبب الرئيس لطلاق الزوجين جيتس؛ إذ اشتكت زوجة بيل جيتس أكثر من مرّة من علاقة زوجها بإبستين، خصوصًا أنّه كان مُدانًا بالفعل في جريمة التحريض على الدعارة.
أما بيل جيتس فقد برّر علاقته بإبستين باعتباره كان يطمح إلى الحصول على تمويل لمؤسسته الخيرية من قِبَل معارف إبستين، ولكن عدد الزيارات وتصريحات المحيطين ببيل جيتس حول «الصداقة القريبة» بين الرجلين توحيان بأنّ القضية أكبر من مجرّد علاقة سطحية، مثلما قال بيل جيتس مؤخرًا.
هل كان جيفري إبستين عميلًا للموساد؟
تحوم الشبهات حول إبستين حول كونه عميلًا للاستخبارات الإسرائيلية «الموساد»، وهو ما رجّحته الكاتبة كولي براون في كتابها «قصة جيفري إبستين» إذ قالت: «ما هو مؤكد أن إبستين كانت له علاقات مع كل من رئيسيْ الوزراء الإسرائيليّيْن السابقين إيهود باراك وبنيامين نتنياهو»، هذا بالإضافة إلى كونه مقرّبًا بشدة من والد رفيقته المتورّطة معه في شبكة استغلال الفتيات القصّر، روبرت ماكسويل، الذي كان – حسب وزارة الخارجية البريطانية – على ارتباط مع جهاز «الموساد» الإسرائيلي، وكلا الرجليْن (إبستين ووالد ماكسويل) توفيا بطريقة شديدة الغرابة والغموض.
كما أنّ إبستين عندما أراد التخلّص من الملاحقة القضائية في الولايات المتّحدة، كانت وجهته إسرائيل سنة 2008، لكنّه قرّر العودة ومواجهة هذه الاتهامات لاحقًا، ويرجّح بعض الصحافيين الأمريكيين أن يكون دور إبستين الحقيقي هو العمل لصالح الاستخبارات من خلال توريط شخصيات نافذة في السلطة في فضائح جنسية، وتسجيلها بكاميرات مراقبة، ثم ابتزازهم من خلالها، كما يذكرون حجم النفوذ واتساع شبكة العلاقات التي كانت لإبستين في العديد من الدول؛ فبالإضافة إلى علاقاته في إسرائيل والعديد من البلدان الأفريقية، كان لإبستين أيضًا علاقات مع قيادات الخليج، من بينهم محمد بن سلمان، ومحمد بن زايد.