في ظل أزمتها الاقتصادية الطاحنة، خرجت الحكومة المصرية بقرار لحماية ممتلكات وتراث اليهود المصريين داخل مصر؛ إذ أُعلن عن تخصيص 1.27 مليار جنيه مصري (71.1 مليون دولار تقريبًا) لترميم التراث اليهودي.

في السادس من الشهر الجاري، وللمرة الأولى منذ عقود، احتفل يهود مصر على أرضها بعيد «الحانوكا»، أو عيد  الأنوار كما يعرف أيضًا، حيث تليت الصلوات وأشعلت الشموع في الشمعدان اليهودي الشهير في معبد عدلي بالقاهرة.

وللمرة الأولى أيضًا كان هناك دعوة عامة للاحتفال على الصفحة الرسمية للطائفة اليهودية بالقاهرة على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وفيما حضر أعضاء جمعية «قطرة اللبن» المهتمة بالحفاظ على التراث اليهودي، ووفد سياحي أمريكي هذا الاحتفال، فقد سجل اليهود العشر الموجودون في مصر إنجازًا بهذا الاحتفال العلني النادر لهم.

مشاريع ضخمة لترميم التراث اليهودي بمصر

في ظل أزمتها الاقتصادية الطاحنة، خرجت الحكومة المصرية قبل أيام بقرار لحماية ممتلكات وتراث اليهود المصريين داخل مصر؛ إذ أُعلن عن تخصيص الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي  مليارًا و270 مليون جنيه مصري (71.1 مليون دولار تقريبًا) لترميم التراث اليهودي «دون انتظار أن يُطلب ذلك من الخارج» بحسب ما قاله وزير الآثار خالد العناني،  الذي أضاف: «التراث اليهودي جزء من التراث المصري، ولن أنتظر أن يقول لي أحد خد فلوس ورممه؛ لأنه أولوية عندي كمثل التراث الفرعوني، والروماني، والإسلامي، والقبطي».

Embed from Getty Images

معبد عدلي بالقاهرة

السيسي الذي قال في كلمته بمؤتمر الشباب في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي: «المواطنون لهم حق العبادة، ولو عندنا ديانات أخرى سنبني لهم دور عبادة، ولو كان في يهود سنبني لهم؛ لأن ده حق المواطن أن يعبد ما يشاء أو لا يعبد»، سبق وأن أقدمت حكومته في أغسطس (آب) 2017 على مشروع ترميم المعبد اليهودي في الإسكندرية بتكلفة 100 مليون جنيه مصري ممولة من الحكومة المصرية، وكان ذلك جزءًا ضمن حزمة مشاريع ترميم تراث. وكانت الحكومة المصرية قد شكلت في عام 2016 لجنة لتسجيل التراث اليهودي بمصر، ولتحديد «جميع المعالم الأثرية اليهودية وجميع المجموعات اليهودية في المعابد اليهودية».

وتقول رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، ماجدة هارون، عن النشاط الذي تقوم به الطائفة اليهودية: «رممنا معبدي مصر الجديدة والمعادي؛ لاستغلالهما في أنشطة ثقافية، وتم تجهيز معبد المعادي لإقامة عروض مسرحية وموسيقية، والحقيقة أنني حاولت التواصل مع وزيرة الثقافة أكثر من مرة دون جدوى لمعرفة آخر التطورات في عدد من القضايا، ومن بينها ما تم في فهرسة أرشيف الطائفة اليهودية المصرية الذي سلمته للوزارة، وما زلت أطلب لقاءها».

وقد كانت مصر قبل وصول السيسي لسدة الحكم تعمل ببطء وبسرية في ترميم معابد اليهود بسبب الغضب الشعبي تجاه إسرائيل، وذلك بحسب ما صرح به مدير الشؤون اليهودية الدولية للجنة اليهودية الأمريكية الحاخام أندرو بيكر، إذ قال: «أخبرونا أننا نفعل هذه الأشياء، لكن لا يمكنك أن تخبر أحدًا بذلك.. ففي مصر كانوا يفعلون الأشياء، لكنهم يهمسون (لا تدع أحدًا يعلم!)».

