يعود الوجود اليهودي في تونس إلى حوالي ثلاثة آلاف سنة، فقد كان مئات الآلاف من اليهود الشرقيين يعيشون في شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط إلى حين تأسيس الدولة العبرية.
ومع ظهور الدولة العبرية، ظل يهود تونس متمسكين بالبقاء في البلد غير عابئين بأصوات في إسرائيل تطالب بإحضار اليهود التونسيين الى «أرض الميعاد»، خصوصًا بعد بروز دور لهم في الحياة التونسية في كافة المجالات خصوصًا مجال الغناء الشعبي.
القرن 19 .. بداية بروز يهود تونس
منذ بداية القرن التاسع عشر، تزايدت مساهمة اليهود التونسيين في صياغة التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي للبلاد سلبًا وإيجابًا، و تنامى إقبالهم في تونس على المشاركة في الشأن العام، خصوصًا مع قدوم جالية كبيرة من المدن الجنوبية في إيطاليا، واستقرارها في العاصمة التونسية.
بالتزامن مع حراك يهود تونس في الشارع والحياة العامة، منحت الدولة حقوقًا إضافية للطائفة اليهودية، منها عضوية المجلس الأكبر (البرلمان)، والحقوق الدينية والثقافية والمساواة أمام القانون مع المسلمين في دستور 1861. وطوال تلك الفترة مرورًا بحقبة الاستعمار، حتى العشرية الأولى من الاستقلال، ليشكل يهود تونس عنصرًا فاعلًا في صياغة تاريخ البلاد.
من أبرز المجالات التي ترك فيها يهود تونس بصمة ظاهرة، مجال الغناء الشعبي، فبرزت مجموعة كبيرة من أسماء اليهود التوانسة في هذا المجال مثل “حبيبة مسيكة”، التي تُعد الفنانة اليهودية التونسية الوحيدة التي حققت، إلى نجاحها المحلي، نجاحًا عربيًا لافتًا، وروول جورنو الذي بدأت موهبته الغنائية تبرز في الحفلات الاجتماعية، كالأعراس والختان، والحفلات الدينية، كالقداس السنوي أو في “بار متسفا”، وهو حفل ديني يقام عند بلوغ الطفل اليهودي الثالثة عشرة من العمر، و”يعقوب البشيري” الذي تميز بترديده بعض أغاني المقاومة الشعبية ضد المستعمر والتي تجلّت في شعر الخطاري، و”هنري طيبي”.
بعد انقضاء حوالي ثلاثة أشهر من فوز حزب النهضة الإسلامي في الانتخابات البرلمانية التونسية بعد الثورة على “زين العابدين بن علي”، ظل يهود تونس متمسكين بالبقاء في البلاد، غير مبالين لتصريحات نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، سيلفان شالوم، الذي دعا اليهود التونسيين إلى الهجرة إلى إسرائيل بعد التغييرات السياسية الأخيرة «حرصًا على أمنهم».
«أنا يهودي تونسي. أعرف أن هذا هو وطني وأعارض أي اقتراح لتركه فما من أحد هنا يشعر بالخوف»، قال أتون خليفة، أحد الشخصيات اليهودية البارزة في تونس وذللك لنفي كافة الادعاءات والمزاعم الكاذبة التي تتحدث عن رحيلهم الجماعي خلال تلك الفترة.
موسيقى يهود تونس .. من الغيتوهات لشوارع تونس
ميزت موسيقى يهود تونس أنها لم تنأَ بنفسها في معزل الانغلاق اليهودي في الغيتوهات بل امتزجت بإرث وثقافة تونس الشعبية، لتصير الدعامة الأساسية في تشكيل الهوية الموسيقية، ويسكن هذا الإرث تفاصيل الأغاني ومكونها اللحني والكلامي.