Embed from Getty Images

رئيسة الجماعة اليهودية المصرية ماجدة هارون (يسار) وأمها مارسيل هارون

ولذلك حين أعلنت مصر عن اجراءات ترميم التراث اليهودي أثارت تحركاتها التعجب؛ إذ إن قرار الحكومة المصرية بترميم المعبد اليهودي في الإسكندرية العام الماضي، وفي ظل عدد اليهود المحدود في مصر قُرئ في إطار سعى مصر لرئاسة «الهيئة الثقافية والتراثية للأمم المتحدة» بعد ترشيح السفيرة السابقة مشيرة خطاب في عام 2016، وهو الأمر الذي أعاد للأذهان الدوافع الحقيقية وراء الجهود لترميم معابد اليهود بمصر في عام 2009، إذ فاجأ وزير الثقافة آنذاك  فاروق حسني الإسرائيليين أنفسهم بالإعلان عن ترميم المعابد اليهودية في مصر، فيما أكد المراقبون أن الدافع الحقيقي هو رغبة حسني في قيادة منظمة «اليونسكو» آنذاك.

فيما يقرأ بعض المحللين هذه التحركات في إطار مؤامرة للتمهيد العقلي والفكري للشعب المصري للقبول بعلاقات أكثر بروزًا مع إسرائيل، يقول الكاتب الإسرائيلي أرئيل لافين: «هناك من يعتبرون تلك الخطوات استدرارًا لتعاطف الغرب، وهناك من يقولون إن هذه الخطوات تحدث الآن فقط، في وقت لم يعد هناك يهود في البلاد»، ويضيف لافين: «ربما بعد أربعة عقود من توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، بدأت مصر في قبول اليهود داخلها. إذ قال مسئول بوزارة الآثار إنهم (المصريون) دائمًا ما عاشوا في سلام مع اليهود. كان هذا مخبأً بداخلهم، لكن أعيد فتحه الآن».

عربي

منذ 4 سنوات
الورقة الرابحة.. كيف استغل بشار الأسد وإسرائيل قضية يهود سوريا بعد الثورة؟

هل تسعى إسرائيل للحصول على تعويضات عربية؟

برز بعد الثورة المصرية 2011 توجه واضح للاهتمام بالتراث اليهودي المصري على اعتبار أنه جزء من تاريخ مصر وإرثها الحضاري؛ إذ عكفت المؤسسات اليهودية العالمية على المطالبة بالحفاظ على التراث اليهودي في مصر، وكان من ضمن تحركاتها ما قامت به 11 مؤسسة يهودية، من أبرزها «اللجنة الأمريكية اليهودية»، في فبراير (شباط) 2016 بتقديم عريضة للحكومة المصرية طالبتها بالاعتراف بالتراث اليهودي في مصر وحفظ هذا التراث.

Embed from Getty Images

طفلان يهودان في كندا في احتفال  عائلي بمناسبة خروج اليهود من الأسر في مصر

وجاء في هذه العريضة بحسب صحيفة «الجيماينر» الألمانية: «واجهنا قصورًا من جانب الحكومة المصرية على مدار 14 عامًا الماضية عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على تراثنا الثقافي والديني، تحركنا يبدأ بعريضة موجهة للرئيس عبد الفتاح السيسي تشمل خمس قضايا رئيسة»، وأضافت العريضة: «قرر الموقعون وهم جمعيات يهودية من مصر تدعمها مؤسسات يهودية عالمية أن يعملوا بصوت موحد قوي لإنهاء أسلوب التقليل من شأننا، والذي ساد في السنوات القليلة الماضية»، وكذلك تعمل منظمة «ديارنا»، التي تتخذ من مدينة بوسطن الأمريكية مقرًا لها منذ عام 2010، على رسم الخرائط الرقمية ثلاثية الأبعاد إلى جانب الدراسات التقليدية والمقابلات الشفوية لتوثيق أكثر من 2500 موقع يهودي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما تلمح الجماعات اليهودية الأمريكية على وجه التحديد إلى أن التراث اليهودي المصري سيكون محميًّا بشكل أفضل إذا كان خارج مصر.

أما في داخل مصر، وفيما يوشك اليهود على الاندثار، أخذ هؤلاء في السنوات الأخيرة بالقيام بجهود متعددة لترسيخ التراث المصري اليهودي، وسعوا إلى ترميم أماكن التراث اليهودي؛ كما تم تأسيس جمعية الصداقة المصرية الإسرائيلية، وتعمل بعض الجمعيات في مصر على حماية هذا التراث، مثل جمعية «قطرة لبن» التي تعرف أيضًا باسم «أبواب السماء»، ويعمل أعضاء الجمعية من أجل الحفاظ على التراث، وعن هذه الجمعية تقول مجلة «إيكونومست»: إنها تعمل على «إحداث نهضة في التراث اليهودي، ويلتقي أعضاؤها مرتين في الأسبوع لتعلم اللغة العبرية؛ حتى يتمكنوا من فهرسة 20 ألف كتاب في الطابق السفلي من معبد أبواب السماء؛ إذ يريدون تنظيم معرض حول تاريخ مصر اليهودي داخل المعبد، كما يريدون حماية المواقع الأخرى، مثل المقبرة اليهودية في القاهرة».

Embed from Getty Images

معبد النبي إلياهو حنافي  في الإسكندرية بشارع النبي دانيال

لكن الأمر الأهم ربما يتعلق بالجهود الإسرائيلية تحت دعوى الاهتمام بالتراث اليهودي في الدول العربية، إذ لم تكتف إسرائيل بسرقة التراث اليهودي من العديد من الدول العربية، وتخصيصها متحف تراث اليهود الشرقيين في اللد، لتجميع التراث المادي، والفكري، والروحي لمهاجري شمالي أفريقيا وبلاد المشرق من اليهود، بل صادقت الحكومة الإسرائيلية في ديسمبر (كانون الأول) 2016 على مشروع لتوثيق قصص وتراث وتاريخ اليهود الذين هاجروا إليها من الدول العربية وإيران، ويضم المشروع شهادات يهود من أصول شرقية وعربية، توثّق حياتهم قبل الهجرة إلى إسرائيل.

وعلى هذا المشروع عقبت وزيرة المساواة الاجتماعية، جيلا جمليئيل: «ليست هذه مصلحة الشرقيين، بل مصلحة وطنية يهودية وصهيونية، من الآن ستكون الرواية اليهودية كاملة أكثر، وسيحظى مواطنو إسرائيل شبّانًا وبالغين بالسماع والتعلّم والتعرّف إلى التراث اليهودي، وسيُستثمَر في المشروع نحو 2.5 مليون دولار من موازنة وزارة المساواة الاجتماعية».

مجتمع

منذ 4 سنوات
ماذا تعرف عن الأرض التونسية التي يراها بعض اليهود أكثر أمنًا من إسرائيل؟!

ومن غير المستبعد أن تُقدم إسرائيل على تجميع وعرض تلك الشهادات في متحف عام، في خطوة تشبه ما حدث بشأن الناجين من المحرقة النازية الذين وضعوا في متحف حمل اسم «ياد فاشيم» غربي القدس المحتلة، ولا يستبعد أيضًا أن تكون إسرائيل وفي إطار سعيها علانية وخفية لحصر تراث اليهود العرب تسعى إلى استخدام النتائج في المطالبة بتعويضات عما خلفته الجاليات اليهودية في الدول العربية، وربما تكون الجهود المبذولة حاليا في مصر، من أجل تأكيد المطالب الإسرائيلية بوجود أملاك لليهود في مصر  منذ عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات.