تميزت الأغاني التي كان يؤديها اليهود في تونس بالتحرر من المُحرمات والتابوهات، التي كانت سائدة آنذاك فيما يتعلق بالتغزل بالنساء، وقد وصل الأمر في بعض الأغاني إلى الغزل الإباحي الصريح، كما جاءت في أغنية المطربة اليهودية التونسية لحبيبة مسيكة: “على سرير النوم دلعني”، وعرف كذلك عنهم كلماتهم الجريئة وعالم المجون الذي صاحب حفلاتهم، ففي كثير من التسجيلات يسكر الحاضرون ويتفاعلون مع الأغاني في تجرد من كل ضوابط المجتمع كما تظهر بعض تسجيلات فرقة “بنات شمامة” في أغنيتهم “دير الخمر في الكأس”.
[c5ab_audio c5_helper_title=”” c5_title=”” url=”https://soundcloud.com/ma3azef/nvogaa7ffjem/s-Lgs2Z” ]
الشيخ عفريت .. صوت الموسيقى التونسية في العالم
“أيسيرين إسرائيل روزيو” تونسي من أصل يهودي، ينحدر والده سلام روزيو من بلدة مغيرة بالمغرب، وأمه ستوري خلفون وكانت قد اشتغلت في الغناء، سكن بحارة المغاربة وحارة الشرف بالحفصية بتونس العاصمة ثم انتقل إلى حومة الوز ثم سيدي بوحديد ثم سيدي مردوم، ثم باب قرطاجنّة، وحلق الوادي في فصل الصيف.
بعد رحيل والده إلى مسقط رأسه في المغرب، اشتغل إيسيرين إسرائيل روزيو، كما الكثير من أقرانه في تلك الأيام، في مطاحن القهوة حتى يساعد أمه على مجابهة الفقر المدقع، ويتمكن من توفير نفقات متطلبات حياته، ومتطلبات زوجته خصوصًا مع فقر والدته الشديد.
يرجع لقب “الشيخ عفريت” إلى مرور الموسيقي إبراهيم التبسي، أبرز الموسيقيين التونسيين، يومًا عليه خلال عمله في أحد مطاحن القهوة وسمعه يغني فقال معجبًا: “ملا عفريت هالولد!”. ومنذ ذلك الوقت دأب الجميع على تلقيبه بالعفريت.
على يد إبراهيم التبسي، تعلم إيسيرين العزف على آلة الطار، ومر عليه أساتذة المالوف والموسيقى أمثال سوسو ليفي، فلقبوه بالشيخ نظرًا لموهبته الكبيرة و تفرّد خاماته الصوتية وقدرته الفائقة على الارتجال.
يظهر النفس الحِكَمي والحس الفلسفي في كثير من أغاني الشيخ العفريت، وقدرته على تطويع صوته مع القرار والجواب والانتقال المقامي، وقدرته على التفاعل مع بقية أفراد فرقته الموسيقية وقدرته على تطويع صوته مع القرار والجواب والانتقال المقامي. يظهر في التسجيل أيضًا حجم التفاعل مع بقية أفراد فرقته الموسيقية.
من أبرز أغاني “الشيخ عفريت” “الأيام كيف الريح في البريمة”، والتي يظهر من خلالها الحس الفلسفي المتجذر في الثقافة التونسية، حيث يتألم العفريت لمرور الأيام وخفتها التي لا تحتمل فيما يُمني نفسه بأن يكون قادرًا على مزيد من الصبر ورباطة الجأش.
اعترافًا له بمكانته الموسيقية، دُعي الشيخ العفريت إلى المؤتمر الأول للموسيقى العربية بالقاهرة العام ١٩٣٢، ليأخذ مكانه بين عمالقة الموسيقى العربية كمحمد القبانجي ودرويش الحريري وزكي أفندي مراد – الذي أثنى على صوت الشيخ وأدائه – الرعيل الثاني للموسيقى العربية بعد المنيلاوي وعبده الحامولي وصالح عبد الحي وسلامة حجازي وسيد درويش وغيرهم.