ملامح من تاريخ اليهود المصريون

تمتع اليهود المصريون في عهد الخديوي إسماعيل بامتيازات متعددة، ولذلك كان التطور الاقتصادي هو عامل الجذب الأساسي لقدومهم إلى مصر، فقد شارك اليهود في مختلف المجالات الاقتصادية مثل التجارة وصناعة القطن، وبرزوا  في الحياة الثقافية والفنية مثل الممثلة ليلى مراد والسينمائي توجو مزراحي.

Embed from Getty Images

مخرج الفيلم الوثائقي (يهود مصر) أمير رمسيس، وفي مكتبه صورة ليلى مراد

أما فيما يتعلق بأعدادهم، فيظهر تعداد السكان بمصر لعام 1917 أن عدد اليهود بلغ 60 ألف نسمة، فيما أظهرت تقديرات مختلفة أن عدد الطائفة اليهودية المصرية كان يتراوح ما بين 80 ألفًا و120 ألف شخص في منتصف القرن العشرين، وقد حدثت أكبر الهجرات في الأربعينات والخمسينات؛ إذ هاجر معظم يهود مصر منها بعد حرب 1948، واستكمل العديد منهم الهجرة بشكل كبير عقب حرب السويس والعدوان الثلاثي عام 1956.

ثم ازدادت هجرتهم من مصر بعد فضيحة «لافون» عام 1955، تلك العملية التي قام بها الموساد الإسرائيلي بهدف إظهار عجز مصر عن حماية المصالح الأجنبية، وإفساد العلاقة بين مصر والدول الأجنبية، ثم  تضاءل عدد اليهود بمصر من 100 ألف إلى ما يقرب من بضعة أشخاص على مدار الستين عامًا الماضية، فبحسب رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، ماجدة هارون، فإن «عدد اليهود بمصر 10 أفراد، سبعة بالقاهرة وثلاثة بالإسكندرية».

وفي المحصلة، ترك اليهود المصريين تراثًا يهوديًا يشمل المعابد وغيرها من الأملاك والقطع الفنية، والكثير من هذا التراث مهمل، حيث يوجد في مصر نحو 13 معبدًا يهوديًا بنيت في القرنين الماضيين، وتضم القاهرة تضم خمسة معابد، منها معبد عدلي أو«شعار هاشامايم» الذي يعني بوابة الجنة، وتزخر مكتبة هذا المعبد بنوادر المخطوطات التي جمعت من المعابد اليهودية المصرية المغلقة، وسميت بـ«مكتبة التراث اليهودي» .

Embed from Getty Images

ماجدة هارون في  معبد عدلي بالقاهرة

ويوجد في منطقة الفسطاط بحي مصر القديمة معبد ابن عزرا»، وهو المعبد الذي سجل في عام 1986 أثرًا بسبب أهميته التاريخية والدينية والمعمارية.

أما الإسكندرية فتضم ثمانية معابد، أشهر وأقدم هذه المعابد هو معبد «الياهو حنابي» الذي يقع في شارع النبي دانيال، وقد تعرض هذا المعبد للقصف خلال الحملة الفرنسية، وأعيد بناؤه مرة عام 1850 بأوامر من أسرة محمد علي، وكذلك هناك في المدينة الساحلية «معبد دي منَسَّى»، الذي شيده رئيس الطائفة اليهودية في القاهرة عام 1869 يعقوب دي منَسَّى، وهناك أيضًا معبد «الياهو حزان» الذي يقع في شارع فاطمة اليوسف في حي سبورتنج والذي بني عام 1928.

تاريخ وفلسفة

منذ 4 سنوات
كنز يهود العراق.. مساع أمريكية لمنع إعادة الأرشيف اليهودي العراقي إلى بغداد

المصادر

تحميل المزيد